أركان الإنسان الثلاثة
د. فهد الدرعان
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد
أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، فهي زادُ المتقين، وركيزةُ النجاحِ والفلاحِ في الدنيا والآخرة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب: 70-71).
أيها المسلمون
يقول الله تبارك وتعالى: " هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا " (الإنسان: 1). أي قد مضى على الإنسان وقت طويل من الزمان قبل أن تُنفخ فيه الروح، كان معدومًا، لم يكن شيئًا يُذكر ولا يُعرف له أثر. " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا" (الإنسان: 2). خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، نختبره بالتكاليف الشرعية فيما بعد، فجعلناه من أجل ذلك ذا سمع وبصر ليسمع الآيات ويرى الدلائل. " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان: 3). إنا بيَّنَّا له على ألسنة رسلنا طريق الهداية، فاستبانت له بذلك طريق الضلال، فهو بعد ذلك إما أن يهتدي للصراط المستقيم، فيكون عبدًا مؤمنًا شكورًا لله، وإما أن يضلَّ عنها فيكون عبدًا كافرًا جحودًا لآيات الله.
عباد الله
من أجل أن يحيا الإنسان حياة مطمئنة سعيدة يكون فيها شاكرًا لربه عز وجل، لا بد له أن يسعى ليوازن بين أركانه الثلاثة: روحه، وجسده، وعقله. هذه الأركان تُشكِّل كل منها جزءًا لا يتجزأ من شخصية الإنسان وحياته، ولكل منها حقوق ومتطلبات يجب علينا كمسلمين أن نلتزم بها ونعطيها حقها حتى نعيش حياة مستقرة مطمئنة. إن التوازن بين هذه الأركان هو سر الحياة الطيبة والعيش الرغيد.
أيها الأحبة في الله
الركن الأول هو **الروح**، وهي أصل الإنسان وجوهره، وهي التي تمثل علاقته بخالقه جل وعلا. الله سبحانه وتعالى أودع في الروح الفطرة السليمة، وأرشدنا إلى غذائها الروحي من خلال العبادات والطاعات. قال الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: 28). فلا يمكن للإنسان أن يجد السكينة والراحة النفسية إلا بذكر الله واللجوء إليه في كل حالاته. الروح تحتاج إلى التقرب من الله، سواء كان ذلك بالصلاة والصوم والزكاة أو بتلاوة القرآن والذكر والتأمل في عظمة خلق الله. فالعبادة ليست مجرد طقوس، بل هي غذاء الروح الذي يمنح الإنسان الراحة والطمأنينة. يقول تبارك وتعالى: " إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) " (المعارج). إن الإنسان جُبِلَ على الجزع وشدة الحرص. يَجْزَعُ عِنْدَ المُصِيبَةِ، وَيَمْنَعُ إِذَا أَصَابَهُ الخَيْرُ، إذا أصابه ضُرٌّ من مرض أو فقر كان قليل الصبر. وإذا أصابه ما يُسَرُّ به من خَصْب وغنًى كان كثير المنع لبذله في سبيل الله. إلا المصلين المقيمين الصلاة، فهم سالمون من تلك الصفات الذميمة متصفون بصفات عظيمة ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة المعارج والتي تبين صفات عباده المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. فهم قد أعطوا الروح والنفس حقها بالترقي في عبادة الله ومرضاته فهم في جنة في الدنيا قبل الانتقال لجنات عدن في الآخرة بعد الموت.
أيها المؤمنون
أما الركن الثاني من أركان الإنسان الثلاثة فهو **الجسد**، وهو وعاء الروح ووسيلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا. الله سبحانه وتعالى خلقنا في أحسن تقويم، وأمرنا بالعناية بأجسادنا، وجعل الحفاظ على صحتها واجبًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لبدنك عليك حقًا" (رواه البخاري). وحذرنا من إيذاء الجسد وإيراده المهالك والتعدي عليه حيث قال سبحانه: " .. وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " (النساء: 29).
ومن حقوق الجسد علينا أن نحرص على التغذية السليمة التي تمد الجسم بالعناصر الضرورية، ولا نسرف في المأكل والمشرب فتكون التخمة والسمنة التي تورد الجسد الأمراض والأسقام حيث قال تعالى: " .. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " (الأعراف: 31). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلًا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" (رواه الترمذي).
