أخلاق الصّائم
الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي
1434/08/24 - 2013/07/03 22:14PM
[font="]الأولى: أخلاق الصائم[/font] ( 3 )
الحمد لله الذي هدانا إلى طرق العبادة.. و وعد الصّائمين الصادقين الحسنى و زيادة.. أحمده حمدا ناميا من إيمانا واضح نقيّ، ساميا إلى مقامه السامق العليّ.. ونتوجّه إليه بالشكر و الثناء، شكر الطّاهرين المؤمنين الصّالحين الأوفياء، القائمين بحدوده من المقرّبين و الأولياء..
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، بها يكون للعبادة معناها.. و أشهد أنّ محمّدا عبدك و رسولك وحبيبك الذي اصطفيته من بين الخلائق مبلّغا أمينا، و أحللته مقاما رفيعا ومكينا.. اللهمّ فصلّ وسلّم و بارك عليه و على آله وصحبه، صلاة ترضيك و ترضيه، وتجمعنا إلى آله وحزبه، تسليما كثيرا ناميا مباركا و غزيرا..
أمّا بعد، في مثل هذه الفترة الزمنية من كلّ عام هجري، تستعدّ الأمّة المحمّدية لاستقبال شهر عظيم و ضيف كريم، شهر تتنزّل فيه البركات و تتضاعف فيه الحسنات، تفتح فيه أبواب الجنان و تغلق فيه أبواب النيران، شهر يوقظ النفوس من غفلتها و يزيل الأغطية من على قلوبها، و يغيّر من عاداتها و مألوفها..
عباد الرحمان، هذا الشهر شهر القرآن و الغفران، شهر الصيام و التهجّد ينتظره المحبّون بلهفة وتحرّق، و يسرّوا بمقدمه كما يسرّون الأهل بعودة العائد من سفر طويل، لماذا لا يفرح المؤمن و قد سمع نداء ربّه يناديه:"كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" رواه البخاري.
خفقت قلوبهم له بالحبّ، ولهجت ألسنتهم له بالشكر، و فاضت عيونهم له بالدّمع.. لماذا لا يسعد المؤمنون و قد ضمن لهم ربّهم غفرانا من الذنوب. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال:" من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه"..الشيخان.
لماذا لا ينعمون و قد أعدّ لهم ربّهم بابا خاصا بهم لا يدخله سواهم؟ قال عليه الصلاة و السلام:" في الجنّة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريّان لا يدخله إلاّ الصّائمون " الشيخان.
لماذا لا يتحرّقون إلى لقائه و قد تطلّعوا إلى شفاعة صيامهم، قال من يصلّي عليه الحقّ تبارك و تعالى وملائكته:"الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام:أي ربّ إنّي منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه، و يقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " أحمد..
قد علمنا أيها الناس أنّ الله تبارك و تعالى، يفتح في شهر رمضان أبوابا و يغلق أخر، يفتح أبواب الجنّة و يغلق أبواب جهنّم، يفتح أبواب الرحمة، و يغلق أبواب العذاب، قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم:" إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء " و في رواية:" فتحت أبواب الجنّة و غلّقت أبواب جهنّم و سلسلت الشياطين " و في رواية:" فتحت أبواب الرحمة " البخاري و مسلم.
إنّها الرحمة بعمومها، الرحمة بالغفران للذنوب، الرحمة باستجابة الدعاء، الرحمة بفيض عطاء الجود العاجل و الآجل، الرحمة بمنحة النعيم المقيم في الجنّة دار الثواب الأكبر..
لقد سمع الصائمون المنادي الذي أخبر عنه محمد صلى الله عليه و سلم حين قال:" إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجنّ و غلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، و فتحت أبواب الجنّة فلم يغلق منها باب، و ينادي مناد: يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشرّ أقصر...و لله عتقاء من النار و ذلك كلّ ليلة " الترمذي و ابن ماجه.
نعم.. يا باغي الخير أقبل و لا تتردّد، أقبل على المعروف، أقبل على الخير بجميع أنواعه و بشتّى وسائله..
