أربع خطب في الصلاة

عبد الله بن علي الطريف
1442/02/08 - 2020/09/25 15:10PM
أربع خطب في الصلاة.
محل المناجاة ومعدن المصافاة الصلاة -1- 23/5/1439هـ
أيها الإخوة: حديثنا اليومَ حديثٌ عميق، بقدرِ عمقِ النفسِ الإنسانيةِ وخباياها، نحتاجه كاحتياجنا لمقومات الحياة من طعامٍ وشراب وهواء؛ بل أشد؛ فمتى وعيناه وتمثلناه عِشنا عيشةَ السعداء، ونعمْنا نعمةً لا يصل إليها إلا من بلغ تلك المنزلة.
ومفتاحُ حديثنا هذا.. هذا الحديث النبوي؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ.. قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ! فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ” (رواه أبو داود وصححه الألباني). ومعنى فأستريح أي: أستريحُ بها، ويكونُ لي فيها راحةً عما أهمني.
أيها الأحبة: قال ابن القيم -رحمه الله-: متى ما أقيم روحُ الصلاةِ صارت قُرة عُيون المحبين، ولذةُ أرواحِ الموحدين، وبستانُ العابدين، ولذةُ نفوسِ الخاشعين، ومحكُ أحوالِ الصادقين، وميزانُ أحوالِ السالكين، وهي رحمةُ الله المهداةُ إلى عباده المؤمنين..”.
ويقول في موضع آخر: “سمعت شيخَ الإسلام ابنَ تيمية -قدس الله روحه- يقول: إذا لم تجدْ للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحاً فاتهمه؛ فإن الرب -تعالى- شكور؛ يعني أنه لابد أن يثيبَ العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدُها في قلبه، وقوةِ انشراح وقرةِ عين؛ فحيث لم يجد ذلك فعملُه مدخول. والقصد: أن السرور بالله وقربَه وقرةَ العين به تبعثُ على الازدياد من طاعته وتحثُ على الجد في السير إليه؛ فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول” ا.ه.
أحبتي: هيا بنا نحلق في تلك الأجواءِ الإيمانيةِ للصلاة، وننطلق في ربوعها الخضراء، ونستنشق عبير شذاها المعطر، ونستجلي قول الحبيب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ“.
الصلاة -أيها الأحباب- كما قال ابن القيم -رحمه الله-: “رحمةُ الله المهداةُ إلى عباده المؤمنين.. هداهم إليها وعرَّفهم بها وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ رحمةً بهم وإكراماً لهم؛ لينالوا بها شرفَ كرامَته، والفوزَ بقربِه لا لحاجةٍ منه إليهم، بل منَّةً منه وتفضَّلاً عليهم، وتعبَّدَ بها قلوبَهْم وجوارحَهم جميعا، وجعل حظَ القلبِ العارفِ منها أكملَ الحظين وأعظمَهما، وهو إقبالُه على ربِّه -سبحانه- وفرحُه وتلذذُه بقربِه وتنعمُه بحبه وابتهاجُه بالقيام بين يديه، وانصرافُه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غيرِ معبوده، وتكميلُه حقوق عبوديته ظاهراً وباطناً حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربُه -سبحانه-“.
