أسرة مباركة (آل إبراهيم)

راكان المغربي
1446/03/23 - 2024/09/26 17:29PM

الأسرةُ المباركةُ (آلُ إبراهيم)

الخطبة الأولى

أما بعد:

من منكم يحبُّ أن تكونَ أسرتُه مباركةً، وبيتُه صالحاً، يُظلَّلُ بالإيمانِ، ويَسعدُ بالألفةِ والمودةِ؟

من يَتَشَوَّفُ لأن يعيشَ في جنةٍ من جنانِ الدنيا، حيثُ يشعرُ بدفءِ حنانِ الأسرةِ، ويسكنُ إلى وارفِ ظلالِها، ويرتوي من ينابيعِ حبِّها؟

تعالوا بنا في رحلةٍ مع أسرةٍ مباركةٍ، كَثُرَ خيرُها، وطابَتْ سيرتُها. نحكي أخبارَها، ونستلهمُ عبرَها، لعلنا نقتبسُ من أنوارِها، ما نضيءُ به حياتَنا، ونُبهجُ به أزواجَنا وأبناءَنا وبناتِنا.

(آلُ إبراهيم) تلك الأسرةُ التي اصطفاها اللهُ سبحانه، كما قال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)

أسرةٌ تكاثرتْ فيها البركةُ، وعمَّ بها الصلاح، فكانت نموذجاً عالياً من نماذجِ الإيمان، وقدوةً ساميةً من قدواتِ الهدى، حتى إننا نتذكرُ بركتَها في كلِّ صلاةٍ، عندما نصلي على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فنقول "اللهم باركْ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ، وعلى آلِ إبراهيمَ".

سنقفُ اليومَ مع بعضِ الأعمالِ والأسبابِ التي بذلتها هذه الأسرةُ، فصارت صالحةً طيبةً مباركةً.

فمن ذلك عظمةُ القائدِ الذي قادَ موكبَ هذه الأسرةِ، وهو الخليلُ إبراهيمُ -عليه الصلاة والسلام-، الذي وصلَ إلى مرتبةِ الخُلَّةِ. تلك المرتبةُ العليا التي لم يصلْ إليها أحدٌ من البشرِ إلا هو ونبيُّنا محمدٌ عليهما الصلاة والسلام.

لقد كان الخليلُ -عليه الصلاة والسلام- جامعاً لخصالِ الخيرِ، قدوةً في سائرِ أبوابِه، كما وصفه ربُّه فقال سبحانه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ) والرجلُ الأمةُ هو الجامع ُلخصالِ الخيرِ.

فعندما يكون ربُّ الأسرةِ قدوةً صالحةً في بيتِه، لا شك أن ذلك سيُحدثُ أعظمَ الأثرِ على أفرادِ الأسرةِ، حين يرون أمامَهم نموذجاً صالحاً يقتدون به، ويتمثّلُون أخلاقَه. وهذا ما حصل مع إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، فقد ورَّث ما كان فيه من خيرٍ لذريتِه، كما قال سبحانه: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

ومن أعمالِ هذه الأسرةِ التي حلَّ بسببِها البركةُ، أنها أسرةٌ تربَّتْ على الإسلامِ، الذي يعني الاستسلامَ الكاملَ للهِ سبحانه، بالانقيادِ لأوامرِه، والخضوعِ لشرعِه.

فحين وضعُ إبراهيمُ زوجَه هاجرَ، وابنَه إسماعيلَ، في ذلك الوادي المُقفِر، حيث لا إنسٌ، ولا ماءٌ، ولا زرعٌ. ثم قام يمضي، ليتركَهم وحدَهم، سعتْ هاجرُ خلفَه، وتعلقَتْ بثيابِه وهي تردِّدُ مرارا: "يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا".

عندما عرفتْ أن هذا هو أمرُ اللهِ، استسلمت له وأيقنت أن فيه الخيرُ ولو كان ظاهرُه المشقةُ والهَلَكَةُ، فالله يعلمُ والبشر لا يعلمون.

استسلمَ إبراهيمُ وأطاعَ أمرَ ربِّه عندما وضعَهم وتركَهم في ذلك الوادي المُقْفِرِ، واستسلمتْ هاجرُ حين رضِيَتْ وأيقنتْ أن اللهَ لن يضيّعَها.

بقي الابنُ إسماعيلُ، الذي جاءَه اختبارُ التسليمِ فيما بعد، وهو غلامٌ صغيرٌ يسعى مع أبيه، عندما جاءتِ الرؤيا لإبراهيمَ -عليه السلام- بوحيٍ من اللهِ يأمرُه بأن يذبحَ ابنَه، فقال الأبُ للابنِ (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

فيا تُرى هل نحن نربي أسرَنا على الإسلامِ والاستسلامِ لأمرِ اللهِ، فنستقيمَ على أمرِ الله، ونجنبَ بيوتَنا معاصِيه؟ أم أننا نستسلمُ لشهواتِنا ونطيعُ رغباتِ أبنائِنا وبناتِنا ولو كانتْ في الإثمِ والعصيانِ؟

ومن أسبابِ بركةِ (آلِ إبراهيمَ)، أنها كانت أسرةٌ تتشاركُ وتتعاونُ في طاعةِ الله سبحانه، وخدمةِ دينه. فقد تعاونَ إبراهيمُ مع ابنِه إسماعيلَ -عليهما السلام- في تأسيسِ قواعدِ البيتِ الحرام، كما قال سبحانه: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وكانا سويا يُطَهِّرانِ البيتَ ويقومانِ على خدمةِ أهلِه بأمرِ اللهِ سبحانه، كما قالَ جل وعلا: (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

وفي ذلك درسٌ لنا أن نتشاركَ مع أزواجِنا وأولادِنا في طاعةِ الله سبحانه، وخدمة دينِه، كأن نجتمعَ على مجالسِ علمٍ أو نتلوَ القرآنَ سوياً أو نقيمَ الرحلاتِ الإيمانيةَ أو نتعاونَ في إقامةِ برنامجٍ تطوعيّ أو دعويّ أو غيرِ ذلك، مما يُعَظِّمُ بركةَ بيوتِنا، ويُحدِثُ أجلَّ الأثرِ في أزواجِنا وأبنائِنا وبناتِنا.

