أسباب العقوبات العامة
عبدالله اليابس
أسباب العقوبة العامة الجمعة 9/5/1439هـ
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، له مافي السماوات ومافي الأرض ومابينهما وماتحت الثرى، أحمده سبحانه وأشكره, وأتوب إليه واستغفره, نعمه لاتحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله, هو أخشى الناس لربه وأتقى، دلَّ على سبيل الهدى، وحذَّر من طريق الردى, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه معالم الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. أمر الله تعالى عباده بعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون), ووعدهم بالسعادة في الدنيا والآخرة إذا هم أطاعوا أمره {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .. فهم في نعيم في الدنيا ونعيم أكبر في الأخرة.
والله تبارك وتعالى رؤوف حليم .. ولطيف بعباده رحيم .. لكنه سبحانه وتعالى إذا انتُهكت حرماته يغضب .. وإذا غضب الله تعالى على قوم كان ذلك من أسباب نزول عقوباته عليهم..
لقد أنذرنا الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم من وقوع العذاب, وحذرنا أن نأمن من مكره سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
وقال عز من قائل: {أفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون}.
إن العقوبة إذا نزلت قد تكون خاصة لأقوام .. وقد تكون عامة .. تصيب الجميع .. إما بطوفان يغرق الناس .. أو بجدب في الأرض .. أو قحط في السماء .. أو ارتفاع في الأسعار وضيق في العيش .. أو غير ذلك ..
وقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان بعض أسباب العقوبات العامة, ومن هذه الأسباب:
كفر النعم .. نعم .. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
انظر إلى قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}
كانت أخت أحمد بن طولون معروفة بالإسراف.. حتى أنها أنفقت على وليمة عرس لإحدى لعبها مئة ألف دينار!! فما دارت الأيام حتى شوهدت في شوارع بغداد تتسول ..
نعم ليس بيننا وبين الله تعالى عهد أن يحفظ علينا النعم ..
ومن أسباب العقوبات العامة: انتشار الظلم بين الناس .. وخذلان الناس للمظلوم .. أخرج الترمذي في سننه عن أَبي بكر الصديق رضي الله عنه، قَالَ: يَا أيّها النَّاس، إنّكم لتَقرؤُون هذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}, وإني سمعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يأخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ).
ومن أسباب العقوبات العامة: السكوت عن إنكار المنكرات.. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ــ يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ــ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) وَعَقَدَ عَشْرًا، قَالَتْ زَيْنَبُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخُبْثُ).
جاء عند الحميدي أن عمر بن عبد العزيز رحمهم الله قال: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا ظهرت المعاصي فلم تُغيَّر، عُذب العامة والخاصة".
أجل أيها الإخوة .. إن عدم إنكار المنكرات .. وترك أهل الباطل يسرحون ويمرحون ويجاهرون بمعاصيهم لهو نذير شؤم على المجتمع عامة, وسبب لهلاك جميع أفراده .. صالحهم وطالحهم.
يقول الله عز وجل: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمرَ اللهُ المؤمنين ألا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يَهلَكون مَهلَكًا واحِدًا، ويَصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".
ومن أسباب العقوبات العامة: الانشغال بالدنيا والانغماس فيها والغفلة عن الآخرة.
أخرج البخاري ومسلم عن عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ).
نعم .. إذا استغرق العبد في الدنيا وملذاتها ونسي الله تعالى كان ذلك إيذاناً بعقوبته: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.
ومن أسباب العقوبات العامة: انتشار الموسيقى والغناء وفشوها بين الناس, وشرب الخمور, روى الترمذي وصححه الألباني رحمه الله من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ.
فنصيحة محب والله لكل من يدعو أو يشارك في حفلات موسيقية.. أو يرفع أصوات الموسيقى في متجره أو سيارته .. إنك والله تستعجل عذاب الله تعالى .. تستعجل العقوبة العامة للمجتمع..
إن ارتكاب الذنوب والمعاصي وانتشارها وفشوها بين الناس سبب من أسباب العقوبات العاجلة على الأمم والمجتمعات: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. فما زلنا في تعداد بعض أسباب العقوبات العامة, ومن جملتها: الحكمُ بغير ما أنزل الله, وانتشارُ الفواحش بين الناس من الزنا وعمل قوم لوط وغيرها, والغشُ في البيع وإنقاصُ المكيال والميزان, ومنعُ الزكاة, ونقضُ عهدِ الله وعهدِ رسوله صلى الله عليه وسلم, أخرج الحاكم في مستدركه وصححه الألباني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَنَزَلَ فِيكُمْ، وأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يَعْمَلُوا بِهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ إِلَّا أَلْقَى اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ).
أيها الإخوة .. إن الله تعالى يرسل للناس الآيات .. ليرجعوا ويتعظوا.. وليعودوا لدين ربهم .. تأملوا فيما حولنا .. انتشرت المنكرات وفشت .. وجاهر بها فئام من الناس .. فابتلانا الله خلال فترة قصيرة جدًا بالقحط وجدب الأرض وارتفاع الأسعار.. إن ربنا جل وعلا يخوفنا منه لنعود إليه .. {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}.
ما وقع بلاء إلا بذنب .. ولا رُفع إلا بعقوبة ..
أنذر نوح قومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} .. لكن قوم نوح لما أتتهم النصيحة استكبروا عنها .. وظنوا أنهم في مأمنٍ مِنَ العذاب .. {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا, واعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
العقوبات-العامة-9-5-1439
العقوبات-العامة-9-5-1439