أسطوانة أبي لبابة-21-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
أسطوانة أبي لبابة-21-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عليه وآلهِ صلاتُه وسلامُه وبركاتُه.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الكرام:
من زارَ مسجدَ النبيِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-وجاءَ إلى الروضةِ الشريفةِ، فإنه سيرى عمودًا قد كُتبَ عليه: "أُسطوانةُ أبي لبابةَ وتُعرفُ بالتوبةِ"، فما هي قصةُ هذه الأسطوانةِ؟، ومن هو أبو لبابةَ الذي خلَّدَ اللهُ ذِكرَه؟
في السنةِ الخامسةِ من الهجرةِ وبعدَ انصرافِ الأحزابِ عن المدينةِ في غزوةِ الخندقِ، حاصرَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-يهودَ بني قريظةَ خمسًا وعشرينَ ليلةً وذلك لخيانتِهم ونقضِهم العهدَ، ثم إنهم بعثوا إلى رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-أن ابعثْ إلينا أبا لبابةَ ابنَ عبدِ المنذرِ-رضي الله عنه-وكانَ من حلفاءِ الأوسِ-ابعثه إلينا نستشيرُه في أمرِنا، فأرسلَه-عليهِ وآلهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-إليهم، فلما رأوه قامَ إليه الرجالُ وجهَشَ إليه النساءُ والصبيانُ يبكون في وجهِه فَرَقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابةَ أتَرى أن ننزلَ على حكمِ محمدٍ؟، قالَ: نعم، وأشارَ بيدِه إلى حلقِه-يعني أَن جزاءَهم الذبحُ-، قالَ أبو لبابةَ: فو اللهِ ما زالت قدمايَ من مكانِهما حتى عرفتُ أني قد خنتُ اللهَ ورسولَه، فأنزلَ اللهُ-تعالى-على رسولِه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ".
ثم انطلقَ أبو لبابةَ على وجهِه ولم يأتِ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-حتى رُبِطَ في المسجدِ إلى عمودٍ-جذعِ نخلةٍ-فيه، وقال: لا أبرحُ مكاني هذا حتى يتوبَ اللهُ عليَّ مما صنعتُ، وأعاهدُ اللهَ ألا أطأَ بني قريظةَ أبدًا، ولا أُرى في بلدٍ خنتَ اللهَ ورسولَه فيه أبدًا، فلما بلغَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-خبرَه وكان قد استبطأه، قالَ: أما إنه لو جاءني لاستغفرتُ له، فأما إذ فعلَ ما فعلَ فما أنا بالذي يطلقُه من مكانِه حتى يتوبَ اللهُ عليه، فأقامَ أبو لبابةَ مربوطًا بالجذعِ ستَ ليالٍ تأتيه امرأتُه في وقتِ الصلاةِ فتحلُه للصلاةِ ثم يعودُ فيُربط في بالجذعِ.
ثم نزلتْ توبةُ أبي لبابةَ على رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-وهو في بيتِ أمِنا أمِ سلمةَ-عليها الصلاةُ والسلامُ والرضوانُ-، قالتْ أمُنا أمُ سلمةَ: فسمعتُ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-يضحكُ في السَحَرِ-آخرِ الليلِ-، قالتْ: فقلتُ له: ممَ تضحكُ أضحكَ اللهُ سنَك؟، قال: تِيبَ على أبي لبابةَ وكان قد أُنزلَ عليه قولُه-تعالى-: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"، قالتْ، فقلتُ: أفلا أبشرُه يا رسولَ اللهِ؟، قال: بلى إن شئتِ، قالَ: فقامتْ على بابِ حُجرتِها وذلك قبلَ أن يُضربَ عَلَيْهِنَّ الحجابُ، فقالتْ: يا أبا لبابةَ، أبشر، فقد تابَ اللهُ عليك، قالتْ: فثارَ الناسُ إليه لِيطلِقوه، فقالَ: لا واللهِ حتى يكونَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَ-هو الذي يُطلقُني فلما مرَّ عليه خارجًا إلى الصبحِ أطلقَه"، فها هو العمودُ ما زالَ موجودًا، تخليدًا لهذه التوبةِ العظيمةِ من ذلك الرجلِ المؤمنِ.