أيها الأحبة: لقد صور ابن القيم -رحمه الله- حال العبد الذي يأتي إلى الصلاة ثم ينصرف بقلبه عن ربه تصويراً بليغاً فقال: “سرُّ الصلاة ولُبُها إقبالُ القلبِ فيها على اللهِ، وحضورُه بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يُقبلْ عليه واشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافدٍ وفدَ إلى بابِ الملكِ معتذراً من زللـه وخطاياه، مستمطراً سحائبَ جودِه وكرمِه ورحمتِه، مُسْتَطْعِمَاً له ما يُقِيتُ قلبَه؛ ليقوى به على القيامِ في خدمتِه، فلما وصل إلى بابِ الملك، ولم يبقْ إلا مناجاتُه له، التفت الوافدُ عن الملك وزاغ عنه يمينا وشمالا، أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقتِ شيء إلى الملك، وأقلِّه عنده قدراً؛ فآثره عليه، وصيَّره قِبْلَةَ قَلْبِهِ، ومحلَّ توجهه، وموضعَ سرَّه.. وبعث غلمانَه وخدمَه ليقفوا في طاعة الملك عِوَضاً عنه ويعتذروا عنه، وينوبوا عنه في الخدمة، والملك يشاهد ذلك ويرى حاله.. ومع هذا! فكرمُ الملك وجودُه وسعةُ برِّه وإحسانِه تأبى أن يصرفَ عنه أولئك الخدمُ والأتباعُ فيصيبهم من رحمته وإحسانه“.
أيها الإخوة: ليعرضْ كلُ واحد منا حالَه على هذا التصوير البديع، ويختارْ لنفسه أيَ المقامين يريد؟ هل يريد مقام المقبل وما له من أثر؟ أم المقام الآخر؟.
أيها الأحبة: ولقد أوجب الله على مريدِ الصلاة قبلَ الولوج بها الوضوءَ، وبه يتطَّهرُ المسلم من الأوساخ، ويُقْدِمُ على ربِّه متطهراً، والوضوءُ له ظاهر وباطن؛ فظاهره: طهارة البدن، وأعضاءُ العبادة، وباطنه وسرّه: طهارةُ القلبِ من أوساخِ الذنوبِ والمعاصي وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبةِ والطهارة في قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].
وشرع النبيُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمتطهِّر بعد فراغه من الوُضوءِ أن يتشهد ثم يقول: “اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهرين”. وبهذا كمَّل الله له مراتب الطهارة؛ باطنا وظاهرا؛ فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبةِ يتطهر من الذنوب، وبالماءِ يتطهر من الأوساخ الظاهرة.
وقد صور ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبلغ تصوير فَقَالَ: “أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟” قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: “فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا“(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
فشرع الله للمسلمِ أكملَ مراتبِ الطهارة قبل الدخول على الله -عز وجل-، والوقوف بين يديه، وبمجيئهِ إلى داره سبحانه ومحلِ عبوديته وهو المسجد يصير من جملة خدمه؛ ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة.
أيها الأحبة: ثم أُمر المصلي بأن يستقبل القبلة وهي بيتُه الحرام بوجهه، ويستقبلَ الله -عز وجل- بقلبه؛ لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم يقوم بين يدي الله مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده، ويُلقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس خاشع القلب مُطرق الطرف؛ لا يلتفت قلبُه ولا طرفُه عنه طَرْفَةَ عين؛ لا يمنة ولا يسرة، بل قد توجه بقلبِه كلِّه إليه وأقبل بكليته عليه..
ثم إذا وقف المصلي بهذا الموقف شَرَعَ اللهُ له رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام؛ إتباعاً لسنَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وزينةً للصلاة، وعبوديةً خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح؛ فهو حليةُ الصلاة، وزينتُها وتعظيمٌ لشعائرها.
ثم كبَّره بالتعظيم والإجلال وَوَاطَأَ قلبُه في التكبير لسانَه وقال: الله أكبر؛ فكان اللهُ أكبر في قلبه من كلِّ شيء، وصدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله -تعالى- يشغله عنه فاز بنيل هذا المقام السامي.. فإن قال الله أكبر بلسانه دون قلبه؛ لانصرافه عن الإقبال على الله لم يذق طعم العبودية المتجلية في الصلاة؛ لكونها محلَ المناجاةِ وَمَعدِنَ المصافاة.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يرزقنا قرة العين في صلاتنا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: عند التأملِ في الصلاةِ وأثرِها على النفس بعدما يطلع المسلم على أسرارها يقف متألما على ما مضى من أيام صلى فيها؛ فقد صلى وهو شارد الذهن شا
المشاهدات 611 | التعليقات 0