أخوة الدين, بين أحداث الشام, وحادثة عرعر
د. منصور الصقعوب
1436/03/17 - 2015/01/08 22:44PM
الخطبة الأولى 20/3/1436هـ
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم؛ ألف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم إخوة متحابين، فبدينه يجتمعون، وفيه يوالون ويعادون، وعليه يتعاضدون ويتناصرون
إن مما تميز به دين الإسلام أنه دين تحاب وتآخي وتناصر, لن تجد في الملل والنحل دينا يأمر أتباعه بالتصافي والمودة كما يأمر الإسلامُ المسلمين.
في دين الإسلام لا تفرق بين المسلمين حدود, لا تفرق بينهم ألوان, ولا أعراق ولا لغات, وما أروع ذلكم التشبيه الذي ساقه إمام البيان عليه السلام حين قال " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد...."
إن انتسابك لهذا الدين يعني أنك تتبع منظمة واحدة, وكتلة مترابطة, أينما ذُكر الإسلام في الأرض, فهي أرضُك, وأينما نطق أحدٌ بالإسلام في أي أرض فهو أخوك.
فأينما ذكر الإسلام في بلد
عددت أوطانه من صلب أوطاني
ولأجل هذا الأمر, فأنت لك امتداد, وعليك مسؤلية, والذي يظن أن الإسلام دين فردي فهو مخطيء, وإلا فأين ( إنما المؤمنون أخوة) وأين (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)وأين ( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وأين «لَا يُؤْمِنُ أحدكم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»وأين«لا تُؤْمِنُوا حتى تَحَابُّوا»
ولأجل هذه الرابطة, وتلكم الآصرة, فإن المسلم الذي حقق الأخوة تجده إذا رأى مريضا تألم لمرضه، وسعى في التخفيف عنه، وإن أبصر فقيراً معدما بذل له ما يعينه على عيشه، وإن سمع عن مصاب مسلم انزعج ودعا له، وإن أحس تغيراً في الجو بحرٍّ لافح، أو برد قارس، أو مطر مغرق؛ قلق على إخوانه المسلمين، وتذكر أحوال الضعفة والعاجزين, قلبه موزع بين ديار الإسلام, وهمه وفكره معهم,
جاء إلى النبي ق قوم من مضر, وهم حُفَاةٌ عُرَاةٌ فتَمَعَّرَ وَجْهُه لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الفَاقَةِ؛ فَخَطَبَ النَّاسَ؛ يَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فلما تَتَابَعَ النَّاسُ بِالصَّدَقَةِ حَتَّى كَثُرَتْ، وَسُدَّتْ حَاجَتُهُمْ؛ فتأمل شعوره, حين تمعر وجهه لفقرهم, ثم تهلل وجههه حين سد عوزهم,
ولما خفر المشركون ذمة بني كعب، ونقضوا عهدهم؛ خرج النبي ق لنصرتهم وهو يقول: «لا نُصِرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي، فكان فتح مكة المبين».
هكذا كان عليه السلام إحساسا بالمؤمنين، ومحبة لهم، ورحمة بهم، وسعيا في نصرتهم ونجدتهم.
ولَمَّا غَلاَ السَّمْنُ فِي عَهْدِ عُمَرَ طاكْتَفَى بِالزَّيْتِ؛ فَقَرْقَرَ بَطْنُهُ مِنْهُ، فَقال ط:«قَرْقِرْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ، لاَ تَأْكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَأْكُلَهُ النَّاسُ».
قال أبو حازم الأعرج:«لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيها أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا».
وذُكر أن محمد بن عبدوس المالكي، ذهبَ إلى أحدِ أصحابه في ليلةٍ وعليه جُبَّةَ صوف، وكانت ليلةً شاتيةً، فقال له: ما نمتُ الليلةَ غمّاً لفقراءِ أمة محمد، ثم قال: هذه مائةُ دينار ذهباً، غلةُ ضيعتي هذا العام، أحذر أن تُمسي وعندك منها شيء وانصرف.
وجاء رجل من أهل الشام فقال: دُلُّوني على صفوان بن سُلَيْم, فإني رأيته دخل الجنة, قيل له: بأي شيء؟ قال: بقميص كَسَاه إنساناً, فسأل بعض إخوان صفوان صفواناً عن قصة القميص، فقال: خرجت من المسجد في ليلة باردة، وإذا برجل عار، فنزعت قميصي فكسوته.
