أسس نجاح الدعوات "3": التدرج . أ.شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1440/02/01 - 2018/10/10 12:44PM

خلال المائتي سنة الماضية، ومنذ دخول الاحتلال الأوروبي بلاد الإسلام وإقصائه للشريعة الإسلامية من حياة المسلمين بالقوة الخشنة تارة والناعمة تارة أخرى، والمصلحون والمخلصون يحاولون استعادة الحكم الإسلامي الراشد بشتى السبل، وعبر هذه السنوات الطويلة قامت عشرات المحاولات لبناء الدولة الإسلامية من جديد واستعادة الهوية المركزية للأمة بعد سلبها، ولكن للأسف لم تكلل هذه المحاولات –رغم كثرتها وإخلاص أصحابها– بالنجاح، لا لكيد وتآمر أعداء الإسلام لإجهاضها فحسب؛ ولكن لأن غالبية هذه المحاولات لم تراعي الأسس الازمة لتحقيق النجاح، وكان الاستعجال هو السمة الغالبة على معظم هذه المحاولات، والتعامل السطحي والفطير مع إشكاليات وأزمات المجتمعات الإسلامية، كلاهما السبب الرئيس لإجهاض تلك الحركات والدعوات المخلصة.

 

فأنّا لواقع ملتبس مليء بالغيوم والمنكرات والمفاسد الراسخة والمتجذرة لسنوات طويلة أن يتغير أو يزول في ليلة وضحاها؟! وأنّا لشعوب نمت وتربت وترعرعت في بيئة بعيدة عن الإسلام الصحيح أن تنسلخ فجأة من كل إرثها التقليدي وطقوسها الشعبية ومعتقداتها البالية؟!

 

واليوم سوف نتكلم عن واحدة من أهم أسس نجاح الدعوات ألا وهي: "التدرج في تبليغ الدعوة" بحيث لا يلقي إلى المدعو بالأوامر والنواهي جملة واحدة؛ وذلك لتتقبل نفسه ما يلقى إليه؛ فلا يجد حرجاً في الأخذ بها وتطبيقها بعد ذلك.

 

فالتدرج سنة كونية، وشرعية؛ لأنها تتوافق والفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فإن طبيعة البشر، تأبى قبول الأحكام جملة واحدة، أو الامتناع عن المحرمات مرة واحدة، وذلك لما ألفته النفس واعتادت عليه من العادات في جاهليتها، واستثقال ما هو جديد من العبادات، لذلك يصعب على النفس ترك ما ألفته من تلك العادات، ويشق عليها تجنب ما اعتادته من الشهوات، دفعة واحدة، لذلك جاءت سنة التدرج الشرعية، موافقة تماماً لسنة الله الكونية.

 

أولاً: التدرج لغة واصطلاحاً

التدرج في اللغة مشتق من فعل "درج" بمعنى المشي والمضي فيه، يُقال: درج الرجل ويدرج دروجًا ودرجانًا؛ أي مشى، ودرج الصبي: أخذ في الحركة، ومشى قليلًا أوّل ما يمشي، ودرَجت الريح: مرت مرًّا هينًا، وأما درَّج بتشديد الراء فمعناها التأنِّي في تناول الشيء أو بلوغه، ودرَّج فلانًا إلى الشيء: أدناه منه قليلًا قليلًا وعوّده إياه، ويُقال: (درَّجه): جعله درجات. والدَّرَجة: المرقاة، والدرجة واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب، ودرجات الجنة منازل أرفع من منازل. وفي القرآن الكريم؛ (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[آل عمران: 163]وقال تعالى: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً)[النساء: 95].

 

أما التدرج في الاصطلاح: الترقي مع المدعوين والجماهير شيئاً فشيئاً في أمور الدين للوصول بهم غايات مقصودة وفق ضوابط الشرع المخصوصة.

 

وقيل أن التدرج هو: الانتقال بالمدعو من الأسهل إلى الأصعب، ومن كلية إلى أخرى، ومن الكليات إلى الجزئيات، ومن الدعوة النظرية إلى الدعوة العملية التطبيقية، ومن الإيمان إلى الأعمال، ومن التوحيد إلى العبادات. والانتقال به في باب المحرمات، من محرم إلى آخر.. ومن تحريم الكبائر إلى تحريم الصغائر، حتى يصل المدعو إلى مرتبة التكيف مع كل توجيه، والانصياع لكل أمر.

 

ثانياً: حكمة التدرج في الدعوة

النفوس البشرية مجبولة على استثقال الأوامر وإيثار الدعة والسكون، وكراهية التكاليف والمشاق، كما جُبلت على حب الشهوات والزينات؛ لذلك راعت نصوص الشريعة أثناء الانتقال بالإنسان من حال الغفلة والتيه والضياع إلى حال اليقظة والهداية والإيمان مبادئ ثلاثة: التهيئة، والقبول، والترسيخ، وهي المبادئ التي تشكل الدعائم الرئيسية للحكمة من فقه التدرج كآلية من أهم آليات نجاح الدعوة.

1 – التهيئة: الدعوة الإسلامية كرسالة من أرقى وأعلى وأهم الرسائل تحتاج إلى تهيئة المستقبلين لسماعها حتى تصلهم الرسالة واضحة دون غبش أو تشويشات أو عوائق داخلية أو خارجية؛ فالحجة لا تقوم على المدعوين إلا بالسماع الصحيح الخالي من العوائق؛ ولذا أمر الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- بإجارة المستجير من المشركين لأن إجارته تهيئة لنفسه للسماع، فقال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة: 6]؛ فأوجب سبحانه كف القتال عمن أظهر الرغبة في سماع كلام الله، على الرغم من إباحة دمه كونه مشركاً، ولكن لابد من إعطاء المشركين الفرصة لكي تتهيأ نفوسهم لسماع القرآن ومعرفة هذا الدين، لعل قلوبهم تتفتح وتتلقى وتستجيب، فتزكو تلك القلوب، وتطيب تلك النفوس.

 

والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس إلى المشركين ليسمعهم كلام الله، ويعرضه عليهم، كما في حديثه مع عتبة بن ربيعة، أيضا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- عندما بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة يدعوهم إلى الإسلام يبدأ بتهيئة نفوس مدعويه للسماع، فحينما جاءه كل من زعيمي بني عبد الأشهل، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ -رضي الله عنه- ما كان يبدؤهما بعرض السماع أولا فيقول: "أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكرهه"، وبهذه الملاطفة والعرض المنصف هيأ نفسيهما للسماع، فلما سمعا أسلما، وأسلم أقوامهما.

 

وتأمل موقفه -صلى الله عليه وسلم- مع ثمامة بن أثال -رضي الله عنه- حيث أبقاه -عندما وقع أسيراً بيد المسلمين قبل إسلامه- مربوطًا في سارية في المسجد ثلاثة أيام، وقد أكرمه -صلى الله عليه وسلم- غاية الإكرام ثم منّ عليه، فكان لهذا التعامل أثره في تهيئة نفسه لسماع القرآن، ورؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة تعامله مع أصحابه، فانقلب بغضه للرسول -صلى الله عليه وسلم- حبًّا في ساعة واحدة.

 

ومما كان يهيئ به -صلى الله عليه وسلم- النفوس للسماع الترحيب بالقادم والتلطف معه وتأنيسه والثناء عليه كما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع وفد عبد القيس، حيث أثنى عليهم وأخبر أنهم خير أهل المشرق، فاستقبلهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبشرهم بذلك، ثم بعد وصولهم رحب بهم -صلى الله عليه وسلم- حيث قال لهم: "مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى " فدل ذلك على أن الاهتمام بالمدعوين مدخل طبيعي إلى نفوسهم وله أثره في تلقي النفوس للحق وقبوله، وبالتدرج في الدعوة تظهر أهمية مراعاة العوامل النفسية لدى المدعوين، وبهذا الاهتمام وتلك المراعاة تتهيأ نفوسهم لسماع الحق ومن ثَمَّ قبوله.

