أسطوانة أبي لبابة
هلال الهاجري
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولِه القائلُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ)، اللهم صلِ وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أما بعد:
من زارَ منكم مسجدَ النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وجاءَ إلى الروضةِ الشريفةِ، فإنه سيرى عموداً قد كُتبَ عليه (أسطوانةُ أبي لبابةَ وتُعرفُ بالتوبةِ)، فما هي قصةُ هذه الأسطوانةِ؟، ومن هو أبو لبابةَ الذي خلَّدَ اللهُ ذِكرَه؟.
في السنةِ الخامسةِ من الهجرةِ وبعدَ انصرافِ الأحزابِ عن المدينةِ في غزوةِالخندقِ، حاصرَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يهودَ بني قريظةَ خمساً وعشرينَ ليلةً وذلك لخيانتِهم ونقضِهم العهدَ، ثم إنهم بعثوا إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أن ابعثْ إلينا أبا لبابةَ بنَ عبدِ المنذرِ وكانوا حلفاءَ الأوسِ نستشيرُه في أمرِنا فأرسلَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم، فلما رأوه قامَ إليه الرجالُ وجهَشَ إليه النساءُ والصبيانُ يبكون في وجهِه فَرَقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابةَ أتَرى أن ننزلَ على حكمِ محمدٍ؟، قالَ: نعم، وأشارَ بيدِه على حلقِه إنه الذبحُ، قالَ أبو لبابةَ: فواللهِ ما زالت قدمايَ من مكانِهما حتى عرفتُ أني قد خنتُ اللهَ ورسولَه، فأنزلَ اللهُ تعالى على رسولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
ثم انطلقَ أبو لبابةَ على وجهِه ولم يأتِ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ حتى ارتبطَ في المسجدِ إلى عمودٍ فيه، وقال: لا أبرحُ مكاني هذا حتى يتوبَ اللهُ عليَّ مما صنعتُ، وأعاهدُ اللهَ ألا أطأَ بني قريظةَ أبداً، ولا أُرى في بلدٍ خنتَ اللهَ ورسولَه فيه أبداً، فلما بلغَ رسولُ اللهِ خبرَه وكان قد استبطأه، قالَ: أما إنه لو جاءني لاستغفرتُ له، فأما إذ فعلَ ما فعلَ فما أنا بالذي يطلقُه من مكانِه حتى يتوبَ اللهُ عليه، فأقامَ أبو لبابةَ مرتبطاً بالجذعِ ستَ ليالٍ تأتيه امرأتُه في كلِ وقتِ الصلاةِ فتحلُه للصلاةِ ثم يعودُ فيرتبطُ بالجذعِ.
ثم نزلتْ توبةُ أبي لبابةَ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وهو في بيتِ أمِ سلمةَ رضيَ اللهُ عنها، قالتْ أمُ سلمةَ: فسمعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ من السَحَرِ وهو يضحكُ، قالتْ، فقلتُ له: مما تضحكُ أضحكَ اللهُ سنَك؟، قال: تِيبَ على أبي لبابةَ وكان قد أُنزلَ عليه قولُه تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، قالتْ، فقلتُ: أفلا أبشرُه يا رسولَ اللهِ؟، قال: بلى إن شئتِ، قالَ: فقامتْ على بابِ حجرتِها وذلك قبلَ أن يُضربَ عَلَيْهِنَّ الحجابُ، فقالتْ: يا أبا لبابةَ، أبشر، فقد تابَ اللهُ عليك،قالتْ: فثارَ الناسُ إليه لِيطلِقوه، فقالَ: لا واللهِ حتى يكونَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ هو الذي يُطلقُني فلما مرَّ عليه خارجاً إلى الصبحِ أطلقَه .. فها هو العمودُ لا زالَ موجوداً، تخليداً لهذه التوبةِ العظيمةِ من ذلك الرجلِ المؤمنِ.
أيها الأحبة..(كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ) أي كثيرُ الخطأ، ولكن كيف يتعاملُ النَّاسُ مع المعصية؟.
منهم من يشعرُ بالفرحِ بالمعصيةِ، والانتصارِ بتحصيلِها، والنشوةِ بتذكرِها، وتمني مواقعتِها مرةً بعد مرةٍ، وهو مع ذلك يتقلبُ في نعمِ اللهِ تعالى، لا تنفعُه موعظةُ الناصحين، ولا يردعُه هلاكُ العاصين، ويصدقُ عليه:
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلى الذُّنُوبِ وتَرتَجي *** فَوْزَ الجِنَانِ ونَيْلَ أَجْرِ العَابِدِ
ونَسِـيتَ أنَّ اللهَ أَخْـرجَ آدَمًا *** مِنْهَا إِلىَ الدُنْيَا بِذَنْبٍ واحِـدِ
ومن الناسِ من يقعُ في المعصيةِ، ثم يعقبُها ندمٌ يقطِّعُ القلوبَ، ودموعٌ تحرقُ الجفونَ، همٌ وقلقٌ، سهرٌ وأرقٌ، يذكرون نِعَمَ اللهِ عليهم التي لا تُحصى، ويذكرونَ مقامَهم بينِ يدّي خالقِهم يومَ القيامةِ لو ماتوا على تلك المعاصي، فيتوبون ويستغفرون، وعن الذنوبِ يُقلِعون،كما قالَ عزَ وجلَ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ومنهم من قد أسرَه الشيطانُ، وزيّنَ له العِصيانَ، فتارةً يُقَنِّطُه من مغفرةِ الرحمانِ، وتارةً يذكِّرُه بطولِ الزمانِ، ومع ذلك فإن له نفسٌ لوَّامةٌ، تُعاتِبُه كثيراً، وواعظُ اللهِ في قلبِه يناديه: يا عبدَ اللهِ إلى أينَ تذهبُ؟، ومِمَنْ تفرُ؟، أتعصي الذي خلقَك؟، وسوَّاكَ فعَدَلَك، ألا تستحي ممن يرى مكانَك، ويسمعُ كلامَك؟،إن اللهَ يدعوكَ بأرقِ دعاءٍ، وأجملِ نداءٍ، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فهو في صراعٌ نفسيٌ، هل يختارُ ما في الدنيا من لذةِ الشهواتِ؟، أو يختارُ ما أعدَه اللهُ تعالى لمن أطاعَه من جناتٍ؟، فتوبةُ هذا قريبةٌ، فقد تكونُ كلمةٌ أو آيةٌ أو موعظةٌ أو حادثةٌ، يفتحُ اللهُ تعالى بها أقفالَ القلوبِ، وينفضُ عنها غبارَ الذنوبِ، (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) .. كانَ الفضيلُ بنُ عياضٍ يقطعُ الطريقَ، وكان سببُ توبتِه أنه عَشِقَ جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدرانَ إليها، إذ سمعَ تالياً يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، فلما سمعَها، قالَ: بلى ياربِ قد آن، فرجعَ وقد تابَ ثم جاورَ في المسجدِ الحرامِ بقيةَ عمرِه.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، أقولُ قولي هذا واستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الكريمِ الوهّابِ، الغفورِ التوّابِ، أجزلَ للطائعينَ الثوابَ، وأنذرَ العاصين شديدَ العقابِ، يجتبي إليه من يشاءُ، ويهدي إليه من أنابَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنّ نبينا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه خيرَ آلٍ وأكرمَ أصحابٍ، أما بعد:
يا أهلَ الإيمانِ ..يقولُ تعالى: (مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، فكيف هو شعورُ من علمَ أن اللهَ تعالى غنيٌ عن خلقِه، لا تضرُه معصيةُ العاصينَ، ولا تنفعُه طاعةُ الطائعينَ، لو أن أولَ الناسِ وآخرَهم، وإنسَهم وجنَهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم ما زاد ذلك في ملكِه شيئاً، ولو أن أولَ الناسِ وآخرَهم، وإنسَهم وجنَهم، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم ما نقصَ ذلك من ملكِه شيئاً، ومع ذلك فإنه يفرحُ بتوبةِ عبدِه فرحاً عظيماً، ويُجازيه بخيرٍ مما قدَّمَ (إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)، فهل رأيتُم كرماً كهذا، وفضلاً كهذا.
هل تخيَّلتُم تلك اليدَ المبسوطةَ ليلاً ونهاراً للتائبينَ؟، (إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها)، فمَنْ يمدُ يدَه معاهِداً للهِ تعالى بتوبةٍ صادقةٍ من قلبٍ نادمٍ.
هل تعلمونَ أن التائبَ لا يبدأُ حياتَه من جديدٍ، بل يبدأُ من حيثُ انتهى، فتلكَ الجبالُ السودُ من المعاصي يبدُلها اللهُ تعالى إلى جبالٍ بيضاءَ من الحسناتِ، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فاغتنموا يا عبادَ اللهِ الأوقاتِ، وبدِّلوا سيائتِكم بحسناتٍ، وإياكُم وطولَ الأملِ، فإنكم لا تعلمونَ متى الأجلِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، نَسْأَلُكَ يا الله أَلاَّ تَدَعَ لَنا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، اللهمَّ علِّمنَا ما ينفعُنا وانفعنَا بِما عَلَّمتَنا، واغفر لَنا وارحمنا يارَبَّ العَالمينَ، اللَّهُمَّ إِنِّنا ظَلمْنا أنفسَنا ظلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوب إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لنا مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَكَ، وَارْحَمْنا إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، ربَّنا آتِنا فِي الدُّنيا حَسَنَةً، وفي الآخرةِ حَسَنَةً، وقِنا عَذابَ النَّارِ.
المرفقات
1614746609_أسطوانة أبي لبابة.docx
1614746616_أسطوانة أبي لبابة.pdf