وحدثنا من كان مع الشيخ ابن باز, أنه أتاه يوماً خبر الحكم على بعض الدعاة في أفريقيا بالقتل, وسينفذ فيهم القتل في صباح الغد, فاهتم لذلك وقلق, وظل يتواصل مع المسؤلين, وما طلع الفجر إلا وقد عدل عن القرار, وأطلق سراح الدعاة.
هكذا كانوا, قلوبهم تفيض أخوة, وتمتليء نصرة, لمن قرب, ومن بعُد, فما هي حالنا اليوم, إن من المؤسف أيها الكرام أن تسمع من يقول: مالنا وللآخرين, مالنا وللدول الأخرى, لا تحدثونا عن همومٍ في خارج بلادنا, وناقشوا قضايانا, دعونا من لاجئي بورما, ومن فقراء سوريا, بل وحتى الأقصى بات عند بعض هؤلاء قضية داخلية تختص ببلد واحدٍ فلماذا نعيش حرباً مع الآخرين لأجل فلسطين, ولأجل الفقراء والمعوزين هنا أو هناك, وإن المرء ليعجب غاية العجب من هذا الفهم ما أسقمه, وهذا القول ما أتفهه, فمنذ متى والمسلمون هموهم قُطرية, واهتماماتهم لا تتجاوز قراهم, وقد رأيت قبلُ بعض أحوال الصالحين كيف أنهم يعيشون هموم الأمة في سائر أمورهم.
معشر الكرام: وحين انحرف مفهوم الأخوة لدى البعض ربما آخى عدوه, وقلى أخاه, ربما حزن لمصاب كفارٍ, ولم يتحرك قلبه لمصاب المسلمين, ربما أحب الكافر, وأبغض المسلم, بل ولربما سلم منه اليهود والنصارى ولم يسلم منه إخواننا, وكل هذا يجعلنا نقول أن أخوة الدين كلمة ليست وساماً يعلّق بلا أثر, ليست كلمة تردد بلا ثمرة, أخوة الدين أقوى وأرقى وأنقى وأمتن من أخوة النسب, وقد أعان مصعب بن عمير على أسر أخيه عمير, وحين عتب أخوه قال مصعب: هذا أخي دونك, نعم, أخوة تلغي كل أخوة غيرها إذا عارضتها, أخوة الدين تعني أن المسلمين هم إخوانك, بغض النظر عن بلادهم وألسنتهم وأعمالهم, وإن النظرة إلى الناس باعتبار دنياهم, والتعامل معه بحسب ذلك, ليست من الدين في شيء, بل المسلم أخٌ, وإن افتقر وإن جهل وإن ظلم, وإن قاتلك, واعتبر بقول الحق سبحانه ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا..) ثم قال بعدها (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)
أخوة الدين تجعلنا نحزن لما يحل بإخواننا في بلاد الشام, الذين أجهدهم العوزُ، وألح عليهم الفقر؛ فهزلت أبدانهم، واصفرَّت وجوههم، وعدتْ عليهم الأمطارُ, وغطت خيامهم البائسة الثلوج.
وبعد الحزن علينا أن نتبعه بخطواتٍ عملية في السعي لسد حاجة المحتاجين قدر المكنة والاستطاعة, ولو بالقليل, تبريء به الذمة, وقد وَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ رحمه الله تعالى إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنْ فَضْلِ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوعًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْيَانًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ».
هذه الآخية التي ننتسب لها تجعلنا نتسائل حين نبيت بدفء وأمن وشِبَعٍ, ماذا بذلنا لإخواننا, الذين يموت اليوم بعض صغارهم من شدة البرد, وإذا اجتمع الجوع مع الخوف مع البرد فلا تسل عن حجم المعاناة.
حين ترى صور الثلوج تتساقط, والبعض هناك لا يجد ما يستر به بدنه, ولا ما يوقد ناره, يحق لنا أن نبكي على الأخوة التي قصرنا فيها
حين ترى أطفالاً هناك ينقبون النفايات بحثاً عن كسرة, في حين أن منا من يصاب بالتخمة, وحين ترى من يبحث عن قرش ليطعم به, في حين أننا نصرف أموالنا وراء السياحة والرياضة والأسفار والترف, ونرمي بالولائم في المخلفات, وترى عيون الأطفال في بلاد الشام وغيرها تتسائل: أين أخوة الدين التي تعلمناها, حينها يجدر بنا أن نندب أخوة فقدناها ومات فينا الشعور بها.