ومن حقوق الجسد علينا أن نواظب على ممارسة الرياضة التي تحافظ على لياقتنا وقوتنا، وأن نلتزم بالنوم والراحة التي تمنح الجسم القدرة على مواصلة الحياة بنشاط. وكما نهتم بصحة الجسد، ينبغي أن نحميه من الآفات والشرور، وأن نتجنب ما يؤذيه من عادات سيئة مثل التدخين أو تناول الأطعمة الضارة.
أيها المسلمون
أما الركن الثالث من أركان الإنسان الثلاثة فهو **العقل**، وهو هبة الله للإنسان، وبه ميّزنا عن سائر المخلوقات. العقل هو مركز الفكر والإدراك، وبه يستطيع الإنسان التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ. العقل هو الذي يمكِّن الإنسان من التخطيط لمستقبله، وحل مشكلاته، واتخاذ القرارات السليمة التي تؤثر في حياته وحياة الآخرين من حوله. قال الله تعالى: "وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة: 269)، ويقوده كذلك إلى التفكر في خلق الله وفي آياته. يقول الله تعالى: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (آل عمران: 191)، في إشارة إلى أهمية استخدام العقل في التفكر والتدبر.
فالعقل كذلك له حقوق علينا فهو يحتاج إلى التغذية المستمرة من خلال العلم والتعلم، والقراءة والبحث، وتطوير مهارات التفكير. كما يجب علينا أن نحرص على حماية العقل من الضغوط النفسية ومن التفكير السلبي، وأن نوفر له بيئة مريحة تساعده على الابتكار والإبداع. وأن نجنبه ما يؤدي إلى تدميره واضمحلال وظائفه من الآفات السامة المحرمة كالمخدرات وغيرها. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الأحبة في الله
إن التوازن بين هذه الأركان الثلاثة: الروح، والجسد، والعقل، هو السبيل المثالي لحياة سعيدة ومستقرة. فلا يمكن للإنسان أن يحقق السعادة الحقيقية إلا إذا أعطى كل ركن من هذه الأركان حقه. الإفراط في الاهتمام بجانب واحد على حساب الجوانب الأخرى قد يؤدي إلى خلل في حياة الإنسان، فقد ينجرف المرء وراء الدنيا وملذاتها ويهمل روحه، أو يغرق في العمل والتفكير دون أن يهتم بصحته الجسدية. أو قد ينقطع إلى العبادة والاهتمام بالجانب الروحي الإيماني ويهمل الجوانب الأخرى.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مثالًا في التوازن بين هذه الأركان، فقد كان يواظب على العبادة ويعتني بجسده ويفكر بعمق في أمور الدين والدنيا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقًا، ولربك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه" (رواه البخاري).
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي ﷺ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله ﷺ إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (متفق عليه).
فلنحرص يا عباد الله على تحقيق هذا التوازن في حياتنا، ولنسأل الله أن يعيننا على ذلك. ولنتذكر دائمًا أن السعادة الحقيقية هي في رضا الله عنا، وأن هذا الرضا لا يتحقق إلا بالاعتدال والتوازن في كل أمور حياتنا متبعين أوامر الله ومقتفين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والحرص على التوازن في حياتنا بين متطلبات الروح والجسد والعقل. فالتوسط والاعتدال هو المنهج الذي جاء به الإسلام "وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة: 143).
أيها المسلمون
إن حياة الإنسان لا تستقيم إلا بتوازن هذه الأركان الثلاثة، فتغذية الروح بالطاعات والعبادات، والعناية بالجسد بالصحة والنشاط، وتغذية العقل بالعلم والمعرفة، كلها أمور تساهم في بناء شخصية قوية متوازنة قادرة على مواجهة تحديات الحياة. فلنحرص على أن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن الذين يحرصون على سلامة أرواحهم وأجسادهم وعقولهم، وبذلك نحقق لأنفسنا حياة مليئة بالسعادة والراحة والطمأنينة.
نسأل الله أن يوفقنا جميعًا لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلنا من عباده المتقين الذين يحافظون على توازن حياتهم ويعيشون حياة مستقرة مطمئنة.
عباد الله : إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه،
فقال قولًا كريمًا : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .........
المرفقات
1725050004_أركان الإنسان الثلاثة.pdf
1725050011_أركان الإنسان الثلاثة.docx