إنّ الشهر القادم علينا، نفحة من نفحات الرحمان في دهرنا هذا، و من أفضل ما يتقرّب العبد به إلى ربّه تعالى هو حسن الخلق..
إنّ مكارم الأخلاق قوام بعثة النبيّ محمد صلى الله عليه و سلم حينما قال:"إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق " أخرجه الإمام مالك في الموطأ..
فالرسالة التي خطّت مجراها في تاريخ الحياة، و انفتحت على مشارق الأرض و مغاربها و اتّبعها الناس من عربهم وعجمهم، و أسودهم و أبيضهم، لا تنشد أكثر من تدعيم فضائل الأخلاق، و إنارة آفاق الكمال أمام أعين الناس حتّى يسعوا على بصيرة..
" قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني " صدق الله العظيم
و العبادات بشتّى صورها، الصلاة و الصيام والحج و غيرها هي مدارج الكمال المنشود، و روافد التطهّر الذي يصون الحياة و يعلِي شأنها، فهي تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه و سلم في قوله:" إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق "..
قيل لعالم مسلم: هل قرأت أدب النفس لأرسطو؟ فقال بكلّ إيمان و تقوى و صدق: بل قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام..
نعم إنّه أدب أمّة، و شعائر دين عظيم سار على هديه رجل كريم ثم تبعه جيل قويم، بهر العالم بأسره وملك الأرض بعهده، و لمّا ابتعدوا عنه، تكالبت عليهم الأمم وتناوشتهم الذئاب، إنّه الخلق العظيم " و إنّك لعلى خلق عظيم "..
و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم: عن أكثر ما يدخل الناس الجنّة فقال:" تقوى الله وحسن الخلق " أخرجه الترمذي في سننه.
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقًا و خياركم خياركم لنسائهم ".أخرجه الترمذي.
و قال عليه الصلاة و السلام:" إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " أخرجه أبو داود.. إنّه توافق عجيب و تلازم رتيب، الخلق الحسن من أكثر ما يدخل الناس الجنّة، و الصيام من أكثر ما يعتق الله به الناس من النار و يدخلهم الجنّة..
و الخلق الحسن من العبادات التي ترتقي بالإنسان ليصل إلى ذروة الطهارة القلبية و النقاوة النفسية، و لعمري ماذا يفعل الصيام بالإنسان غير هذا؟..
إنّ الصيام و الأخلاق قرينان، و الصائم الحقّ المبتغي وجه الله تعالى، المؤمن بما عند الله من وافر الأجر و المثوبة، من أشدّ الناس مراعاة لحسن خلقه ومكارم أخلاقه و عاداته، و لربّما يُنفى عن المرء صفة الصيام إذا كان خلقه ينافي الصيام، فربّ صائم ليس له من صيامه سوى الجوع و العطش..
و من هذا المنطلق، سنحاول طيلة هذا الشهر المبارك ما كتب الله لنا أن نعيش، أن نحلّق في جولة أخلاقية بين رياض الإيمان نقطف من زهور الأخلاق و نجمع أشجار المعرفة في دوحة من الخير..
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبّه و يرضاه و أن يبلّغنا رمضان كما بلّغنا شعبان..اللهم ارزقنا في شهر رمضان الجدّ و الاجتهاد و القوّة و النشاط..اللهم ارزقنا صيامه وقيامه و بلوغ الآمال فيه، و استكمال ما يرضيك عنا خيرا و احتسابا و إيمانا و يقينا، ثم تقبّل ذلك منا بالأضعاف الكثيرة و الأجر العظيم.. اللهم اجعل دعاءنا فيه إليك واصلا، و فضلك إلينا فيه نازلا..
اللهمّ صلّي على محمد نبيّ الرحمة المختار،و على آله الأخيار، وزوجاته الطّاهرات الأطهار، و صحابته الأبرار ومن تبعهم بتقوى و إحسان إلى يوم القرار..
أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحده، و إن كان غير ذلك فمن الشيطان و من نفسي، و استغفر الله العظيم لي و لكم إنه الغفور الرحيم و لا حول و لا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم..
الثانية: ثواب الجوع و الظمأ
الحمد لله بالإسلام.. و الحمد لله بالصلاة و الزكاة.. و الحمد لله بالصيام و القيام.. و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة عطرة زكية أدّخرها لي و لكم ليوم الفزع الأكبر.. و أشهد أن سيدنا محمدا عبدك المصطفى و رسولك المجتبى.. اللهم فصلّ و سلّم و بارك عليه و على آله و صحبه و من تبعهم بإحسان و تقوى و اهتدى..
جُع أيها المؤمن الصائم الصادق لتشبع عند الله، و لتدخل من باب الريان، يوم يفتح في الجنة فلا يدخل إلاّ الصّائمون، فإذا دخلوا أغلق عليهم.. وأظمأ لتشرب من الكوثر، من حوض محمد صلى الله عليه و سلّم، يوم يقف يسقي العباد و معه سبعون ألف ملك حول حوضه المورود، طوله شهر، و عرضه شهر، عدد آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أحلى من العسل، و أبرد من الثلج، و أبيض من اللبن، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، نسأل الله من فضله، فحاول أن تكون من الشاربين الذين تركوا الشراب في الدنيا، و حاول أن تصوم كل جوارحك، كل الجوارح، الأذن التي كانت تسمع الغناء و الرفث و الفحش، حاول ألاّ تسمعه مرّة ثانية، من هذا الشهر، لأنّه من سمع غناء الدنيا حرمه الله من سماع غناء الآخرة في الجنة..
و كان السلف الصالح إذا دخل رمضان بشّر بعضهم بعضا بهذا الشهر العظيم، و تهيأوا له.. و ورد عن الإمام مالك رحمه الله، أنّه كان إذا دخل عليه شهر رمضان، أغلق كتبه، و أخذ المصحف، و جلس في المسجد يتوضأ بين الحين و الآخر، و يقول هذا شهر القرآن، لا كلام فيه مع القرآن.. و ورد عن كثير من الصحابة و التابعين، أنّهم كانوا يخرجون إلى المساجد فلا يزالون في المسجد، بين الذكر و التلاوة، إلاّ لأمر لا بدّ منه فيعودون إلى بيوتهم.
فيا أيها الأبرار الأخيار، استقبلوا هذا الشهر بخير ما يستقبل من توبة نصوح، و من استغفار، و من كثير دعاء، و من تلاوة، و من محافظة على صلاة الجمعة و الجماعة، و من صدقة في سبيل الله، و من نصيحة لله، و لكتابه، و لأئمّة المسلمين و عامّتهم، و من صدقٍ و استسلامٍ لله..
أيها الناس، إنّ في يوم الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها الله شيئا إلاّ أتاه إيّاه، فالتمسوها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة.. فأكثروا من الدعاء و أمّنوا و صلوا و سلّموا على من أمرتم بالصلاة و السلام عليه: اللهم فصلّ و سلّم و بارك على سيدنا محمد النبيّ المصطفى المختار، و على آله الطاهرين الأخيار و صحابته الميامين الأبرار، المهاجرين منهم و الأنصار.. اللهم إنّا نسألك أن تعزّ الإسلام و المسلمين، و أن تذلّ الشرك و المشركين، و أن تجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدّين.. اللهم ها نحن نرفع أكفّ الضراعة إليك نرجو رحمتك ونخشى عذابك.. اللهم فرّج همّ المهمومين، ونفّس كرب المكروبين، و اقض الدّيْن عن المدينين، و اشف مرضانا ومرضى المسلمين،، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كلّ مكان، و أمّنهم في أوطانهم و ألّف بينهم و وحّد صفوفهم.. اللهم أفتح لنا شهر رمضان برضوانك، و أجرنا فيه من عقوبتك و نيرانك، وجُدْ علينا بفضلك و رحمتك ومغفرتك و امتنانك، و هب لنا ما وهبته لأوليائك.. اللهمّ اجعل صيامنا فيه صيام الصائمين، و