إخواني "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ" كثيرُ الخطأ، ولكن كيف يتعاملُ النَّاسُ مع المعصية؟
منهم من يشعرُ بالفرحِ بالمعصيةِ، والانتصارِ بالحصولِ عليها، والنشوةِ بتذكرِها، وتمني فعلِها مرةً بعد مرةٍ، وهو مع ذلك يتقلبُ في نعمِ اللهِ-تعالى-، لا تنفعُه موعظةُ الناصحين، ولا يردعُه هلاكُ العاصين، ويصدقُ عليه:
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلى الذُّنُوبِ وتَرتَجي*فَوْزَ الجِنَانِ ونَيْلَ أَجْرِ العَابِدِ
ونَسِـيتَ أنَّ اللهَ أَخْـرجَ آدَمًا*مِنْهَا إِلىَ الدُنْيَا بِذَنْبٍ واحِـدِ
ومن الناسِ من يقعُ في المعصيةِ، ثم يَعْقُبُها ندمٌ يُقَّطِّعُ القلوبَ، ودموعٌ تُحْرقُ الجفونَ، همٌ وقلقٌ، سهرٌ وأرقٌ، يذكرون نِعَمَ اللهِ عليهم التي لا تُحصى، ويذكرونَ مقامَهم بينِ يدّي خالقِهم يومَ القيامةِ لو ماتوا على تلك المعاصي، فيتوبون ويستغفرون، قالَ اللهَ-عزَ وجلَ-عنهم: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
ومنهم من قد أسرَه الشيطانُ، وزيّنَ له العِصيانَ، فتارةً يُقَنِّطُه من مغفرةِ الرحمنِ، وتارةً يذكِّرُه بطولِ الزمانِ، ومع ذلك فإن له نفسٌ لوَّامةٌ، تُعاتِبُه كثيرًا، وواعظُ اللهِ في قلبِه يناديه: يا عبدَ اللهِ إلى أينَ تذهبُ؟ ومِمَنْ تفرُ؟، أتعصي الذي خلقَك؟ وسوَّاكَ فعَدَلَك، ألا تستحي ممن يرى مكانَك، ويسمعُ كلامَك؟ إن اللهَ يدعوكَ بأرقِ دعاءٍ، وأجملِ نداءٍ، "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، فهو في صراعٌ نفسيٌ، هل يختارُ ما في الدنيا من لذةِ الشهواتِ؟، أو يختارُ ما أعدَه اللهُ-تعالى-لمن أطاعَه من جناتٍ؟، فتوبةُ هذا قريبةٌ، فقد تكونُ كلمةٌ أو آيةٌ أو موعظةٌ أو حادثةٌ، يفتحُ اللهُ-تعالى-بها أقفالَ القلوبِ، وينفضُ عنها غبارَ الذنوبِ، "أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ" كانَ الفضيلُ بنُ عياضٍ يقطعُ الطريقَ، وكان سببُ توبتِه أنه عَشِقَ جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدرانَ إليها، إذ سمعَ الإمَامَ الشافعيَ-رحمهما الله-تعالى-يتلو في صلاة الفجرِ: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ"، فلما سمعَها، قالَ: بلى يا ربِ قد آن، فرجعَ وقد تابَ ثم أصبحَ عابدًا لله في المسجدِ الحرامِ بقيةَ عمرِه.
أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فيا إخواني: يقولُ-تعالى-: "مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا"، فكيف هو شعورُ من علمَ أن اللهَ-تعالى-غنيٌ عن خلقِه، لا تضرُه معصيةُ العاصينَ، ولا تنفعُه طاعةُ الطائعينَ، لو أن أولَ الناسِ وآخرَهم، وإنسَهم وجنَهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم ما زاد ذلك في ملكِه شيئًا، ولو كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم ما نقصَ ذلك من ملكِه شيئًا، ومع ذلك فإنه يفرحُ بتوبةِ عبدِه فرحًا عظيمًا، ويُجازيه بخيرٍ مما قدَّمَ "إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلةً"، فهل رأيتُم كرمًا كهذا، وفضلًا كهذا.
هل تخيَّلتُم تلك اليدَ المبسوطةَ ليلًا ونهارًا للتائبينَ؟، "إنَّ الله-تَعَالَى-يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها"، فمَنْ يمدُ يدَه معاهِدًا للهِ-تعالى-بتوبةٍ صادقةٍ من قلبٍ نادمٍ قبل اللهُ توبتَه.
التائبُ لا يبدأُ حياتَه من جديدٍ، بل يبدأُ من حيثُ انتهى، فتلكَ الجبالُ السودُ من المعاصي يبدُلها اللهُ-تعالى-إلى جبالٍ بيضاءَ من الحسناتِ، قال-تعالى-: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"، فاغتنموا يا عبادَ اللهِ الأوقاتِ، وبدِّلوا سيئاتِكم بالحسناتِ، وإياكُم وطولَ الأملِ، فإنكم لا تعلمونَ متى الأجلِ.
لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُ السماواتِ وربُ الأرضِ وربُ العرشِ الكريمِ، لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَك إنَّا كنا من الظالمينَ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ، وأصلحْ بطانتَهم، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اهدنا والمسلمين لأحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا وعنهم سيئها، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، نسألُك لنا ولهم من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ، اللهمَ اسقنا وأغثنا(ثلاثًا).
اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ وأنبياءِ ورسلِه وآلِهِ وصحبِهِ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1614848593_أسطوانة أبي لبابة-21-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1614848602_أسطوانة أبي لبابة-21-7-1442هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf