أخوَّةُ الإيمانِ. -موافقة للتعميم-.

عاصم بن محمد الغامدي
1444/10/22 - 2023/05/12 07:42AM

الحمد لله، خلقنا فسوّانا، وأنعم علينا وهدانا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صَلَّى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه والتَّابعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.

مَنْ عَظَّمَ اللهَ عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَه، وَمَنْ وَقَّرَ اللهَ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخالِفَ أَمْرَه، وما أَدْمَنَ التوبةَ إِلا تَقِيّ، وما خَافَ الذُّنُوبَ إلا مُؤمِن، قَالَ ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عَنه: (إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا).

عباد الله:

العقدُ هوَ العهدُ الموثقُ، والعقودُ التي يجب الوفاء بها نوعانِ:

عقودٌ عقَدَهَا اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ، وهيَ ما أمَرَهُمْ بِهِ، أو نَهَاهُمْ عَنْهُ، أوْ أَحَلَّهُ لهُمْ، أوْ حَرَّمهُ عليهِمْ، وعقودٌ يعقِدُها العبادُ بينَهُمْ، كالبيعِ والإجارةِ والقرضِ وغيرها، والوفاءُ بهذين النوعينِ من واجباتِ الإيمانِ، وهما مشمولان بقوله جلَّ جلالُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.

وإن من أعظم العقودِ عقدًا عَقَدَهُ اللهُ بينَ المؤمنينَ، مضمونه "أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمانُ باللهِ، وملائكتِهِ، وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخِرِ، فإنَّه أخٌ للمؤمنينَ، أخوَّةً توجبُ أنْ يحبَّ لهُ المؤمنونَ ما يحبُّونَ لأنفسِهِمْ، ويكرهونَ لهُ، ما يكرهون لأنفسهم".

عقدٌ عقده الله بنفسه بعبارة بليغة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ‌فَأَصْلِحُوا ‌بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، فلم يعبر القرآن بالتشبيه فيقل: مثلَ الإخوة أو كالإخوة، بل حصرَ الإيمان في حال الأخوة، مبالغةً في تقرير هذا المعنى؛ لأن التشبيه يشعر بوجود نقصٍ في الأخوة الإيمانية عن الأخوة النَّسَبِيَّةِ.

ونفهم من هذا أن عَقْدَ الأخوة واجبُ التنفيذِ، وليسَ للمؤمن خيارٌ معَهُ أو اختيارٌ ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ ‌الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.

وخُتمتِ الآيةُ الكريمةُ بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾؛ للدلالة على أنَّ ترك الوفاء بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة والعياذ بالله، وقد ربط الله تعالى بين نعمة تآلف قلوب المسلمين، وبين النجاة من النار، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً ‌فَأَلَّفَ ‌بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾.

ويؤكدُ هذا الترابطَ بين النعمتين، تذكرنا أن الشيطان قد ﴿قَالَ ‌فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وهو دائب السعي في تحقيق ما يستطيع من الغوايةِ، ولا يخفاه أثر العداوة والبغضاء في الوصول إلى مراده، بأسرع الطرق وأقربها، فكان بثُّه للعداوة والبغضاء، يسبق سعيه في ترك الذكر والصلاة، يقول تعالى عن عمل الشيطان: ﴿‌إِنَّمَا ‌يُرِيدُ ‌الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾.

هذه العداوة والبغضاء التي أراد الله تعالى أن تكون بين المؤمنين والكافرين، يسعى الشيطان لنشرها بين المؤمنين أنفسِهم.

ولذلك حرَّم الله تعالى كلَّ أسباب العداوة والبغضاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: «‌لَا ‌تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».

وإنَّ من اللافتِ للنظر في كتاب الله تعالى، أنَّ الأخوةَ المؤديةَ إلى نقاءِ القلوبِ، وصفاءِ النفوسِ من نعيمِ أهلِ الجنَّةِ، قال الله تعالى: ﴿‌وَنَزَعْنَا ‌مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾، فقدَّم في ذكر نعيمهم أخوتهم وصفاء قلوبهم، على راحة أبدانهم بالجلوس على السرر.

ولا يكتمل كمال صورة الأخوة الإيمانية في الآخرة، إلا بذكر نقيضها من حال أهل البغضاء والعداوة الذين قال الله تعالى عن حالهم: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ‌وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، لاحظ أنَّ كفرَ بعضِهم ببعضٍ، ولعنَ بعضِهِمْ لبعضٍ يأتي قبل بيان مصيرهم ومكانهم في نار جهنم، وهذه صورةٌ بالغة التنفير من حالهم، كي لا يقع شيء من هذا التباغض بين المؤمنين في الدنيا، فيشبهوا أهل النار في وجهٍ من الوجوه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:

فإنَّ الأخوةَ الإيمانيِّةَ تقوم على أمرين: مودةِ القلوبِ، وتواصلِ الأبدانِ.

أما مودةُ القلوبِ، فيبينها قوله صلى الله عليه وسلم: "‌مَثَلُ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".

فالتواد والتراحم والتعاطف من أعمال القلب، التي تنتج أخلاقًا متميزة، وأعمالاً حميدة، فأثر الرحمةِ أنْ يرحمَ بعضهم بعضًا بسبب أخوة الإيمان لا بسبب شيءٍ آخر، وأثر التوادُدِ التواصلُ الجالبُ للمحبةِ كالتزاورِ والتهادي، وأثرُ التعاطفِ إعانةُ بعضهم بعضًا.

وأما تواصل الأبدان فيبينه قوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ ‌كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

عباد الله:

لقد حلَّ بإخواننا في السودانِ بلاءٌ شديدٌ، نزلتْ بهم الكربَةُ، وأحاطت بهم الشدَّة، ولازمتهم المحنة، وبلغ ذلك منهم مبلغًا عظيمًا.

فيا إخْوَةَ الإسلامِ: إخوتَكُم إخوتَكُم، أعينوهُمْ وسدُّوا خلَّتَهٌمْ، فهذا حقُّهمْ علينَا وواجبُنَا تُجاههم، قفوا مع بلادكم وولاة أمركم، في نصرة إخوانكم، والقيام بواجب أخوتكم.

اللهم إنا نستودعك السودان وأهله، اللهم احفظ بلادهم من شرِّ الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار، اللهم احفظ بلادهم من عبث العابثين، وكيد الكائدين، وعدوان المعتدين، اللهم احقن دماءهم، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واجعل قلوبهم على قلوب أخيارهم، واهدهم سبل السلام، اللهم من أراد بلادهم وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا سميع الدعاء، اللهم اجعل لهم وللمسلمين من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ومن كل بلاء عافية، ومن كل عسر يسرًا، ومن كل داء شفاء يا رب العالمين، يا مجيب الدعاء.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.

المرفقات

1683866524_أخوَّةُ الإيمانِ.docx

1683866524_أخوَّة الإيمانِ.pdf

1683866530_أخوَّةُ الإيمانِ نسخة للجوال.pdf

المشاهدات 1241 | التعليقات 1

خطبة رائعة جدا ، فتح الله عليك يادكتور عاصم