قيامنا فيه قيام القائمين، و نبّهنا فيه عن نومة الغافلين.. اللهمّ قرّبنا فيه إلى مرضاتك، و جنّبنا فيه من سخطك و نقمائك، و وفّقنا فيه لقراءة آياتك برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهمّ ارزقنا فيه الذهن و التنبيه، و باعدنا فيه عن السفاهة و التمويه، و اجعل لنا نصيبا من كلّ خيرٍ تُنْزِلُ فيه، بجودك يا أجود الأجودين. اللهمّ ارزقنا فيه رحمة الأيتام، و إطعام الطّعام، و إفشاء السلام، و صحبة الكرام، بطولك يا ملجأ الآملين.. اللهم أنزل علينا من سحائب جودك فيوض الأرزاق، و أقم لنا سعادة الدّارين على دعامة الأخلاق.. اللهم أسعد الفقراء و المساكين على أيدينا يا أرحم الراحمين .. اللهم ثبتنا على كلمة التوحيد عند النزع و السؤال، و امنحنا بها الأمن و الفوز و السلام.. اللهم إنا نسألك راغبين في فضل رحمتك التي وسعت كل الكائنات، أن تثبتنا على الإيمان يوم الفزع الأكبر و يوم الممات. اللهم أبرم لهذه الأرض الطيبة أمر رشد يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر.. اللهم أصلح ولاّة المسلمين و وفقهم للعدل في رعاياهم و الإحسان إليهم و الرفق بهم و الشفقة عليهم و الاعتناء بمصالحهم .. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم و اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم..و صلّ و سلم اللهم على سيدنا محمد و على آله الأخيار الأطهار و صحابته الأبرار الأنوار و من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث و القرار..
عباد الله إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذّكرون أذكروا الله يذكركم و أشكروه على نعمه يزدكم و لا ذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون..
الشيخ محمّد الشاذلي شلبي
الإمام الخطيب
الأربعاء 24 شعبان 1434- 3 يوليو 2013
الحمد لله الذي هدانا إلى طرق العبادة.. و وعد الصّائمين الصادقين الحسنى و زيادة.. أحمده حمدا ناميا من إيمانا واضح نقيّ، ساميا إلى مقامه السامق العليّ.. ونتوجّه إليه بالشكر و الثناء، شكر الطّاهرين المؤمنين الصّالحين الأوفياء، القائمين بحدوده من المقرّبين و الأولياء..
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، بها يكون للعبادة معناها.. و أشهد أنّ محمّدا عبدك و رسولك وحبيبك الذي اصطفيته من بين الخلائق مبلّغا أمينا، و أحللته مقاما رفيعا ومكينا.. اللهمّ فصلّ وسلّم و بارك عليه و على آله وصحبه، صلاة ترضيك و ترضيه، وتجمعنا إلى آله وحزبه، تسليما كثيرا ناميا مباركا و غزيرا..
أمّا بعد، في مثل هذه الفترة الزمنية من كلّ عام هجري، تستعدّ الأمّة المحمّدية لاستقبال شهر عظيم و ضيف كريم، شهر تتنزّل فيه البركات و تتضاعف فيه الحسنات، تفتح فيه أبواب الجنان و تغلق فيه أبواب النيران، شهر يوقظ النفوس من غفلتها و يزيل الأغطية من على قلوبها، و يغيّر من عاداتها و مألوفها..
عباد الرحمان، هذا الشهر شهر القرآن و الغفران، شهر الصيام و التهجّد ينتظره المحبّون بلهفة وتحرّق، و يسرّوا بمقدمه كما يسرّون الأهل بعودة العائد من سفر طويل، لماذا لا يفرح المؤمن و قد سمع نداء ربّه يناديه:"كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" رواه البخاري.
خفقت قلوبهم له بالحبّ، ولهجت ألسنتهم له بالشكر، و فاضت عيونهم له بالدّمع.. لماذا لا يسعد المؤمنون و قد ضمن لهم ربّهم غفرانا من الذنوب. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال:" من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه"..الشيخان.