ومن أسبابِ بركةِ الذرّيّةِ الإبراهيميةِ، تلك الدعواتُ التي كان يرفعُها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام لذريتِه، فأثمرت الدعواتُ الخاشعةُ غرساً مباركاً ونشئاً صالحاً.

فمن دعواتِ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهم السلام لذريتهما: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وقال سبحانه يحكي لنا أيضا بعض دعوات إبراهيم عليه السلام لبنيه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، ومن دعواته (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)، وغير ذلك من الدعوات الإبراهيمية لذريته التي سُجِّلَتْ في القرآنِ الخالدِ، لنستلهمَ منها ما ندعو به لذريتِنا في صلاتِنا وخلواتِنا.

ومما باركَ هذه الأسرةَ وعظَّمَ شأنَها، أنها كانتْ تتواصى على الخيرِ، ويذكرُ بعضهم بعضاً بمعاني الإيمان، والثباتِ على الهدى. قال سبحانه يحكي وصيةَ إبراهيمَ، ووصيةَ يعقوبَ لأبنائهما (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

ويقول سبحانه عن إسماعيل عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا).

ومما جعلَ بركةَ هذه الأسرةِ تحلُّ فيها وفي الأممِ منْ بعدِها، هو ثباتُها على الحقِّ رغم شدةِ سَطْوةِ الباطلِ.

فقد كانَ إبراهيمُ يوماً مع زوجتِه سارة -عليهما السلام- فقال لها: (يا سَارَةُ، ليسَ علَى وجْهِ الأرْضِ مُؤْمِنٌ غيرِي وغَيْرَكِ). هكذا كانتِ الأرضُ في أولِ زمانِ هذه الأسرةِ، تموجُ بالكفرِ، وتَعصِفُ بالضّلال.

لكنَّ هذه الأسرةَ كانتْ جبلاً راسخاً لا يهتزُّ ولا يتزعزعُ. لم تنجرفْ مع موجاتِ العصرِ المنحرفةِ، ولم تنصاعْ لضغوطاتِ الواقعِ المعاكسةِ. ثبتت على الهدى، ورفعتْ رأسَها بالإيمانِ.

واليومَ بعدَ كلِّ تلك القرونِ المتطاولةِ، انظرْ إلى الملياراتِ التي تتبعُ هذه الأسرةَ، وتهتدي بهديها، جيلاً بعد جيلٍ. هذا المنظرُ الملياريُّ الذي تشاهدُه اليوم، كان يوماً ما لا يمثلُه إلا رجلٌ وامرأةٌ، ثبتا على الحق، فثبّتهما الله، ثم ثبَّتَ بهما جموعاً من البشر على مرِّ الأزمنة بأعدادٍ لا يحصيها إلا اللهُ سبحانه.

فما أعظمَ بركةَ هذه الأسرةِ العظيمةِ، وما أجلَّ خيرِها على الأممِ!

بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

أما بعد:

لقد تعلمنا من آلِ إبراهيمَ، أن بركةَ أسرِنا تُنالُ بوجودِ القدوةِ الصالحةِ، وقيامِ البيتِ على الإسلامِ والاستسلامِ لأوامرِ اللهِ، والتعاونِ على الطاعةِ وخدمةِ الدين، والتواصي والتناصحِ، والدعاءِ، والثباتِ على الحقِّ.

إن من يستمسِكُ بهذه الأمور ويعملُ بها في بيتِه، يكون قد بذلَ أعظمَ الأسبابِ لتكونَ أسرتُه صالحةً مباركةً متحابةً، ولعل الله -إن رأى صدقه وإخلاصه- أن يرزقَه ما تمنَّى، ويُقِرَّ عينَه بصلاحِ زوجِه وذرَّيتِه.

وإنَّ مما ينبغي الحذر منه كثرةُ الخلافِ والتنازعِ، وبخسُ الحقوقِ الزوجيةِ، والتساهلُ في الطلاقِ، فإن ما وراءَ ذلك إلا تفككَ الأسرِ، وفسادَ القلوبِ، وتنامي الضغينةِ، والضحايا هم الأبناءُ والبناتُ، الذين يعيشون في أجواءِ الصراعِ، وجحيم الشقاقِ.

فاتقوا الله وأصلحُوا ذات بينكم، أديموا الوُدَّ، وانشروا الحبَّ، وتحلُّوْا بالرأفةِ والرحمةِ. اقطعوا أسبابَ التنازعِ، واقتلعُوا جذورَ الخلافِ، وتغاضُوْا عن الهفواتِ والزلَّاتِ، فلن تستمرَّ الحياةُ سعيدةً رغيدةً مطمئنَّةً إلا بالخُلقِ الحسنِ، والكلمةِ الطيبةِ، والصدرِ الواسعِ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه).

اللهم أصلح شأننا، وألف بين قلوبنا..

اللهم وفقنا لطاعتك، وجنبنا معصيتك..

اللهم وفقنا لتربية أبنائنا على كتابك وسنة نبيك، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن..

 

المرفقات

1727360968_الأسرة المباركة - آل إبراهيم.docx

1727360968_الأسرة المباركة - آل إبراهيم.pdf

المشاهدات 806 | التعليقات 0