أسباب التفرق والاختلاف د/ عبد الحميد بن عبد الرَّحمن السّحيباني
الفريق العلمي
رسالة مختصرة في بيان خطر الاختلاف والتفرق في الأمة المسلمة، وحث المسلمين جميعا على النظر في أسباب ذلك، وبذل الجهد لقطع دابر هذه الفتنة الصماء قبل أن يستفحل خطرها، ويعظم ضررها، فتصدع الصفوف، وتهلك الحرث والنسل.
الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّدٍ وآله الطَّيِّبين وأصحابه المجاهدين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدِّين، وبعد:
فهذه رسالةٌ مختصرةٌ في بيان خطر الاختلاف والتَّفرق في الأمَّة المسلمة، وحثِّ المسلمين جميعًا على النَّظر في أسباب ذلك، وبذل الجهد؛ لقطع دابر هذه الفتنة الصَّماء قبل أن يستفحل خطرها، ويعظم ضررها، فتصدع الصُّفوف، وتهلك الحرث والنَّسل.
أقول مستعينًا بالله -تعالى-: "إنَّ المتأمل في أسباب الفرقة والاختلاف يجد أن أبرزها ثلاثة أسباب الابتداع، واتِّباع الهوى، والتَّعصب والتَّجزُّب".
1- الابتداع.
والابتداع هو: ما خالف الكتاب والسُّنَّة أو إجماع سلف الأمَّة، من الاعتقادات والعبادات، وكلُّ من دان بشيءٍ لم يشرعه الله، فذاك بدعةٌ، وإن كان متأولُا فيه.
وإنَّ ممَّا لا شك فيه أنَّ للبدعة أثرًا كبيرًا في إلقاء العداوة، والبغضاء بين أهل الإسلام، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والبدعة مقرونةٌ بالفرقة، كما أنَّ السُّنَّة مقرونةٌ بالجماعة".
وزيادةٌ على أنَّ البدعة تورِّث العداوة والبغضاء بين النَّاس، فهي تورِّث أهلها الخزي في الدُّنيا، والعذاب في الآخرة، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- عند قوله -تعالى-: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [ آل عمران: 106].
قال: "تبيضُّ وجوه أهل السُّنَّة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة".
وفي الحديث الصَّحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ» [متفقٌ عليه].
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الاقتصاد في السُّنَّة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة".
ومن هنا يتبيَّن لنا أنَّ البدع هي سببُ كلِّ بلاءٍ، وعلَّةُ كلِّ فتنةٍ، فقد كان المسلمون أمَّةً واحدةً وجماعةً واحدةً، متآلفين على عقيدةٍ واحدةٍ، ومنهجٍ واحدٍ، على أيَّام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ثمَّ في خلافة أبي بكر وعمر، وبعد مقتل الخليفة الثَّاني بدأت الفتنة تطلُّ برأسها، ولا زال أهل الشَّرِّ يسعون في الغواية حتَّى قُتل عثمان -رضي الله عنه- فتوالت الفتن، وتتابعت، وبدأت فرق الأهواء والبدع في الظِّهور، فتفرَّقت الكلمة، وبدأ الانشقاق عن جماعة المسلمين ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
2- اتباع الهوى
وهو في اللغة: "محبة الإنسان للشَّيء، وغلبته على قلبه".
وفي الاصطلاح: "ميلان النَّفس إلى ما تستلذه من الشَّهوات من غير داعيةِ الشَّرع".
واتباع الهوى من أهم أسباب نشأة كثيرٍ من الفرق الضَّالَّة، والطَّوائف المنحرفة؛ لأنَّ أصحاب هذه الفرق قدموا أهواءهم على الشَّرع أولًا، ثمَّ حاولوا جاهدين أن يستدلوا بالشَّريعة على أهوائهم، وحرَّفوا النُّصوص والأدلَّة؛ لتوافق ما هُم عليه من البدع، فلم يأخذوا الأدلَّة الشَّرعيَّة مأخذ الافتقار إليها، بل اعتمدوا على آرائهم وعقولهم في تقرير ما هُم عليه، ثمَّ جعلوا الشَّريعة مصدرًا ثانويًّا، نظروا فيها بناءً على ما قرَّروه وأصَّلوه، ولأجل ذلك كان السَّلف يطلقون على أهل البدع، وفرق الضَّلالة لفظة: "أهل الأهواء".
وإنَّ جميع البدع والمعاصي الَّتي تنتشر في المجتمعات إنَّما تنشأ من تقديم هوى النُّفوس على ما في كتاب الله -تعالى- وسُنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم، ولذا جاء التَّحذير في الكتاب والسُّنَّة من اتباع الهوى، فقال -سبحانه-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وقال -تعالى-: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
وثبت في الحديث الصَّحيح: «اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء» [رواه التِّرمذي 3591 وصحَّحه الألباني].