لماذا لا ينعمون و قد أعدّ لهم ربّهم بابا خاصا بهم لا يدخله سواهم؟ قال عليه الصلاة و السلام:" في الجنّة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريّان لا يدخله إلاّ الصّائمون " الشيخان.
لماذا لا يتحرّقون إلى لقائه و قد تطلّعوا إلى شفاعة صيامهم، قال من يصلّي عليه الحقّ تبارك و تعالى وملائكته:"الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام:أي ربّ إنّي منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه، و يقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " أحمد..
قد علمنا أيها الناس أنّ الله تبارك و تعالى، يفتح في شهر رمضان أبوابا و يغلق أخر، يفتح أبواب الجنّة و يغلق أبواب جهنّم، يفتح أبواب الرحمة، و يغلق أبواب العذاب، قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم:" إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء " و في رواية:" فتحت أبواب الجنّة و غلّقت أبواب جهنّم و سلسلت الشياطين " و في رواية:" فتحت أبواب الرحمة " البخاري و مسلم.
إنّها الرحمة بعمومها، الرحمة بالغفران للذنوب، الرحمة باستجابة الدعاء، الرحمة بفيض عطاء الجود العاجل و الآجل، الرحمة بمنحة النعيم المقيم في الجنّة دار الثواب الأكبر..
لقد سمع الصائمون المنادي الذي أخبر عنه محمد صلى الله عليه و سلم حين قال:" إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجنّ و غلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، و فتحت أبواب الجنّة فلم يغلق منها باب، و ينادي مناد: يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشرّ أقصر...و لله عتقاء من النار و ذلك كلّ ليلة " الترمذي و ابن ماجه.
نعم.. يا باغي الخير أقبل و لا تتردّد، أقبل على المعروف، أقبل على الخير بجميع أنواعه و بشتّى وسائله..
إنّ الشهر القادم علينا، نفحة من نفحات الرحمان في دهرنا هذا، و من أفضل ما يتقرّب العبد به إلى ربّه تعالى هو حسن الخلق..
إنّ مكارم الأخلاق قوام بعثة النبيّ محمد صلى الله عليه و سلم حينما قال:"إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق " أخرجه الإمام مالك في الموطأ..
فالرسالة التي خطّت مجراها في تاريخ الحياة، و انفتحت على مشارق الأرض و مغاربها و اتّبعها الناس من عربهم وعجمهم، و أسودهم و أبيضهم، لا تنشد أكثر من تدعيم فضائل الأخلاق، و إنارة آفاق الكمال أمام أعين الناس حتّى يسعوا على بصيرة..
" قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني " صدق الله العظيم
و العبادات بشتّى صورها، الصلاة و الصيام والحج و غيرها هي مدارج الكمال المنشود، و روافد التطهّر الذي يصون الحياة و يعلِي شأنها، فهي تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه و سلم في قوله:" إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق "..
قيل لعالم مسلم: هل قرأت أدب النفس لأرسطو؟ فقال بكلّ إيمان و تقوى و صدق: بل قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام..
نعم إنّه أدب أمّة، و شعائر دين عظيم سار على هديه رجل كريم ثم تبعه جيل قويم، بهر العالم بأسره وملك الأرض بعهده، و لمّا ابتعدوا عنه، تكالبت عليهم الأمم وتناوشتهم الذئاب، إنّه الخلق العظيم " و إنّك لعلى خلق عظيم "..
و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم: عن أكثر ما يدخل الناس الجنّة فقال:" تقوى الله وحسن الخلق " أخرجه الترمذي في سننه.
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقًا و خياركم خياركم لنسائهم ".أخرجه الترمذي.
و قال عليه الصلاة و السلام:" إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " أخرجه أبو داود.. إنّه توافق عجيب و تلازم رتيب، الخلق الحسن من أكثر ما يدخل الناس الجنّة، و الصيام من أكثر ما يعتق الله به الناس من النار و يدخلهم الجنّة..
و الخلق الحسن من العبادات التي ترتقي بالإنسان ليصل إلى ذروة الطهارة القلبية و النقاوة النفسية، و لعمري ماذا يفعل الصيام بالإنسان غير هذا؟..
إنّ الصيام و الأخلاق قرينان، و الصائم الحقّ المبتغي وجه الله تعالى، المؤمن بما عند الله من وافر الأجر و المثوبة، من أشدّ الناس مراعاة لحسن خلقه ومكارم أخلاقه و عاداته، و لربّما يُنفى عن المرء صفة الصيام إذا كان خلقه ينافي الصيام، فربّ صائم ليس له من صيامه سوى الجوع و العطش..
و من هذا المنطلق، سنحاول طيلة هذا الشهر المبارك ما كتب الله لنا أن نعيش، أن نحلّق في جولة أخلاقية بين رياض الإيمان نقطف من زهور الأخلاق و نجمع أشجار المعرفة في دوحة من الخير..
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبّه و يرضاه و أن يبلّغنا رمضان كما بلّغنا شعبان..اللهم ارزقنا في شهر رمضان الجدّ و الاجتهاد و القوّة و النشاط..اللهم ارزقنا صيامه وقيامه و بلوغ الآمال فيه، و استكمال ما يرضيك عنا خيرا و احتسابا و إيمانا و يقينا، ثم تقبّل ذلك منا بالأضعاف الكثيرة و الأجر العظيم.. اللهم اجعل دعاءنا فيه إليك واصلا، و فضلك إلينا فيه نازلا..
اللهمّ صلّي على محمد نبيّ الرحمة المختار،و على آله الأخيار، وزوجاته الطّاهرات الأطهار، و صحابته الأبرار ومن تبعهم بتقوى و إحسان إلى يوم القرار..
أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحده، و إن كان غير ذلك فمن الشيطان و من نفسي، و استغفر الله العظيم لي و لكم إنه الغفور الرحيم و لا حول و لا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم..
الثانية: ثواب الجوع و الظمأ
الحمد لله بالإسلام.. و الحمد لله بالصلاة و الزكاة.. و الحمد لله بالصيام و القيام.. و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة عطرة زكية أدّخرها لي و لكم ليوم الفزع الأكبر.. و أشهد أن سيدنا محمدا عبدك المصطفى و رسولك المجتبى.. اللهم فصلّ و سلّم و بارك عليه و على آله و صحبه و من تبعهم بإحسان و تقوى و اهتدى..
جُع أيها المؤمن الصائم الصادق لتشبع عند الله، و لتدخل من باب الريان، يوم يفتح في الجنة فلا يدخل إلاّ الصّائمون، فإذا دخلوا أغلق عليهم.. وأظمأ لتشرب من الكوثر، من حوض محمد صلى الله عليه و سلّم، يوم يقف يسقي العباد و معه سبعون ألف ملك حول حوضه المورود، طوله شهر، و عرضه شهر، عدد آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أحلى من العسل، و أبرد من الثلج، و أبيض من اللبن، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، نسأل الله من فضله، فحاول أن تكون من الشاربين الذين تركوا الشراب في الدنيا، و حاول أن تصوم كل جوارحك، كل الجوارح، الأذن التي كانت تسمع الغناء و الرفث و الفحش، حاول ألاّ تسمعه مرّة ثانية، من هذا الشهر، لأنّه من سمع غناء الدنيا حرمه الله من سماع غناء الآخرة في الجنة..
و كان السلف الصالح إذا دخل رمضان بشّر بعضهم بعضا بهذا الشهر العظيم، و تهيأوا له.. و ورد عن الإمام مالك رحمه الله، أنّه كان إذا دخل عليه شهر رمضان، أغلق كتبه، و أخذ المصحف، و جلس في المسجد يتوضأ بين الحين و الآخر، و يقول هذا شهر القرآن، لا كلام فيه مع القرآن.. و ورد عن كثير من الصحابة و التابعين، أنّهم كانوا يخرجون إلى المساجد فلا يزالون في المسجد، بين الذكر و التلاوة، إلاّ لأمر لا بدّ منه فيعودون إلى بيوتهم.
