أسس نجاح الدعوات (2) المصداقية .. أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
تكلمنا في المقال الأول -من سلسلة "أسس نجاح الدعوات"- عن الواقعية، وأثرها في نجاح الدعوة؛ خاصة في مراحل تكوينها الأولى وبواكير البدايات التي تحتاج إلى لبنات بناء قوية، تكون بمثابة العمد التي تقوم عليها بناء الدعوة وكيانها بصورة قوية وشامخة في مواجهة بيئة مضطربة شديدة التقلب والاستنفار تجاه أي دعوة إصلاح وخير وهداية.
وفي هذه الحلقة سوف نتكلم عن "المصداقية" كركيزة ودعامة وأساس لا يقوم بناء بدونها، ولا تنجح أي دعوة بغيابها.
أولاً: تعريف المصداقية:
يمكن أن نعرّفها بأنها موافقة القول العمل، أو هي الصدق في القول والفعل والوعد، أو هي مطابقة الواقع والحال والأفعال لمدلولات وحقائق الأقوال، وهي بهذا أسلوب ومفهوم يحيط بكل جوانب العمل، فيحقق له في النهاية أفضل سمعة وأعظم قبول وانتشار لأي كيان أو عمل أو أفراد.
والمصداقية في الحقيقة التزام وسلوك وممارسة، وهي قبل ذلك كله إيمان وقناعات يراد إيصالها للسامعين أو غرسها في المدعوين؛ فلا يصح بحال أن تكون عن عند صاحبها إيمانا مموها يبديها للناس في الظاهر وهو باطنا بها كافر؛ وفي الجملة المصداقية ثروة متراكمة لا يمكن شراؤها بأي ثمن مهما كان، وكل عمل غير صادق أهله هو عمل فاشل لن يدوم طويلا.
ثانياً: أهمية المصداقية في العمل الدعوي
المصداقية في التعامل مع الآخرين هو أهم قواعد العَلاقات الإنسانية على الإطلاق، ولعل هذا هو السر وراء تركيز رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- عليه، وضرورة التمسك به، وتعلق الكثير من أمور الحياة به؛ فعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الصدقَ يهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجلَ ليَصدق حتى يكون صدِّيقًا، وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا".
وكلنا يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قد كتب الله له لسان صدق وخلال حق؛ حتى عرف بين قومه بالصادق الأمين، وحتى رضوا حكمه في أخطر قضاياهم وهو وضع الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة، وقالوا له عندما دعاهم إلى الله: "ما جربنا عليك كذبا"؛ فما زال الصادق دائما حتى بدا صدقه على قسمات وجهه؛ فقال عبد الله بن سلام لما رآه: فلما نظرت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.
وحين قابله أعرابي فسأله عن نفسه فعرّفها له، فقال الأعرابي: أنت الذي يقول عنه قومه إنه كذاب؟ قال: "نعم" قال: "لا والله ما هذا الوجه بوجه كذاب".
ذلك أن الكل رأى فيه الصدق والمصداقية والمطابقة بين مقاله وفعاله وحاله وأعماله؛ فسبقت إليه القلوب قبل الأبدان، ودانت له العقول مع القلوب بالإذعان. وهكذا كان رسل الله وأنبياؤه أجمعون ومن بعدهم الدعاة الصالحون والمؤمنون الصادقون والقدوات المتبعون؛ كما قال خطيب الأنبياء شعيب -عليه السلام-: (وَمَا أُرِيدُ أَن أُخَالِفَكُم إِلى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاحَ مَا استَطَعتُ وَمَا تَوفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ)[هود:88].
ولك أن تتخيل لو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُثر عنه الكذب ولو مرة، أو أنه خان أمانة يوما من دهره، أو أنه خالف قولَه فعلُه، أو سبقه إلى ما يدعو إليه غيرُه، أو خالف يوما من الأيام ما كان يدعو إليه من مكارم الأخلاق كيف يكون حال الناس معه؟! إذا لسقطت دعوته من جذورها، وانفض الناس جميعا من حوله؛ فالصدق والالتزام أهم بكثير من الكلام المنمق والإطلالات الجذابة الخلابة الكذابة.
فبغياب المصداقية يتحول كل جهد مبذول إلى هباء منثور؛ فالداعية والقدوة حيث كان إنما هو في الحقيقة تاجر يعرض سلعة، فإذا لم يجد الناس المصداقية فيه وفي سلعته لم يقبلوا عليه ولا عليها، وسرعان ما ينفضون عنه وعنها؛ فتكسد سلعته، وتخسر صفقته، وتبور تجارته وتسقط دعوته.
ثالثاً: عوامل المصداقية الدعوية
المصداقية ليست حالة خاصة تنتاب الدعاة حال ممارستهم العمل الدعوي أو الخيري فحسب؛ بل هي حالة عامة وممتدة لتشمل جميع شئونه وأحواله ومقاماته وأزمانه؛ فالمصداقية ليست دعوة ولا انتقائية؛ بل المصداقية منهج حياة، وحتى تكون الممارسة الدعوية ذات المصداقية فإن لها مجموعة من المواصفات التي ينبغي أن تتَّصف بها؛ لكي تتحقق فيها المصداقية، ومنها:
1- صدق المقام: بحيث يكونُ فيه الولاءُ للقضيَّة التي يؤمنُ بها جميعُ الأطراف، والانتصار لها من أولويات العمل؛ فكم وكم قال العلماء العاملون من الرعيل الأول: "إذا صحَّ الحديثُ فخذوا به، ودعوا قولي" ومن منا لم يسمع بهذا الكلام؟ كلنا سمع، وكلنا نتحدث به، ولكن المصيبةَ في التطبيق.
فحين يتبنَّى الداعية فكرةً أو سلوكًا ويأتيه آخرون بالدليل يبدأ عند تلك النقطة التأويل، وتغليب المصلحة الشخصية ولَيِّ أعناق النصوص والأدلة، والتكلم بفلسفة ربما لا نعيها نحن أنفسنا قبل الآخرين؛ كل ذلك من أجل الانتصار لتلك النفس الأمارة بالسوء؛ فمن صدقِ العمل الاعترافُ بضعف الإنسان أمام المغريات، قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)[يوسف:53].
2 - الإخلاص: يجمع الدعاة العلم ويُحرزون الكلمات؛ ليؤدوها أداء جميلاً آسراً على الناس، ولكن يهمل بعضهم صبغ تلك الألفاظ بصبغة الإخلاص لله -تعالى-، والتجرد من الحظوظ النفسية والدنيوية؛ التي تعكر المسار، وتصرف الناس عن الهدف الدعوي؛ فيكثر الداعية الكلام، وتتقلب صوره على الفضائيات، ولكن دون جدوى!! يحس الناس منه قصد الشهرة أو الفوقية أو التعالي بالألفاظ أو الحديث عن النفس كثيراً أو محاباة السلاطين؛ فيشعرون بانعدام جذور الإخلاص لديه، وأن ألفاظه ألفاظ دنيوية خرجت من نبع الشهرة وليست ألفاظاً أخروية خرجت من نبع القرآن والحب لله -تعالى-! عندها يحس المتلقي أن تلك الألفاظ كالجلاميد الحادة، وليست كالأنداء اللطيفة، وأنها لا تغير من حياته شيئاً ولا تزيد إيمانه، ولا توقف تفكيره؛ بل يحرص على تجاوزها حينئذ؛ لأنه لا بركة في عمل بلا إخلاص، ولا أثر لمحاضرة أو درس ما ابتغى صاحبها إلا تسويق نفسه، وليس تسويق الإسلام، وخدمة قضاياه الدعوية والفكرية، قال تعالى: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من يسمع يسمع الله به، ومن يرائي رائي الله به".
3 - الشفافية: وهي أن يتصرف الداعية مع المدعوين وكأنه كأس من زجاج يُرى السائل الذي فيه من خلاله، وبالمعنى الفكري: هو مساعدة الآخرين على فهم واستشراف التوجه الذهني والعمل للفرد؛ بحيث لا يضطرون للتفسير السلبي، أو الفهم السيء على الأقل لأي تصرف يبدر منه؛ لأن التفسير السيء سيضر بالنتيجة بالطرفين؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مع إحدى نسائه، فمرَّ به رجل فدعاه، فجاء فقال: "يا فلان، هذه زوجتي فلانة"، فقال: يا رسول الله، من كنت أظن به، فلم أكن أظنُّ بك! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرَى الدم".
4 - خطاب الشفقة والرحمة: كثير من الدعاة يعتمد خطابا شديد اللهجة، قاسي العبارات في التعامل مع الآخرين؛ بحجة زجر العصاة وتخويف المفرطين والمقصرين، والحق أن هذه الطريقة قد تنفع مع البعض، ولكنها لا تجدي نفعاً مع عموم الناس، واعتماد الخطاب الرحيم الشفيق يؤتي ثماراً كثيرة، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)[آلعمران:159].
والخطاب الشفيق نعني به الجمل التي توحي للناس بالرحمة والاهتمام وحسن الرعاية، وتتجاوز أساليب العنف والقسوة والصلف؛ التي قد يتورط فيها بعض الدعاة؛ بدعوى الغَيرة على الإسلام أو المنهج الصارم، أو التربية الجادة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك كله؛ لانعدام الفقه وجفاء الحكمة وغياب الوعي!.
والجمل الشفيقة لا تعني الإهمال، أو ترك الجد والحزم؛ بل إنها رسائل وقوالب حانية، مستوعبة لكل القضايا الجادة، والمناهج التربوية الرصينة، ولكنها تحسس المستمعين بمحبة الداعية لهم واتصاله بهم وإحساسه بقضاياهم، بل عايشها وحملها بكل مصداقية واعتناء؛ كما قال تعالى في وصف رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)[الكهف:6]؛ أي تكاد تقتل نفسك غما على عدم استجابتهم وإعراضهم عنك.
وكما قال مؤمن آل فرعون: (فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا)[غافر:29]؛ فأشرك نفسه معهم في البأس المحتوم على وجه الإشفاق والخوف عليهم.
5- قبول النصيحة: من أهم عوامل المصداقية الدعوية استعداد الداعية لقبول النصح، واتساع صدره للنقد والمراجعة؛ من كبير أو صغير، رجل أو امرأة، وزير أو خفير. ولكن مع مراعاة اختلاف الناس في قبول النصيحة؛ فليس كل الناس يقبلون النصيحة بطريقة واحدة، ما يعني: أن يفهم الداعية طبائع الآخرين، وعلى ضوئها يتصرَّفُ؛ فمن هم من يَتقبَّل النصيحة المباشرة وباللين. ومنهم من لا ينفع معهم النصح المباشر والصريح. ومنهم من يحب أن يُنصح تلميحًا وليس تصريحًا. ومنهم من لا ينفع معهم إلا بعينهم؛ بسبب نَزعة نفسية تجاههم، أو قضية شخصية، أو أن الناصح من النوع الذي لا يروقُ لهم؛ لذلك وجب عليه تكليفُ آخرين لنصحهم وهكذا.
6- المشاركة: وهي عبارة عن ترجمة الخطاب الدعوي في شكل واقع حي يعايشه الداعية مع الناس والمجتمع، وهي شكل من أشكال التطبيق العملي لآلاف الكلمات؛ التي فاضت بها حنجرة الداعية، وكانت عبارة عن أوامر ومنهيات وتوجيهات وحوافز، يندب الداعية فيها إخوانه المسلمين إلى المسارعة للخيرات.
ولكن من يؤكد للناس سبق الداعية إلى مثل ذلك، إذا لم توجد مشاركة ميدانية وتطبيق عملي يقدمه للناس؛ ليبرهن على حبه وحرصه ومصداقيته الفريدة؛ فحينما يحض الناس على النفقة فلابد أن يكون أول المنفقين، ويكفل الأيتام...!؛ لأن الانزواء في البيوت، ومعانقة المكتبات بديمومة راسخة، وعدم الظهور إلا أثناء الدروس يجعل بينه وبين الناس فجوة، ويتساءلون لماذا لا يحضر أفراحنا، أو يحل مشاكلنا، ولا يعزينا، ولا يخالط أحوالنا؟!
ومثل هذه الأسئلة ستحفر في الذاكرة أشياء سلبية؛ فتجاوزها بحسن المشاركة، والتطبيق العملي للسنة والأخلاق الحميدة، التي قد لا تكلفك -أيها الداعية- كثيراً؛ بل سيجعل له مواقف جميلة في عيون محبيه ومتابعيه.. انظر الى مشاركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في حفر الخندق، وقتاله في المعارك، وجوده بماله ونفسه وملابسه في سبيل الله.. كيف أثرت على الناس؟!
ووقوفه على مشاكل الناس والصلح بينهم وخروجه في قضاء حوائجهم.. هذه المشاركة المجتمعية تعمل على تعزيز تواضع الدعاة وحسن أخلاقهم، وأنهم ليسوا بمعزل عن مشكلات الناس وحوائجهم؛ كما كان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يرد سائلاً، وتأتيه الجارية من نساء المدينة، فتأخذه إلى حيث شاءت حتى يقضي حاجتها؛ كما ثبت في الصحيحين، وقبل البعثة سطرت فيه خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- ألفاظاً من ضياء عندما قالت: "كلا والله، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتَحمِل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق" وهذه فضائل اجتماعية باشرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصدق دعوته، ويحدث التغيير المطلوب في حياة الناس، وهي مقدمه ضرورية للإصلاح والتغيير.
وقد طُلِب يوماً من الحسن البصري -رحمه الله- أن ينصح الناسَ في عظاته في قضية (عتق الرقاب) وفضلِه، فتأخَّر جمعة وأخرى، وربما أخرى، ثم تحدَّث بالموضوع، فلما سُئل عن سبب التأخير بيَّن للسائل أنه لم يكن قد أعتق عبدًا سابقًا، ولم يكن عنده المال ليقوم بذلك؛ فتأخر حتى اشتغل بما وفَّر له المال، فاشترى عبدًا فأعتقه؛ لأنه لم يشأ أن ينصح الناس بشيء لا يفعله بنفسه.