وفي الحديث الآخر: «إنَّ ممَّا أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم ومضلَّات الأهواء» [صحَّحه الألباني 14 في تخريج كتاب السُّنَّة].
حقًّا إنَّ الهوى أصل كلِّ شرٍّ، وأساس كلِّ بلوى، وإحداثٌ في الدِّين على غير منهجٍ قويمٍ ولا طريقٍ مستقيم، ومن هنا يتبيَّن لنا أنَّ اتباع الهوى ممَّا يوقع في الفرقة والاختلاف والخروج عن الجماعة الَّتي أمر الإنسان بلزومها، وخاصَّةً فيما يتعلق باتباع الهوى في الدِّيانات، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واتباع الأهواء في الدِّيانات أعظم من اتباع الهوى في الشَّهوات".
وكان اتباع الهوى موجبًا للفرق والاختلاف؛ لأنَّه خروجٌ عن الالتزام بالكتاب والسُّنَّة، واخراج المرء من اتباع الهوى من أعظم مقاصد الشَّريعة، "فإنَّ المقصد الشَّرعي من وضع الشَّريعة إخراج المكلَّف عن داعية هواه حتَّى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد الله اضطرارًا" (الموافقات للشَّاطبي (2/128)).
3- التَّعصُّب والتَّخزُّب
وأعني بالتَّعصُّب أن يجعل العبد ما يصدر عن شخصٍ ما من الرَّأي والاجتهاد حجَّةً عليه وعلى سائر العباد.
وأعني بالتَّخزُّب: التَّجمع لشخصٍ أو طائفةٍ أو نحوهما، والاعتقاد أنَّهم على حقٍّ وغيرهم على باطلٍ.
والتَّعصُّب والتَّحزُّب شيمتان من شيم الضعف، وخلَّتان من خلل الجهل، يبتلى بهما الإنسان فتعميان بصره، وتغشيان على عقله، فلا يرى حسنًا إلا ما حسن في رأيه، ولا صوابًا إلا ما ذهب إليه، أو من يتعصَّب ويتحزَّب له.
ولهذا ذمَّ الله -تعالى- ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذه الخصلة، وحذَّرا منها أيما تحذير، قال -سبحانه-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91].
وثبت في السُّنَّة الشَّريفة أنَّ عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: أتيت النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفي عنقي صليبٌ من ذهبٍ، فقال لي: «اطرح عنك هذا الوثن»، قال: فطرحته. قال: وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، وقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوبة: 31]، قال: «أما إنَّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه» [رواه التِّرمذي 3095 وحسَّنه الألباني].
هذا وإن مما يؤلم القلوب، ويقطِّع الظُّهور هذا الخلاف الواقع بين كثيرٍ من المنتسبين للإسلام حين غرَّهم الشَّيطان، وضحك عليهم، فزيَّن لهم الاقتتال فيما بينهم بحربٍ كلاميَّةٍ، لا تزيدهم إلا تباغضًا وحقدًا، وأشغلهم عن النَّظر في أمور المسلمين، فلم تؤلمهم دماء الأبرياء من المسلمين، الَّتي تنزف تحت براثن القهر الكافر، ولم تقض مضاجعهم أعراض المسلمين الَّتي تنتهك تحت وطأة المجرمين، ولم يوجع قلوبهم تفشي الجهل في كثير من المنتسبين إلى الإسلام!
أقول: هذا الخلاف الواقع بين أولئك قد علا سهمه، وراج سوقه، ونفقت بضاعته، رغم أنَّه خلافٍ في مسائلَ اجتهاديَّةٍ، يعذر المخالف فيها.
ولقد وجد في زماننا هذا أناسًا قد غرَّهم الشَّيطان، وزيَّن لهم أعمالهم، فهم يعمهون!
أناسٌ سمُّوا أنفسهم بالسَّلفيِّين، ورموا غيرهم بالابتداع، ووصفوهم بالأوصاف السَّيِّئة، والخصال الشَّنيعة، ممن لا يصدق عليهم هذا الوصف مطلقًا، فنشأت عن ذلك حزبيَّةٌ ممقوتةٌ، وتعصُّبٌ مذمومٌ، لا تزال آثارها الموجعة، تعصف بأبناء الأمَّة إلى وقتنا هذا!
وكان ممَّا آلمني وأثار أشجاني وآلامي أنَّني قابلت أحد السَّالكين لهذا المسلك المشين، فحدَّثني، وحدَّثته، ولم أكن أعرف سلوكه هذا إلا بعد أن أنكر عليَّ أنِّي أحمل بين يدي كتابًا لداعيةٍ من أكبر دعاة الإسلام في هذا العصر، وكأنَّه مبتدع من أكبر مبتدعي هذا الزَّمان، ولم يكن إنكاره عليَّ لشيءٍ إلا لأنَّ شيوخه الَّذين يتسمون بالسَّلفيِّين لا يحبُّونه، ولا يقرؤون له، يفعل ذلك رغم أنَّ السَّلف حذَّروا من محاكاة الرِّجال في اعتقاداتهم وأقوالهم، وإن كانوا مشهورين.
