أسرار البسملة
عبدالرزاق بن محمد العنزي
الخطبة الأولى:(18/3/1444هـ) أسرار البسملة
أيها المسلمون: هذه وقفة مع جملة ما أبدعها من جملة، وكلمة ما أبركها من كلمة، وما أحلاها في لسان المؤمن وسمعه وقلبه.
ينبغي للعباد أن يتقبلوها القبول الحسن، وأن يفتحوا قلوبهم لها، وأن يَرِدُوا منَاهِلَها العذبة، فإنهم في أشد الحاجة إليها وأعظم الضرورة لخيرها ونفعها، فطوبى لقلب تلقاها فرحاً مسروراً مغتبطاً، وهي أعظم بركة على الأرض وأهلها من غيث الماء الذي يحمله السحاب من السماء الدنيا.
أمرها عظيم، وفضلها كبير، وأجرها كثير، ولا شك أن لها منزلة عظيمة، فيها كل خير وبركة.
افتتح الله تبارك وتعالى كتابَه العظيم بـ"بسم الله"، وشرع لنا أن نفتتح بها كلَّ قول أو عمل. قال ابن جرير الطبري - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾: (إنَّ الله - تعالى ذِكْرُه وتقدَّست أسماؤه - أدَّب نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذِكْرِ أسمائه الحُسنى أمام جميع أفعالِه، وجعل ذلك لجميع خلقِه، سُنَّةً يستَنُّون بها، وسبيلاً يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم).
عباد الله.. وهذا الذي أشار إليه ابنُ جرير الطبري؛ وردت فيه آيات، وأحاديث في مشروعيته، واستحبابِه عند ابتداء بعض الأمور من الأقوال والأفعال التي يزاولها المسلم في حياته اليومية.
"بسم الله" تصْحَبُكَ - أيها المسلم - في كل مكان وزمان؛ فتصحَبُك عند ابتداء الطعام؛ ليُبارَك لك فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ» رواه البخاري ومسلم. وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُمْ ".
ومَنْ أراد أنْ يذبحَ؛ فلا بدَّ له مِنْ "بسم الله" قال الله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾.
وأنتَ - في الصباح والمساء - لا تستغني عن "بسم الله"؛ لأنَّ الله تعالى يَحْفَظُكَ بها، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ - فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ، وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: "بِسْمِ اللَّهِ" الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ».
ولا بد من التسمية عند دخول البيت؛ للتخلُّص من مُشاركة الشياطين لنا في الطعام والمسكن.
وتُشرع التسميةُ في الليل عند إغلاق الأبواب وتخميرِ الآنية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا» رواه مسلم.
وتُشرع التسمية عند الوضوء، ومَنْ أراد أنْ يُبعِدَ الشيطانَ عنه وعن أهله وولدِه؛ فلْيُسَمِّ اللهَ تعالى عند الجِماع، وتُرافقك التَّسميةُ عند النوم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ؛ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللَّهَ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ» رواه مسلم.
كلنا بل جلنا تربينا وربينا أبناءنا وصغارنا إذا اختل توازنهم وسقطوا، فأول كلمة نقولها لهم "بسم الله" فعن أبي المَلِيحِ عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَثَرَتْ دَابَّتُهُ؛ فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ: «لاَ تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ؛ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيَقُولَ: بِقُوَّتِي[7]، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ، تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ»
بارك الله لي ولكم ،،
الخطبة الثانية:
عباد الله: المتأمل في النصوص السابقة وغيرها يرى تحديد صيغة البسملة بلفظ: بسم الله، إلا في قراءة القرآن والمراسلات، كما ورد في رسالة سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ؛ حيث جاءت البسملة كاملةً. قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
أما في حالات دخول البيت والخروج منه، وركوب الدابة، واللباس، والرقية، والأكل والشرب، والنحر، ودخول الخلاء، ورمي الجمرات... إلخ - فإن السُّنة قد جاءت بلفظ محدَّدٍ ينبغي الاقتصار عليه، وعدم الزيادة فيه.
ومن بركات هذه الكلمة الوجيزة أنه يسترقى بها، وٌقد أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بنَ أبي العاص - رضي الله عنه - بالرُّقية، وكان يشكو وجَعاً في جسده، فقال له: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: "بِاسْمِ اللَّهِ" - ثَلاَثًا. وَقُلْ - سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» قَالَ: «فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ» فما أعظم آثارها، وما أكثر منافعها، إذا نطق بها اللسان، واستشعرها الجَنان.
،،، قال ابن القيم رحمه الله: فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ فهو قليل الجدوى،لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه }.
ثم صلوا وسلموا