7- سخاء النفس: أكثر ما يجذب القلوب، ويلم شعث النفوس النافرة، ويهدي إلى طريق الحق سخاء النفس؛ فالسخاء عامل قوي من عوامل المصداقية؛ لأنه ضد المصلحة الشخصية، وفيه دليل على تجرد الداعية وإخلاصه ونفعه المتعدي لمن حوله. والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أسخى الناس؛ مثل الريح المحملة بالخير من الجود والكرم، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر كما وصفه الأعرابي الذي دعا قومه للإيمان بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو كما وصفه الشاعر:
كريم صبيح الوجه سال بشاشةً *** وأصبح في بدرِ التهلل محتفَّا
جواد سخيٌّ أريحيٌّ وإنَّه *** لبحرُ الندى والجود يولي الندى جزفَا
وكتب الإمام مالك إلى الليث بن سعد أن عليه دَيْنًا، فبعث له بخمسمائة دينار، ثم كتب له مرة أخرى أنه يريد أن يزوِّج ابنته، فبعث له بثلاثين جملاً محمَّلة بالعصفر، وكان العصفر غاليًا، فباعه الإمام مالك، فزوَّج ابنته، وبقي له فضلةٌ وفيرة من المال.
8- النزاهة النفسية: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[سورة الصف: 2-3].
والمعنى طهارة النفس من كل الشوائب والمخالفات التي يدرك الناس أنها مما يشير الداعية، أو ينسف دعوته، مما هو مخالفة شرعية صريحة، أو منافية للآداب العامة كقضايا الأخلاق والمروءة فإنهم وإن تغاضوا عن المروءة لا يتغاضون عن المحرم الصريح، أو المكروه البين!!
قال تعالى عن شعيب -عليه السلام-: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)[هود: 88]، وطالب الإصلاح لا يمكن له مناقضه توجيهاته أو المجاسرة على المكروهات، أو الجهالة في الخلوات، وتمثيل التدين بلا حقيقة أو برهان. ومن النزاهة تجنب الشبهات ومما قد يساء الظن فيه نحو المعاملات المختلطة، أو الوسائل الملتمسة.
9- الصبر والاحتمال: العلاقات الإنسانية جزء من فعاليات الحياة؛ فلا يتوقع أحد أن تكون على وتيرة واحدة؛ فقد تلثمها اليوم نسمات الود والصفاء والنقاء، ولكن هي غير مضمونة في الغد؛ فربما هبت عليها رياح الاختلاف، وعصفت بها أعاصير الغضب والتشنج، وفي كل الأحوال على الفرد الإيجابي أن يَصبِرَ؛ فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم إذا كان يُخالِطُ الناسَ ويصبر على أذاهم، خيرٌ من المسلم الذي لا يُخالِطُ الناس ولا يصبر على أذاهم".
وتحقيق المصداقية في الدعوة لن يكون سهلاً إلا ببذل الجهد في مجاهدة النفس ورغباتها الكثيرة، ومدافعة الدنيا ومغرياتها المثيرة، وهذا هو السبب في قول عبدالله بن المبارك للسَّرخسي -رحمهما الله-: "ما أعياني شيءٌ كما أعياني أني لا أجد أخًا في الله -عز وجل-".
10- المواساة: فالداعية الصدوق يعمل على تطييب الجروح وجبر الخواطر؛ فهناك قضايا اجتماعية حساسة، تهم مصالح الناس، فيتعامل معها الشيخ الداعية كالطبيب الذي يحاول علاجها بالتشخيص، ثم يصرف الدواء كالصيدلاني؛ فهو هنا (الداعية الطبيب) الذي يعالج بكل رحمة وإشفاق وحنّو نحو مشاكل الفقر والجهل والمرض والتربية والإصلاح والبطالة؛ التي يحس الناس بحاجتهم إلى المنقذ المرشد لحلها.
والداعية اللبيب يضع عليها بلاسم الشفاء وأنداء الراحة؛ فيكشف غما، ويفرج كرباً، ويدفع بلاءً وحسرة، ويوغل في الجوانب الإيمانية التي تشرح الصدور وتداوي الكروب وتفتح نسمات الحياة ومباهج النور لطالب العمل والجد والتغيير.
وهذا الأسلوب مما يعزز حب الناس للداعية، ويورثه المصداقية، وأنه لا يعيش خارج الحدود أو يغرد نائياً عن السرب؛ بل هو في خضم المشكلة يعيش آلامهم، ويتبرم لأحزانهم ومشكلاتهم.