إننا إخوةٌ يا أيها الإخوة, والأخوة لها تبعة, وعليها حِملٌ, والأخ الحق من يسعى جهده, حتى يعذره الله, وإن الذي أحل بغيرك المثلات, قادر على أن يديل الأحوال, ويغير الواقع, ويقلب الأمن خوفاً, والشبع جوعاً, وليس بننا وبين الله نسب, ولن يُعدم الراغب في البذل والمساعدة من طرق آمنة عبر جمعيات مصرحة كهيئة الإغاثة والندوة العالمية وغيرها.
في الصحيح أنه ق قال: قال تعالى «يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني!! فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟
فاللهم سد حاجة المحتاجين, ولا تؤاخذنا بتقصيرنا تجاه إخواننا المسلمين, اللهم صل على محمد
الحمد لله الذي بين المحجة وأقام الحجة, والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه, أما بعد
أخوة الدين أيها الكرام تجعلنا نسعى لنصرة ديننا, وفي المقابل يكون ذلك على وفق معتقدنا, وتجعلنا نستنكر كل حدث من شأنه أن يشتت صفنا, ويقتل الأبرياء منا, ويهدد أمننا, وما حادث القتل الذي نال بعض رجال الأمن قبل أيام إلا نموذج لذلك, ولست أدري أي فهمٍ يجعل إنساناً ينطق بالإسلام, يتقدم ليزهق روحه وروح غيره, وهما سوءتان إحداهما أسوأ من الأخرى, ففي الأولى قال المولى ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً...) وقال النبي ق "مَنْ قَتَلَ مؤمناً، فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِه ـ أي فرح ـ لم يَقْبل الله منه صَرفا ولا عَدلا" وفي الثانية قال المصطفى ق " ومن قتل نفسه بشيء عُذّب به يوم القيامة" رواه مسلم
وليس يخفى أن مثل هذه الأمور ليست من الأخوة في شيء, ولا يقدم عليها إلا من يرى أن لا أخوة بينه وبين من قتله, وتلك والله المصيبة, حين يكفِّر ثم يستحل بذلك الدماء, فهل هان دم المسلم, أياً كان المسلم, حتى يسفك بمثل هذه المقدمات الجاهلة.
إن معتقدنا الذي نعلنه وبأعلى الصوت أن المسلم لا يجوز التعدي عليه بقتل بل وبما دون القتل, بل ولا بالشوكة, وأين تذهب نداءات النبي عليه السلام في البلد الحرام, واليوم الحرام, والشهر الحرام, أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وإن العلم
معشر الكرام: وأخوة الدين تجعلنا ننصح لإخواننا حتى من انحرف فكره, فسلك مسالك الغلو وبات يكفر القاصي والداني, بشبه واهية, وقد قال علي ط في حق من خرجوا عليه: "إخواننا بغوا علينا" ومن منطلق لفظ علي ط نقول لكل شاب: إن الأمة اليوم هي بأمس الحاجة إلى توحيد صفها ضد عدوها الذي استبانت عداوته, وهم الكفار, وإننا على يقين أن الرافضة والنصارى ليفرحون بالمصيبة حين تحل, وبالأمن حين يهتز, فهل يليق بمن له أدنى مسكة عقل أن يوجه سهامه إلى حيث مأرز الإيمان, بمصداق قول الرسول عليه السلام.
وإن العلم إذا لم يصحبه فهم, وتقوى, فربما أودى بصاحبه إلى المهاوي, نسأل الله العافية, إن عبد الرحمن بن ملجم كان من قراء القرآن, قرأه على معاذ بن جبل رضي الله عنه, وكان مقتناً له, حتى لقد كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص : أَنْ قَرِّبْ دَارَ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ مُلْجَمٍ مِنَ المَسْجِدِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ" تأمل!!
وماذا بعد؟ إن ابن ملجمٍ هو الذي قتل علياً ط وهو خارج لصلاة الفجر, ومتى, في شهر رمضان, لتعلم أن الانحراف خطير, وأن الإسلام كما يحذر من الجفاء والمعاصي والمنكرات, يحذّر أيضاً من الغلو, ودين الله وسط بين الغالي والجافي, حمى الله بلاد المسلمين, وأبناءهم من جفاء الجافين وغلو الغالين.
