أربع إن كن فيك فلا عليك (4) حُسن خلق

 

 

 
الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن دين الإسلام هو دين الفضائل والقيم؛ فما من خُلق حميد إلا ودلنا عليه ولا خصلة حميدة إلا وأرشدنا للزومها؛ ألا وإن من أعظم خصال الخير الجامعة للفضائل؛ ما جاء في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتَك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ، وَصِدْقُ حديثٍ، وحُسن خلقٍ، وعفَّةٌ في طُعمة"؛ والمعنى أي؛ "لا بأْسَ بما يَضيعُ من الدُّنْيا من مُتعٍ، إنْ كان المُسْلمُ بتلك الصفاتِ"، ويَحْتمِلُ: "أنه لا بأْسَ بما يفوتُ من الدُّنْيا إذا كان الفائِتُ منها ما يترتَّبُ من معاملاتٍ بتلك الخِصالِ".

 

عباد الله: إنها خصال حميدة وقيم راشدة وغنائم باردة؛ فيا سعادة من جسدها في حياته، وكان من أهلها؛ وتعالوا لنقف في هذا المقام مع الخصلة الرابعة التي أشار إليها خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-؛ قوله: "وحُسن خلق؛ والمراد بحُسن الخُلق كما عرفه ابن المبارك -رحمه الله- حيث قال: "هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى"، وزاد الإمام أحمد -رحمه الله- فقال: "أن تحتمل ما يكون من الناس".

 

وعرف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حُسن الخُلق فقال: "وجماع الخُلق الحَسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام، والإكرام، والدعاء له، والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم، والمنفعة، والمال وتعفو عمن ظلمك في دم، أو مال، أو عرض وبعض هذا واجب، وبعضه مستحب".

 

وحُسن الخُلق -أيها المؤمنون- من الأعمال الفاضلة والخصال الزاكية التي تقرب العبد من الله -جل وعلا-؛ ولما كان للخلق الحَسن تلك المنزلة العظيمة أثنى الله على عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- تحليه بالخُلق الحَسن؛ حيث قال في كتابه العزيز: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4].

بل إن من أسمى غايات بعثة خير البرية -عليه الصلاة والسلام- الحَسنة تتميم مكارم الأخلاق؛ روى البخاري في الأدب المفرد أن رسول الهدى قال: "إنما بُعِثْتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق".

 

وحسب الخُلق الحَسن؛ أنه علامة على اكتمال إيمان صاحبه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيمانا، أحسنهم خلقا، وخيارهم خيارهم لنسائهم"(أخرجه الترمذي).

 

فبالأخلاق الحَسنة تسعد الأمم وترقى وبتخليها عنها تضل وتشقى؛ وصدق الشاعر حين قال:

وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ *** فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ؛ ذَهَبُوا

 

وقال آخر:

إذا بيئة الإنسان يوما تغيرت *** فأخلاقه طبقا لها تتغير

والمرء بالأخلاق يسمو ذِكْرُه *** وبها يفضل في الورى ويوقر

 

ولحُسن الخُلق أنواع كثيرة؛ فأعظمها قدرا وأكثرها فضلا؛ حُسن خلق العبد مع ربه وخالقه، ويكون ذلك بالقبول بأحكامه والانقياد لشريعته والاستجابة لأوامره ولزوم فرائضه والخضوع له في عبادته، والوقوف عند حدوده وحرماته، وتلقي أقداره المؤلمة بالصبر والرضا؛ وهذا من علامات اكتمال خلق العبد مع ربه -سبحانه- القائل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [الْبَقَرَةِ: 155 - 157].

 

ومن أنواعه: حُسن الخُلق مع الخُلق؛ فيحسن المسلم إلى عامة الناس، فيوقر كبيرهم سنا وعلما وفضلا، ويعطف على صغيرهم ويرفق بضعيفهم ويعلم جاهلهم، ويبذل لهم المعروف ويكف الأذى عنهم ويعينهم على قضاء حوائجهم ويصلح بينهم ويسعى في تقوية رابط الأخوة والمحبة بينهم، ويكظم غيظه عن مسيئهم ويقابل ذلك بالإحسان والصفح والعفو؛ (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحُسنينَ)

ومن تمام تحلي المسلم بالخُلق الحَسن مع الناس؛ القيام بحقوق الأخوة الدينية التي أشار إليها نبي الرحمة بقوله: "المسلمُ أخو المسلمِ، لا يَظلِمُه، ولا يَحقِرُه، ولا يَخذُلُه، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، دَمُه -قال إسماعيلُ في حديثِه: ومالُه، وعِرْضُه-، التقْوى هاهنا، التقْوى هاهنا، التقْوى هاهنا، يُشيرُ إلى صدرِه ثلاثًا، بحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشرِّ أنْ يَحقِرَ أخاه المسلمَ."

 

ومن أنواع حُسن الخُلق: حُسن الخُلق مع البهائم والأنعام؛ ويكون ذلك بالرفق فيها وإعطائها حاجتها من المطعم والمشرب والمسكن وحمايتها من الآفات وحفظها مما يؤذيها، واستخدامها فيما خلقها الله تعالى لأجله؛ ولنتأمل في سيرة المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق كيف أوصى أمته بمراعاة هذه البهائم حتى عند ذبحها؛ فأوصى بما يجب فعله عند ذلك؛ كما جاء من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-: "إنّ اللهَ عز وجل كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ، فأحُسنوا القتلةَ، وإذا ذبحتُمْ، فأحُسنوا الذَّبحَ، وليحدَّ أحدُكُم شفرتَهُ، وليُرِحْ ذبيحتَهُ"(صححه الألباني).

 

أيها المؤمنون: وإذا ما تحلى العبد بالأخلاق الحَسنة في حياته مع ربه، ومع الناس ومع الخُلق كافة أثمر ذلك في حياته وبعد مماته، وفي هذه السطور نذكر -بعضا- من ثمار الخُلق الحَسن على صاحبه في الدنيا والآخرة؛ فمن ذلك:

محبة الله -تعالى- لصاحب الأخلاق الحَسنة؛ وكفى بذلك فخرا وتكريما وشرفا وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحبُّ عبادِ اللَّه إلى اللَّهِ أحُسنهُم خُلُقًا"؛ بل إن صاحب الخُلق الحَسن يوضع له القبول بين الخُلق؛ فتجد الناس يثنون على صاحبه ويشيدون به.

 

كما أن التحلي بالأخلاق الحَسنة: سبب لمحبة الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد صح عنه أنه قال: "إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا".

 

ومن ثمار الاتصاف بالخُلق الحَسن: البركة في حياة صاحبه فحُسن الخُلق مع إحسان الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار؛ كما روت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "حُسن الخُلق وحُسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"(أخرجه أحمد).

 

ومن ثماره: أن العبد يدرك بحُسن خلقه درجة الصائم القائم؛ كما صح عن أبي القاسم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن المؤمن ليدرك بحُسن خلقه درجة الصائم القائم"(صححه الألباني).

 

ومن ثمار التمسك بالخُلق الحَسن: أنه أثقل الأعمال في الميزان يوم لقاء الواحد الديان؛ "ما من شيء في الميزان أثقل من حُسن الخُلق".

 

ومن آثار التحلي بالخُلق الحَسن: أنه سبيل العبد إلى جنة ربه؛ ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: سئل رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: "تقوى اللّه وحُسن الخُلق"(رواه مسلم)؛ بل إن الرسول الأمين ضمن لصاحب الخُلق الحَسن ببيت في أعلى الجنة؛ عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "وببيت في أعلى الجنة لمن حُسن خلقه"(حُسنه الألباني).

 

 عباد الله: ما أجمل أن يتحلى المسلم بالخُلق الحَسن مع ربه ومع كافة الخُلق؛ فدين الإسلام دين الأخلاق والقيم؛ فهنيئا لمن حسن خلقه وعزاء لمن ساء خلقه؛ ومن أصيب في أخلاقه فلنقم عليه مأتما وعويلا؛ وصدق الشاعر حين قال:

وإذا أُصِيبَ القومُ في أخلاقهم *** فَأَقِمْ عليهم مأتمًا وعَوِيلَا

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

أيها المؤمنون: وحتى نكون من أصحاب الأخلاق الحَسنة ونجني ثمارها الباسقة وآثارها النافعة في الدنيا والآخرة لابد أن ننظر في وصايا سادة الأخلاق الحَسنة وأربابها من الصحابة الكرام والسلف الأعلام؛ ففيها التبصرة للغافلين والتذكرة للعارفين وهي معين على التمسك بالخُلق الحَسن؛ فتعالوا لنقف في هذا المقام مع جميل أقوالهم وحُسن توصياتهم فمن ذلك:

قول الخليفة الرابع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حُسن الخُلق في ثلاث خصال؛ اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال."

 

وقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد، ويبلغ بسوء خلقه أسفل درك في جهنم وهو عابد".

 

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "معالي الأخلاق للمؤمن، قوة في لين وحزم في دين وإيمان في يقين وحرص على العلم واقتصاد في النفقة، وبذل في السعة وقناعة في الفاقة، ورحمة للمجهود وإعطاء في كرم وبر في استقامة".

 

ونُقِل عن الإمام الماوردي -رحمه الله- أنه قال: "إذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه، وقل معادوه، فتسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب".

 

وقال ابن حبان -رحمه الله-: "الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق، وترك سوء الخُلق، لأن الخُلق الحَسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخُلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخُلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها".

 

أيها المسلمون: علينا أن نجعل وصايا نبينا -صلى الله عليه وسلم- نصب أعيننا وأن نعمل بها وأن نجسدها في حياتنا؛ ففي تمثلها الخير والصلاح والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فيا سعادة من حسنت أخلاقه وكملت صفاته، ويا تعاسة من قبحت أخلاقه وساءت صفاته.

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

 

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.

المشاهدات 577 | التعليقات 0