أُخوَّة المسجد \ د. عامر الهوشان

احمد ابوبكر
1437/07/17 - 2016/04/24 08:56AM
[align=justify]كثيرة هي العلاقات الاجتماعية التي يعقدها المسلم في مسيرة حياته , وكثيرون من يختارهم لصحبته في المدرسة أو الجامعة أو العمل أو ... إلا أن صحبة المسجد تبقى مميزة عن سائر هذه العلاقات والصداقات , ويبقى لها سر خاص لا يمكن أن يعرفه إلا من خبره وعايشه وذاق طعم الأخوة في الله .



والحقيقة أن كلمة السر في خصوصية صحبة المسجد تكمن في نوعية الرابط الذي يربط بين المتآخين فيه , فهي ليست رابطة دنيوية كما هو واقع كثير من علاقات وصداقات الناس في هذه الأيام , بل هي رابطة فريدة من نوعها , رابطة مركزها وأساسها وجذرها الإيمان بالله تعالى ومحبته , وهو ما يجعلها أرقى وأقدس العلاقات الإنسانية على الإطلاق .



وأخوة المسجد التي تقوم على أساس الحب في الله والبغض في الله والاجتماع عليه والتفرق عليه هي في الحقيقة نعمة من أجل النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده المؤمنين , وكيف لا وقد امتن الله بهذه النعمة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ....} آل عمران/103 , بل وامتن الله بها على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ببيان فضل الله في التأليف بين قلوب أصحابه على دينه ورسوله الخاتم : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } الأنفال/62-63



نعم ...هي نعمة من أجل النعم , ومنحة من أعظم المنح الإلهية , لا يشعر بقيمتها وأثرها في حياته إلا من فرقت المسافات والأميال بينه وبين بعض من جمعته بهم صحبة المسجد ودروس القرآن والعلم وصلاة الجماعة وطاعة الله تعالى عموما , أو حال الموت بينه وبين بعضهم الآخر .... فيشعر بالحنين والشوق الشديد للقاء من جمعته بهم محبة موصولة بالله سبحانه وتعالى .



ليست أخوة المسجد اسما من غير رسم ولا عنونا من غير مضمون أو جوهر , بل هي سمات وصفات يسعى للتحلي بها من عرف معنى الحب في الله والبغض في الله بحق , وممارسات وأفعال يجاهد للتخلق بها من أدرك عظيم منزلة هذه العلاقة التي لم تعرف بهذا الاسم والرسم إلا في دين الله الخاتم .



فمن أهم سمات أخوة المسجد أنها صحبة خالصة لله تعالى , ليس الغرض منها متاع من الدنيا زائل , ولا غرض من أغراضها عابر , بالإضافة لكونها صحبة مقرونة بالتقوى والعمل الصالح , وملتزمة بمنهج الإسلام وأحكامه , وقائمة على التعاون والتكافل في حالة السراء والضراء وعند اليسر والعسر .



ولعل من أهم ما يميز أخوة المسجد عن غيرها من العلاقات المنتشرة في أيامنا هذه – كالزمالة والصداقة والمعرفة .....الخ – أنها أخوة عملية حقيقة لا نظرية وهمية , وأنها تظهر في أوقات الفزع والشدة والبأس , و تعف عن الطمع في أيام الرخاء واليسر , وهو عكس ما هي عليه علاقات كثير من الناس بعضهم مع بعض هذه الأيام .



ومن أراد مثالا حيا على اجتماع هذه السمات والصفات في أحد , فما عليه إلا أن يطالع سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار , الذين كانوا بالفعل نموذجا فريدا في تطبيق هذه الأخوة على الوجه الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .



ويكفي أن أحدهم من الأنصار كان يعرض على أخيه من المهاجرين نصف ما يملك من مال ومتاع وحتى زوجات , فيبادل المهاجري كرم الأنصاري بعفة راقية وسمو عجيب , بل ويدعو له أن يبارك الله له في ماله وأهله , ويكتفي بالقول : دلني على السوق !



ونظرا لمكانة ومنزلة هذه العلاقة الإيمانية الراقية , ولمواصفاتها وشروطها الدقيقة الثقيلة , فإنه من الطبيعي أن تكون عملة نادرة في هذه الأيام , فمن كان له أخ بهذه الصفات والسمات – وهي لن تبلغ بالتاكيد ما كان عليه الصحابة و التابعون .... - فليحرص عليه كل الحرص , وليعض على صحبته وأخوته بالنواجذ , قبل أن تحول محن الدنيا وابتلاءاتها بينه وبين هذا الكنز الثمين .



ولعل هذا ما دفع بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمنى أن يكون له ملئ بيته أخوة في الله و رجالا من أمثال هؤلاء الشموس والبدور الذين لن يجود الزمان بمثلهم , فقد ورد في المستدرك للحاكم عن زيد بن أسلم حدثه عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه : تمنوا . فقال بعضهم : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله و أتصدق . و قال رجل : أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا و جوهرا فأنفقة في سبيل الله و أتصدق . ثم قال عمر تمنوا فقالوا : ما ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر : أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة و حذيفة بن اليمان . المستدرك برقم/5005 وقال الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم .



بل إن المحبة التي جمعهم عليها دين الله الخاتم جعلت أحدهم - ممن امتدت به الحياة بعد موت خاتم الأنبياء وكثير من أصحابة الكرام - .....يبكي عند ذكراهم حنينا وشوقا إليهم وإلى أيام صحبتهم , فهذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال رضي الله عنه يقول لامرأته التي كانت تقول عندما احتضر : واحزناه فيقول: "بل وا طرباه غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه" .



وهذه هي عبدة بنت خالد بن معدان تقول : "ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا و هو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى أصحابه من المهاجرين و الأنصار يسميهم و يقول : هم أصلي و فصلي و إليهم يحن قلبي طال شوقي إليهم فعجل ربي قبضي إليك حتى يغلبه النوم" .



لا يمكن ذكر جميع الفوائد والمنافع التي يجنيها المسلم من أخوة وصحبة المسجد في الدنيا قبل الآخرة في مقال , ويكفي الإشارة إلى أن أخوة المسجد تضمن للمسلم من ينبهه إذا أخطأ , وينصحه إذا شرد , ويكون عونا له في الشدائد , وحرزا له من شياطين الإنس والجن الذين يريدون غوايته وانحرافه عن جادة صراط الله المستقيم .



أما في الآخرة فيكفي أن صحبة المسجد والأخوة في الله هي أحد أسباب نيل جائزة الوقوف في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله , فقد ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ .......... وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ......) صحيح البخاري برقم/660



وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِى الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِى ظِلِّى يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّى ) صحيح مسلم برقم/6713 .
[/align]
المشاهدات 527 | التعليقات 0