جماع الأمر يا أيها الكرام أن أخوة الدين ليست عواطف, بل تدين, وليست دعاوى, بل حقائق, وأخوة الدين شرفٌ لكن لمن حققها, ووسام لكن لمن عمل بمقتضاها, وواجبات, وإن خالفت الهوى والرغبات.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وألف بين المسلمين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم؛ ألف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم إخوة متحابين، فبدينه يجتمعون، وفيه يوالون ويعادون، وعليه يتعاضدون ويتناصرون
إن مما تميز به دين الإسلام أنه دين تحاب وتآخي وتناصر, لن تجد في الملل والنحل دينا يأمر أتباعه بالتصافي والمودة كما يأمر الإسلامُ المسلمين.
في دين الإسلام لا تفرق بين المسلمين حدود, لا تفرق بينهم ألوان, ولا أعراق ولا لغات, وما أروع ذلكم التشبيه الذي ساقه إمام البيان عليه السلام حين قال " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد...."
إن انتسابك لهذا الدين يعني أنك تتبع منظمة واحدة, وكتلة مترابطة, أينما ذُكر الإسلام في الأرض, فهي أرضُك, وأينما نطق أحدٌ بالإسلام في أي أرض فهو أخوك.
فأينما ذكر الإسلام في بلد
عددت أوطانه من صلب أوطاني
ولأجل هذا الأمر, فأنت لك امتداد, وعليك مسؤلية, والذي يظن أن الإسلام دين فردي فهو مخطيء, وإلا فأين ( إنما المؤمنون أخوة) وأين (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)وأين ( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وأين «لَا يُؤْمِنُ أحدكم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»وأين«لا تُؤْمِنُوا حتى تَحَابُّوا»
ولأجل هذه الرابطة, وتلكم الآصرة, فإن المسلم الذي حقق الأخوة تجده إذا رأى مريضا تألم لمرضه، وسعى في التخفيف عنه، وإن أبصر فقيراً معدما بذل له ما يعينه على عيشه، وإن سمع عن مصاب مسلم انزعج ودعا له، وإن أحس تغيراً في الجو بحرٍّ لافح، أو برد قارس، أو مطر مغرق؛ قلق على إخوانه المسلمين، وتذكر أحوال الضعفة والعاجزين, قلبه موزع بين ديار الإسلام, وهمه وفكره معهم,
جاء إلى النبي ق قوم من مضر, وهم حُفَاةٌ عُرَاةٌ فتَمَعَّرَ وَجْهُه لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الفَاقَةِ؛ فَخَطَبَ النَّاسَ؛ يَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فلما تَتَابَعَ النَّاسُ بِالصَّدَقَةِ حَتَّى كَثُرَتْ، وَسُدَّتْ حَاجَتُهُمْ؛ فتأمل شعوره, حين تمعر وجهه لفقرهم, ثم تهلل وجههه حين سد عوزهم,
ولما خفر المشركون ذمة بني كعب، ونقضوا عهدهم؛ خرج النبي ق لنصرتهم وهو يقول: «لا نُصِرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي، فكان فتح مكة المبين».
هكذا كان عليه السلام إحساسا بالمؤمنين، ومحبة لهم، ورحمة بهم، وسعيا في نصرتهم ونجدتهم.
ولَمَّا غَلاَ السَّمْنُ فِي عَهْدِ عُمَرَ طاكْتَفَى بِالزَّيْتِ؛ فَقَرْقَرَ بَطْنُهُ مِنْهُ، فَقال ط:«قَرْقِرْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ، لاَ تَأْكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَأْكُلَهُ النَّاسُ».
قال أبو حازم الأعرج:«لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيها أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا».
وذُكر أن محمد بن عبدوس المالكي، ذهبَ إلى أحدِ أصحابه في ليلةٍ وعليه جُبَّةَ صوف، وكانت ليلةً شاتيةً، فقال له: ما نمتُ الليلةَ غمّاً لفقراءِ أمة محمد، ثم قال: هذه مائةُ دينار ذهباً، غلةُ ضيعتي هذا العام، أحذر أن تُمسي وعندك منها شيء وانصرف.
وجاء رجل من أهل الشام فقال: دُلُّوني على صفوان بن سُلَيْم, فإني رأيته دخل الجنة, قيل له: بأي شيء؟ قال: بقميص كَسَاه إنساناً, فسأل بعض إخوان صفوان صفواناً عن قصة القميص، فقال: خرجت من المسجد في ليلة باردة، وإذا برجل عار، فنزعت قميصي فكسوته.
وحدثنا من كان مع الشيخ ابن باز, أنه أتاه يوماً خبر الحكم على بعض الدعاة في أفريقيا بالقتل, وسينفذ فيهم القتل في صباح الغد, فاهتم لذلك وقلق, وظل يتواصل مع المسؤلين, وما طلع الفجر إلا وقد عدل عن القرار, وأطلق سراح الدعاة.