 

2 – القبول: كثير من النفوس البشرية توصف بكونها نفس عصية لا تنقاد بسهولة ولا تقبل الاقتناع والقبول مباشرة بما تسمع وتتلقى، والنفوس المستمعة أصناف، منها المعرض الممتنع، ومنها من سمع ولم يفقه مضمون الرسالة، ومنها من فقه ولم يقبل، ومنها من سمع وفهم واقتنع، وهذا الأخير هو المعني بالدعوة، وهو من الذين تتهيأ نفوسهم للقبول، وقد ذكرهم الله بقوله: (َإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)[المائدة 83]، وبشرهم وأثنى عليهم بقوله سبحانه (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[الزمر: 17 - 18]، وبشرهم -صلى الله عليه وسلم- وأثنى عليهم بقوله: "نضّر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"؛ هذا الصنف المستمع سماع الفهم والقبول هم الذين تدرج الشارع في دعوتهم؛ فكانت التشريعات الإلهية والتوجيهات النبوية تتدرج في تهيئة نفوسهم للقبول شيئًا فشيئًا.

 

ومن أوضح الآثار في مسألة التدرج ما روي عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "إنما نزل أول ما نزل منه -أي القرآن- سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا".

وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف. ويفهم من هذا أن عدم التدرج لا يؤدي إلى القبول بل يؤدي إلى نقيضه وهو النفور والكراهية، وقد أشار الشنقيطي -رحمه الله- إلى هذا المعنى بقوله: "إن الله -تبارك وتعالى- لعظم حكمته في التشريع إذا أراد أن يشرع أمرًا شاقًّا على النفوس كان تشريعه له على سبيل التدرج؛ لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدرج فيه مشقة عظيمة على الذين كلفوا به".

 

3 –الترسيخ: وهو الغاية الأهم من التدرج في دعوة الناس، فعملية القبول والاقتناع قد يعتريها الكثير من العوارض القادحة والمزعزعة لبقائه، ومن ثم يحتاج الداعية لمواصلة التدرج في دعوة الناس حتى تتشرب قلوبهم بالمعاني الإيمانية اللازمة وتصبح راسخة في نفوسهم وقلوبهم.

 

ومن أهم وسائل الترسيخ مداومة الفعل وبقائه واستمراره، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء: 66].

 

لأن العمل وإتيان الأمور الموعوظ بها في الدين يزيد العامل قوة وثباتًا؛ فالأعمال هي التي تطبع الأخلاق في النفوس، وتبدد المخاوف والأوهام من القلوب، ولا يكون ذلك إلا بالتدرج، ذلك أن العبد القائم بما أمر به لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها، ويشتاق إليها وإلى أمثالها؛ فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات، بل ينتهي به الأمر عادة إلى طلب المزيد، فتنفتح أفاق العبودية فيحلق العبد في رحابها بشتى أنواع العبادة وهو عين مرضات الرب -جلّ في علاه-.

 

بل إن الرسوخ على الطاعات يدعوه إلى أن يجود بنفسه حين يجد أنه قد تجاوز تلك الأوامر الشرعية وارتكب ما يوجب حدًّا من حدود الله، روى البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري: "أن رجلًا من أسلم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثه أنه قد زنى، فشهد على نفسه أربع شهادات، فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجم"؛ فانظر كيف أدّى به هذا الثبات إلى الإصرار على طلب التطهير بإقامة الحد عليه، ولم يرجع عن إقراره مع إمكان الرجوع. وفي هذا الباب أيضا ما رواه أصحاب السنن عن عمر -رضي الله عنه- قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: "اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في البقرة، فدعي عمر فقرئت عليه فقال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)[النساء: 43]؛ فدعي فقرئت عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة: 91]؛ قال عمر: انتهينا، انتهينا".

 

ثالثاً: مجالات التدرج

حقائق الدين كثيرة وأحكامه متعددة، والداعية الحكيم يتدرج بتبليغ الناس بقدر ما يحتاجون إليه أول الأمر، مراعياً حال المدعو: هل هو حديث عهد بالإسلام؟ وهل يستطيع أن يتحمل ما يلقى إليه من البلاغ كله أو بعضه؟! الخ ذلك أن من أقبل على هذا الدين حديثا لابد أن يجزأ له البلاغ: فيبلغه الداعية بما يكون به الإنسان مسلماً أول الأمر، ثم الأهم فالمهم، والأيسر فاليسير من أحكام الشريعة.

أما الذي ابتعد عن الدين سنوات وسنوات، فلا يستطيع أن يتحمل التكاليف كلها جملةً واحدةً، فلابد من التدرج معه أيضا. ونجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد اتبع التدرج في مقدار البلاغ، وذلك بوصيته لمعاذ بن جبل حين بعثه الى اليمن، فقد حدد له بأي شيء يبدأ، وكيف يبلغ؟ فأوصاه بقوله:

"إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم الى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فان هم أطاعوا لك، فاخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في كل يوم وليلة. فان هم أطاعوا بذلك، فاخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فان هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعـوة المظلوم؛ فانه ليس بينها وبين الله حجاب".

 

ويوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "فكذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلاّ ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه، ويؤمر بها كلها، كذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم؛ فانه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءاً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله الى وقت الإمكان".

 

أولاً: التدرج في الوسائل

والمتأمل في سيرته -صلى الله عليه وسلم- العطرة يتبين له أن وسائله عليه الصلاة والسلام في تبليغ الدعوة وحمايتها قد جاءت متدرجة كأنها حلقات في سلسلة، كل حلقة تقود إلى التي تليها فأظهرت لنا هذه الوسائل طبيعة التدرج في السير خطوة خطوة، فبدأ -صلى الله عليه وسلم- دعوته بالقول والنصح والإرشاد بأسلوب الضغط المنخفض الهادئ، واستمرت هذه الوسيلة طيلة العهد المكي، ثم لما هاجر -صلى الله عليه وسلم- حيث الجماعة المسلمة وأقام دولة الإسلام تحول من الدعوة بالقول واللسان إلى الدعوة بالقول والسنان، واتخذ وسيلة أخرى لحماية هذه الجماعة وتلك الدولة وهي السرايا والغزوات، اتخذها -صلى الله عليه وسلم- للدفاع عن الدعوة وحمايتها من المعتدين، ثم بعد أن هادن العدو في الحديبية اتخذ وسيلة بلاغية وهي الكتب والرسائل، اتخذها لتبليغ الدعوة إلى العالم الخارجي، ثم كانت آخر وسائله -صلى الله عليه وسلم- بعث البعوث ليقوموا بمهمة البلاغ والتعليم.

 

ثانياً: التدرج في المدعوين

في سيرته -صلى الله عليه وسلم- تبياناً لكل شيء، فحياته -صلى الله عليه وسلم- كانت الإنزال العملي والتطبيق الفعلي لنصوص الشريعة. لذلك توجب على كل داعية أن يبدأ خطته الدعوية من واقع دراسة مستفيضة وعناية فائقة للسيرة النبوية المطهرة.

 

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بدأ دعوته المباركة بالأقربين من أهله وأصدقائه والدائرة الضيقة المحيطة به، وهذا أمر طبيعي ووحي قرآني، فقد حثّ الله -تعالى- في كتابه الكريم على دعوة الأهل، وخصهم بذلك في أكثر من موضع فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6](1). قال ابن كثير -رحمه الله -في تفسيرها: "قال الضحّاك ومقاتل: حق المسلم أن يعلِّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه"؛ وقال تعالى آمرا نبيه -صلى الله عليه وسلم- (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132].

 

فأول واجبات الداعية أن يبدأ بدعوة أهله، وهذا ما فعله عليه الصلاة والسلام، فقد ابتدأ بعرض الدعوة على زوجته خديجة فقص عليها ما رأى من بدء الوحي، ثم قال: لقد خشيت على نفسي، فكان لها السبق في الاستجابة لدعوته، وتأنيسه وتيسير الأمر عليه وتهوينه لديه، مما دل على كمالها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها، -رضي الله عنها-، وعرض دعوته على صديقه أبي بكر -رضي الله عنه- فآمن به.

 

ثم انتقل بالدعوة والبلاغ إلى عشيرته وأهله، ثم القبائل العربية من حوله، ثم رسائله ووفوده بعد ذلك لملوك الأرض وحكامها وذلك بعد أن أقام دولة الإسلام في المدينة، وذلك في العام السابع من الهجرة، فتأخر بلاغهم كل هذه السنوات حتى تتسع دائرة الدعوة بداية من الأقرب فالأقرب وهكذا.

 

هل نُسخ التدرج؟

قد يقول قائل: إن التدرج كان قبل نزول الأحكام، وفرض العبادات، وقد تمت الأحكام، وفرضت العبادات، فلا تدرج اليوم.

 

وهذا جهل كبير بطبيعة التدرج، فالتدرج منهج مرحلي، وطريقة دعوية، لا تنسخ كأحكام الحلال والحرام المعرضة للنسخ. كما إنه لا دليل على نسخ التدرج لمن يحتاجه، ودعوى تمام الشريعة لا تتعارض مع بقاء سنة التدرج في بعض الأحوال، ومع بعض الأعيان، بل لو قيل: إن من تمام الشريعة، وكمالها، وجمالها بقاء سنة التدرج لكان صحيحاً، وذلك ليتناسب هذا الدين وأحوال الناس كافة، ولو سُلِم بأن التدرج منسوخ فكيف ستعامل هذه الشعوب المسلمة التي خرجت مما وقع فيها من الفتن، مثل الشعوب التي كانت واقعة تحت الاحتلال الشيوعي، وهي لا تعلم عن دينها شيئا، أتريدون أن نلقي عليهم الإسلام جملة واحدة حتى ينفروا؟

 

والخلاصة: أن التدرج كان لعلة، فإذا زالت زال، وإذا وجدت وجد. وعلته: وجود مجتمعات جاهلية تدعى إلى الإسلام. أو: وجود مسلمين حديثي عهد بجاهلية.

 

ووجود هذه الأصناف -وهي علة التدرج- ما زالت قائمة، وستبقى إلى يوم القيامة، وببقائها تبقى سنة التدرج، لذلك يشرع في حق هؤلاء التدرج؛ ولو بعد ثبوت الأحكام الشرعية. قال ابن تيمية: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله، من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة، فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين و بآية".

 

ولكن يبقى أن نقرر حقيقة هامة يزول بها الالتباس الناشئ عند البعض: أن إثبات فقه التدرج في منهج الدعوة؛ لا يعني: إسقاط الواجبات، أو إباحة المحرمات. فالواجب واجب إلى قيام الساعة، والمحرم محرم إلى قيام الساعة. فمن عرف الحرام وواطأه، أثم، ومن ترك الواجب وهو يعلمه فقد عصى، سواء تُدرج معه أو لم يتدرج.

 

فإن قيل: فكيف يرى الحرام ولا ينكره ؟ قيل: يجوز أن يسكت عنه سكوتاً مؤقتاً إذا كان يعالج ما هو أكبر منه ،أو يمهد لإنكاره.

 

والخلاصة: أن منهجية التدرج في الدعوة إلى الله ما تزال قائمة لم تنسخ، يعمل بها حسب الأحوال، وأن فيها من الحكمة الشيء الكثير، وأن غياب هذه القاعدة من منهج الداعية، فضلاً عما فيه من مخالفة لسنن الله الكونية، وسننه الشرعية، فإن فيه اصطداماً مع واقع ليس من ورائه إلا الفشل، والنفور، فشل الداعية، ونفور المدعوين.

المشاهدات 567 | التعليقات 0