ولابد من الإشارة هنا إلى أنَّه وإن وردت كلمة "السَّلفيَّة" في الآثار إلا أنَّها إذا استخدمت للتَّحزُّب والتَّعصُّب إلى فريقٍ معيَّنٍ؛ فإنَّها تكون ممقوتةً في الشَّرع، فقد جاء في السِّيرة في أحد مغازي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: «ما بال دعوى جاهلية؟!.... دعوها فإنَّها منتنةٌ» [رواه البخاري 4905 ومسلم 2584] مع أنَّ هذين الاسمين (المهاجرين والأنصار) جاء بهما القرآن، وهما محبُّوبان لله -تعالى- ولرسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولمَّا استخدما لنوعٍ من العصبية؛ صار ذلك من فعل الجاهلية، وأخبر -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ هذه الدَّعوى منتنةٌ؛ لأنَّها تدعو إلى التَّفرِّق والتَّفكُّك.
وقريبٌ من هذا ما حصل لابن عباس -رضي الله عنهما- حين سُئِل: أأنت على ملَّة عليٍّ، أو على ملَّة عثمان؟ فقال: "لست على ملَّة علي ولا على ملَّة عثمان، بل أنا على ملَّة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-".
ولقد كان من آثار ذلك التَّحزُب الممقوت أنَّه نشأ فئامٌ من النَّاس، غلوا في طائفةٍ من العلماء، وأعرضوا بكليتهم عن جمع من العلماء والدُّعاة والمصلحين، من أولئك الرِّجال الَّذي يستنار بأقوالهم، ويستفاد من فهومهم، وما ذاك إلا من تلبيس الشَّيطان عليهم، ثمَّ إنَّ شيوخ هؤلاء لو كانوا عقلاء حقًّا لأنكروا عليهم هذا الفعل الذَّميم كما كان السَّلف يفعلون ذلك، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول على المنبر: "إذا أصبت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني"، فقال له رجل ٌمن بين النَّاس: "إذا أخطأت قومناك بسيوفنا"! يقول عمر ما قال، ويرضى بالرَّدِّ؛لأنَّه لا يرضى بتعبيد النَّاس للنَّاس، ومصادرة عقولهم، وتغييبهم عنِ السَّاحة، بل يطالبهم بالمشاركة، والنَّاس لا يرضون بالتَّبعيَّة والعجز، وهكذا تبنى الأمم.
- وإنَّ من المؤلم جدًّا أنَّه بلغ من جراء ذلك التَّحزُّب لطائفةٍ معيَّنةٍ أنَّ بعضهم قد ضحك الشَّيطان عليهم، فتركوا الاشتغال بعيوب أنفسهم، وصار همَّهم الأوحد، وشغلهم الشَّاغل أن ينصبوا شباكهم لرجالٍ من علماء الإسلام ودعاته، قد سخَّروا جهودهم وطاقاتهم لخدمة الإسلام وأهله، فأخذ هؤلاء يرمونهم بأبشع الألفاظ، وأخسِّ الأفعال، بل لقد بلغ بهم الخذلان من الله -تعالى- أنَّهم أخذوا يطلقون لفظ "الكفر" على هؤلاء العلماء والدُّعاة -عياذًا بالله تعالى-.
وهذا والله من أعظم البلاء الَّذي أُصيب به بعض النَّاس في هذا العصر، وإنَّ رمي الإنسان بالكفر -وهو منه براءٌ- جرمٌ عظيمٌ، وخطر ٌكبيرٌ، ذلك لأنّ من رمى أحدًا بالكفر وهو منه برئ -رجع عليه- ولربما خُتم له بالسُّوء، فمات كافرًا، نعوذ بالله -تعالى- من هذه الحال.
ومن هنا فإنَّه ينبغي أن يفهم جيدًا أنَّه ليس من حقِّ كلِّ أحدٍ أن يطلق التَّكفير أو يتكلم بالتَّكفير على الجماعات أو على الأفراد إذ هو من صلاحيات أهل العلم، الرَّاسخين فيه، الَّذين يعرفون الإسلام ونواقضه، ويدرسون واقع النَّاس والمجتمعات، هؤلاء هم أهل الحكم بالتَّكفير، أمَّا الجُهال وأفراد النَّاس وأنصاف المتعلمين؛ فلا يجوز لهم التَّكفير، وإن لم يتوبوا من هذا الفعل؛ فهم على خطرٍ عظيمٍ.
اللهمَّ ارزقنا والمسلمين العودة إليك وأعذنا يا رحمن من خزي الدُّنيا وعذاب الآخرة، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين.