أخي . . يا أيها الخطيب الرباني ( 3/4 )

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1435/01/27 - 2013/11/30 10:15AM
[font="]أخي الحبيب . .يا أيها الخطيب الرباني ( 3/4 )[/font]
[font="]حُسْنُ الظنّ بالمُتَكلّم . . بين التضييع والتمييع :[/font]
[font="] من الأصول العلمية المنهجيّة و التربويّة التي تميّز الربّانيّين من الخطباء ، وتشكّل قيمةً إيجابيّةً راقية في التواصُل والنقد والحوار لديهم : إحسان الظنّ بالمتكلّم في الجملة ، وحمل كلامه الموهِم على أحسن المحامل و أجودها ما أمكن ، وهذه القيمةُ تعكسُ في الحقيقة شخصيّةً مستقبِلةً راقية ، تحوي نفسًا كبيرةً سامية ، تخلّصت من شوائبِ الشهوات ، و تشبّعت بالصدق و الإخلاص و التجرّد ،لأنّها تعشقُ الحقيقةَ لذاتِها فهي تأخذُ بها على لسان من ظهرت . . [/font]
غير أنّهُ في المقابل : ليسَ كلُّ الناسِ يوهمون في الكلامَ ويريدُون الحق ! :
فحينَ تتعاملُ النفسُ مع الاشتباه و الإيهامِ في الكلامِ بمطلق حُسن الظنّ ، دونَ ربطِ التبيين والتمحيص بطريقة القائل وسيرته ومذهبه المعروف المشهور ، وما اعتاده في الدعوة مما هو مشهورٌ عنه مستفيض ؛ تقعُ الفتنةُ و التدليس ، وينفتحُ على الناسِ بموجبِ ذلكَ ما لا يُحصَى من مصايدِ إبليس ، و خاصّةً أنَّ الشُّبَهَ خطّافةٌ ، ولكلّ ساقطةٍ لاقطة ! .
فالموضوعُ إذًا يحتاجُ إلى استقامةٍ بين التضييع والتمييع . . و الفضيلةُ مرتبةٌ بين رذيلتين ! .
حَول هذا التوازُنِ يكونُ الكلامُ الذي توسّعُهُ مداخلات الأساتذة الأفاضل ، ونسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضَى .
أخي الحبيب . . أيها الخطيب الرباني :
المخرجُ : حمل المشتبه من كلام المتكلم على الواضح من مذهبه وسيرته :
إذا صدرَ من الشخصِ كلامٌ يحتملُ حقًّا وباطلاً ، فالواجبُ على المنصفِ العفيف حملُهُ على معتادِ طريقةِ الشخص و سيرتِهِ و مذهبِه ، بهذه الطريقةِ يحصُلُ التبيين بإنصافٍ و عدل ، و هو دليلٌ على إنصافِ المستمعِ ، وإرادته الحقيقة بلا شهوةٍ أو شبهة .
فإن كانت طريقةُ المتكلّمِ وسيرتهُ و ما يدعو إليه ويوالي عليه محضَ الباطل في المستفيض المشهور عنه ؛ حَكمَ المتلقّي على المشتبَهِ من كلامِهِ وفق المعهود منه ، و زال الاشتباهُ و الإيهام ، وظهرَ إرادته للباطل مع سوء التعبير ، وما ظلمَ إلاّ نفسَه !
وإن كانت طريقتُهُ وسيرتُهُ و ما يدعو إليه ويوالي عليه محضَ الحقّ في المستفيضِ المشهورِ عنه ؛ حَكَمَ المتلقّي على المشتبه من كلامه وفق المعهود منه ، وزال الاشتباهُ والإيهام وظهر إرادته للحقّ مع سوء التعبير منه .
أخي الحبيب . . أيها الخطيب الرباني :
هذه القاعدةُ في الحملِ والتبيين دلُّ عليها الشرع والعقل و كلامُ الراسخين في العلم والأدب والمنهج :
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : " والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر به " مدارج السالكين (3/521) .
فهذا تأصيلٌ واضحٌ أصيلٌ من إمامٍ راسخٍ في العلم والأدب و المنهج ، يبيّن بكلّ جلاءٍ أنَّ الاعتبار في الحكمِ على المشتبَهِ من كلامِ الناس ليس مجرّد ما تحتمله الكلمةُ في قاموس اللغة ، ولا الجنوحَ إلى أسوءِ ما تحتمله و العياذ بالله ؛ إنّما الاعتبارُ و الارتكازُ في التبيين يرجعُ إلى طريقة القائل وسيرته ومذهبه المعروف المشهور ، وما اعتاده في الدعوة مما هو مشهورٌ عنه مستفيض ، أو ما يناظرُ به إن كان من أهل الحِجاج والمناظرة ، هذا هو المعتمدُ عند العلماء الربّانيّين .
فطريقة القائل ومذهبه : منهجه الذي يتبنّاهُ ويتحاكم إليه و يوالي أهلَه ، بحيثُ صارَ بالنسبة إليه سيرةً وطريقةً مشهورة مستفيضة .
و ما يدعوا إليه ويناظر به : اعتبار قواعد منهجه في دعوته وكتاباته ومحاضراته وما يناظر به إن كان من أهل الحِجاج والمناظرة .
والمقصودُ من كلام ابن القيّم -رحمه الله - : أنَّ الحكم على الكلمة في النهاية يُعْتَبَرُ فيه ما عُرِفَ عن الشخص المتكلم في المذهب و التطبيق والدعوة بمختلف مجالاتها ، لا ما هو حاصلٌ من موقفِ النفسِ حول الكلام المسموعِ أو المقروء منفصلاً ، فإنّ النفسَ تعتريها عوارضُ الشهوة والشبهة عند الاستماع والقراءة ، وهي عوارض - إن حصلت حال الاستماع أو القراءة - صرفت عن المعنى المقصودِ في واقع الأمر ، ولا يزول الاشتباهُ إلا بالاستقراء والتتبّع . .
هذا ما يقتضيه العدلُ و الإنصاف أخي الحبيب ، و هو خلقٌ عزيزٌ و أفضل حليةٍ تحلّى بها الرجل ، أن تعطي غيرك من الحق مثل الذي تحب أن تأخذه منه لو كنت مكانه ! .
قال ابن القيم - رحمه الله - : " والله تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضل حليةٍ تحلى بها الرجل،خصوصًا من نصَّبَ نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ ﴾( الشورى:15) ، فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف ، وألاَّ يميل أحدهم مع قريبه ، وذوي مذهبه ، وطائفته ، ومتبوعه، بل يكون الحق مطلوبه ، يسير بسيره ، وينزل بنزوله ، ويدين بدين العدل والإنصاف " ( إعلام الموقعين 3/126-127 ) . فانظر أخي الحبيب في منهاج الأئمّة الربّانيّين ما أوضحه وما أجلّه ! .
أخي الحبيب . . أيها الخطيب الرباني :
الحقُّ يخرُجُ من مشكاةٍ واحدة ؛ فانظُر كيفَ يُشبهُ كلامَ ابنِ القيّم جملةٌ لشيخِه شيخِ الإسلامِ ابن تيميّة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :" ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عُرِفَ أنه أراده ، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كلّ أحد " ( مجموع الفتاوى 7 /36 ) .
رحم الله شيوخ العدلِ و علماءَ الإنصاف ، و ما أجلَّها من قيمة إيجابيّة لدى الخطيب وهو يقرأُ أو يستمع !

[font="] أكتفي بهذه الإضاءة المنهجيّة التربويّة ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين [/font]
المشاهدات 1795 | التعليقات 0