هكذا كانوا, قلوبهم تفيض أخوة, وتمتليء نصرة, لمن قرب, ومن بعُد, فما هي حالنا اليوم, إن من المؤسف أيها الكرام أن تسمع من يقول: مالنا وللآخرين, مالنا وللدول الأخرى, لا تحدثونا عن همومٍ في خارج بلادنا, وناقشوا قضايانا, دعونا من لاجئي بورما, ومن فقراء سوريا, بل وحتى الأقصى بات عند بعض هؤلاء قضية داخلية تختص ببلد واحدٍ فلماذا نعيش حرباً مع الآخرين لأجل فلسطين, ولأجل الفقراء والمعوزين هنا أو هناك, وإن المرء ليعجب غاية العجب من هذا الفهم ما أسقمه, وهذا القول ما أتفهه, فمنذ متى والمسلمون هموهم قُطرية, واهتماماتهم لا تتجاوز قراهم, وقد رأيت قبلُ بعض أحوال الصالحين كيف أنهم يعيشون هموم الأمة في سائر أمورهم.
معشر الكرام: وحين انحرف مفهوم الأخوة لدى البعض ربما آخى عدوه, وقلى أخاه, ربما حزن لمصاب كفارٍ, ولم يتحرك قلبه لمصاب المسلمين, ربما أحب الكافر, وأبغض المسلم, بل ولربما سلم منه اليهود والنصارى ولم يسلم منه إخواننا, وكل هذا يجعلنا نقول أن أخوة الدين كلمة ليست وساماً يعلّق بلا أثر, ليست كلمة تردد بلا ثمرة, أخوة الدين أقوى وأرقى وأنقى وأمتن من أخوة النسب, وقد أعان مصعب بن عمير على أسر أخيه عمير, وحين عتب أخوه قال مصعب: هذا أخي دونك, نعم, أخوة تلغي كل أخوة غيرها إذا عارضتها, أخوة الدين تعني أن المسلمين هم إخوانك, بغض النظر عن بلادهم وألسنتهم وأعمالهم, وإن النظرة إلى الناس باعتبار دنياهم, والتعامل معه بحسب ذلك, ليست من الدين في شيء, بل المسلم أخٌ, وإن افتقر وإن جهل وإن ظلم, وإن قاتلك, واعتبر بقول الحق سبحانه ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا..) ثم قال بعدها (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)
أخوة الدين تجعلنا نحزن لما يحل بإخواننا في بلاد الشام, الذين أجهدهم العوزُ، وألح عليهم الفقر؛ فهزلت أبدانهم، واصفرَّت وجوههم، وعدتْ عليهم الأمطارُ, وغطت خيامهم البائسة الثلوج.
وبعد الحزن علينا أن نتبعه بخطواتٍ عملية في السعي لسد حاجة المحتاجين قدر المكنة والاستطاعة, ولو بالقليل, تبريء به الذمة, وقد وَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ رحمه الله تعالى إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنْ فَضْلِ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوعًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ، وَمَنْ مَاتَ عُرْيَانًا فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِهِ».
هذه الآخية التي ننتسب لها تجعلنا نتسائل حين نبيت بدفء وأمن وشِبَعٍ, ماذا بذلنا لإخواننا, الذين يموت اليوم بعض صغارهم من شدة البرد, وإذا اجتمع الجوع مع الخوف مع البرد فلا تسل عن حجم المعاناة.
حين ترى صور الثلوج تتساقط, والبعض هناك لا يجد ما يستر به بدنه, ولا ما يوقد ناره, يحق لنا أن نبكي على الأخوة التي قصرنا فيها
حين ترى أطفالاً هناك ينقبون النفايات بحثاً عن كسرة, في حين أن منا من يصاب بالتخمة, وحين ترى من يبحث عن قرش ليطعم به, في حين أننا نصرف أموالنا وراء السياحة والرياضة والأسفار والترف, ونرمي بالولائم في المخلفات, وترى عيون الأطفال في بلاد الشام وغيرها تتسائل: أين أخوة الدين التي تعلمناها, حينها يجدر بنا أن نندب أخوة فقدناها ومات فينا الشعور بها.