فيا أيها الأبرار الأخيار، استقبلوا هذا الشهر بخير ما يستقبل من توبة نصوح، و من استغفار، و من كثير دعاء، و من تلاوة، و من محافظة على صلاة الجمعة و الجماعة، و من صدقة في سبيل الله، و من نصيحة لله، و لكتابه، و لأئمّة المسلمين و عامّتهم، و من صدقٍ و استسلامٍ لله..
أيها الناس، إنّ في يوم الجمعة ساعة لا يسأل العبد فيها الله شيئا إلاّ أتاه إيّاه، فالتمسوها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة.. فأكثروا من الدعاء و أمّنوا و صلوا و سلّموا على من أمرتم بالصلاة و السلام عليه: اللهم فصلّ و سلّم و بارك على سيدنا محمد النبيّ المصطفى المختار، و على آله الطاهرين الأخيار و صحابته الميامين الأبرار، المهاجرين منهم و الأنصار.. اللهم إنّا نسألك أن تعزّ الإسلام و المسلمين، و أن تذلّ الشرك و المشركين، و أن تجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدّين.. اللهم ها نحن نرفع أكفّ الضراعة إليك نرجو رحمتك ونخشى عذابك.. اللهم فرّج همّ المهمومين، ونفّس كرب المكروبين، و اقض الدّيْن عن المدينين، و اشف مرضانا ومرضى المسلمين،، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كلّ مكان، و أمّنهم في أوطانهم و ألّف بينهم و وحّد صفوفهم.. اللهم أفتح لنا شهر رمضان برضوانك، و أجرنا فيه من عقوبتك و نيرانك، وجُدْ علينا بفضلك و رحمتك ومغفرتك و امتنانك، و هب لنا ما وهبته لأوليائك.. اللهمّ اجعل صيامنا فيه صيام الصائمين، و قيامنا فيه قيام القائمين، و نبّهنا فيه عن نومة الغافلين.. اللهمّ قرّبنا فيه إلى مرضاتك، و جنّبنا فيه من سخطك و نقمائك، و وفّقنا فيه لقراءة آياتك برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهمّ ارزقنا فيه الذهن و التنبيه، و باعدنا فيه عن السفاهة و التمويه، و اجعل لنا نصيبا من كلّ خيرٍ تُنْزِلُ فيه، بجودك يا أجود الأجودين. اللهمّ ارزقنا فيه رحمة الأيتام، و إطعام الطّعام، و إفشاء السلام، و صحبة الكرام، بطولك يا ملجأ الآملين.. اللهم أنزل علينا من سحائب جودك فيوض الأرزاق، و أقم لنا سعادة الدّارين على دعامة الأخلاق.. اللهم أسعد الفقراء و المساكين على أيدينا يا أرحم الراحمين .. اللهم ثبتنا على كلمة التوحيد عند النزع و السؤال، و امنحنا بها الأمن و الفوز و السلام.. اللهم إنا نسألك راغبين في فضل رحمتك التي وسعت كل الكائنات، أن تثبتنا على الإيمان يوم الفزع الأكبر و يوم الممات. اللهم أبرم لهذه الأرض الطيبة أمر رشد يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر.. اللهم أصلح ولاّة المسلمين و وفقهم للعدل في رعاياهم و الإحسان إليهم و الرفق بهم و الشفقة عليهم و الاعتناء بمصالحهم .. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم و اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم..و صلّ و سلم اللهم على سيدنا محمد و على آله الأخيار الأطهار و صحابته الأبرار الأنوار و من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث و القرار..
عباد الله إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذّكرون أذكروا الله يذكركم و أشكروه على نعمه يزدكم و لا ذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون..
الشيخ محمّد الشاذلي شلبي
الإمام الخطيب
الأربعاء 24 شعبان 1434- 3 يوليو 2013