إننا إخوةٌ يا أيها الإخوة, والأخوة لها تبعة, وعليها حِملٌ, والأخ الحق من يسعى جهده, حتى يعذره الله, وإن الذي أحل بغيرك المثلات, قادر على أن يديل الأحوال, ويغير الواقع, ويقلب الأمن خوفاً, والشبع جوعاً, وليس بننا وبين الله نسب, ولن يُعدم الراغب في البذل والمساعدة من طرق آمنة عبر جمعيات مصرحة كهيئة الإغاثة والندوة العالمية وغيرها.
في الصحيح أنه ق قال: قال تعالى «يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني!! فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟
فاللهم سد حاجة المحتاجين, ولا تؤاخذنا بتقصيرنا تجاه إخواننا المسلمين, اللهم صل على محمد
الحمد لله الذي بين المحجة وأقام الحجة, والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه, أما بعد
أخوة الدين أيها الكرام تجعلنا نسعى لنصرة ديننا, وفي المقابل يكون ذلك على وفق معتقدنا, وتجعلنا نستنكر كل حدث من شأنه أن يشتت صفنا, ويقتل الأبرياء منا, ويهدد أمننا, وما حادث القتل الذي نال بعض رجال الأمن قبل أيام إلا نموذج لذلك, ولست أدري أي فهمٍ يجعل إنساناً ينطق بالإسلام, يتقدم ليزهق روحه وروح غيره, وهما سوءتان إحداهما أسوأ من الأخرى, ففي الأولى قال المولى ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً...) وقال النبي ق "مَنْ قَتَلَ مؤمناً، فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِه ـ أي فرح ـ لم يَقْبل الله منه صَرفا ولا عَدلا" وفي الثانية قال المصطفى ق " ومن قتل نفسه بشيء عُذّب به يوم القيامة" رواه مسلم
وليس يخفى أن مثل هذه الأمور ليست من الأخوة في شيء, ولا يقدم عليها إلا من يرى أن لا أخوة بينه وبين من قتله, وتلك والله المصيبة, حين يكفِّر ثم يستحل بذلك الدماء, فهل هان دم المسلم, أياً كان المسلم, حتى يسفك بمثل هذه المقدمات الجاهلة.
إن معتقدنا الذي نعلنه وبأعلى الصوت أن المسلم لا يجوز التعدي عليه بقتل بل وبما دون القتل, بل ولا بالشوكة, وأين تذهب نداءات النبي عليه السلام في البلد الحرام, واليوم الحرام, والشهر الحرام, أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وإن العلم
معشر الكرام: وأخوة الدين تجعلنا ننصح لإخواننا حتى من انحرف فكره, فسلك مسالك الغلو وبات يكفر القاصي والداني, بشبه واهية, وقد قال علي ط في حق من خرجوا عليه: "إخواننا بغوا علينا" ومن منطلق لفظ علي ط نقول لكل شاب: إن الأمة اليوم هي بأمس الحاجة إلى توحيد صفها ضد عدوها الذي استبانت عداوته, وهم الكفار, وإننا على يقين أن الرافضة والنصارى ليفرحون بالمصيبة حين تحل, وبالأمن حين يهتز, فهل يليق بمن له أدنى مسكة عقل أن يوجه سهامه إلى حيث مأرز الإيمان, بمصداق قول الرسول عليه السلام.
وإن العلم إذا لم يصحبه فهم, وتقوى, فربما أودى بصاحبه إلى المهاوي, نسأل الله العافية, إن عبد الرحمن بن ملجم كان من قراء القرآن, قرأه على معاذ بن جبل رضي الله عنه, وكان مقتناً له, حتى لقد كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص : أَنْ قَرِّبْ دَارَ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ مُلْجَمٍ مِنَ المَسْجِدِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ" تأمل!!
وماذا بعد؟ إن ابن ملجمٍ هو الذي قتل علياً ط وهو خارج لصلاة الفجر, ومتى, في شهر رمضان, لتعلم أن الانحراف خطير, وأن الإسلام كما يحذر من الجفاء والمعاصي والمنكرات, يحذّر أيضاً من الغلو, ودين الله وسط بين الغالي والجافي, حمى الله بلاد المسلمين, وأبناءهم من جفاء الجافين وغلو الغالين.
جماع الأمر يا أيها الكرام أن أخوة الدين ليست عواطف, بل تدين, وليست دعاوى, بل حقائق, وأخوة الدين شرفٌ لكن لمن حققها, ووسام لكن لمن عمل بمقتضاها, وواجبات, وإن خالفت الهوى والرغبات.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وألف بين المسلمين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام