أخذ ما ليس لك

سليمان بن خالد الحربي
1441/12/22 - 2020/08/12 17:44PM

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].

معشر الإخوة: قال ربنا لأبينا آدم وأمنا حواء وهما في الجنة: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالمينَ} [البقرة: 35]، فأباح لهما الأكل مما شاءا، إلا أنه نهاهما عن هذه الشجرة، وقال: إنها ليست لكما، ولا تملكان الأكل منها، ولهذا قال: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالمينَ}؛ لأنكما تعدَّيْتما على ما ليس لكما، وأخذتما ما ليس لكما فيه حق، ولكن الشيطانَ زين لهما، ووسوس لهما، وجمَّل لهما الأكل منها.

فماذا كانت عاقبة هذا الاعتداء على ما ليس لهما؟

عوقبا بإخراجهما من الجنة إلى دار البلاء والنكد والْكَبَد، وما أعظمها من عقوبة، {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] ما أشد عاقبة أخذ ما ليس لك، وادعائه، وامتلاكه بطُرُقٍ غير صحيحة؟!

فكم من مُدَّعٍ لمالٍ ليس له!

وكم من ممتلك أرضًا ليست ملكه!

وكم من مُطالِبٍ بإرثٍ ليس له فيه نصيب!

وكم من جاحِدِ عاريةٍ ليست له!

وكم مُدَّعٍ وظيفةً ليست له!

إلى غير ذلك...

وقد وردت النصوص العظيمة بالنهي عن أخذ ما ليس لك، وادعائه على أنه لك.

وتأملوا هذا الوعيد الشديد في الحديث الذي رواه مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([1]).

قال شراح الحديث: «هو أن يدَّعي ما ليس له من نسبٍ، أو مالٍ، أو حقٍّ من الحقوق، أو عملٍ من الأعمال، أو يزعم صفةً فيه يستغلُّها، ويصرِفُ بها وجوهَ الناس إليه. يدَّعي علمًا من شَرْعٍ، أو طبٍّ، أو غيرِهما، ليكسب من وراء دعواه، فيكون ضررُه عظيمًا، وشرُّه خطيرًا. أو يخاصم في أموال الناس عند الحكام، وهو كاذبٌ، فهذا عذابه عظيم، إذ تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأَمَرَه أن يختار له مَقَرًّا في النار؛ لأنه من أهلها»([2]).

وقال النووي –رحمه الله- معلقًا على هذا الحديث: «وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَحْرِيم دَعْوَى مَا لَيْسَ لَهُ فِي كُلّ شَيْء سَوَاء تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ أَمْ لَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِم إِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ»([3]).

فذكر الرَّسُول -صلى الله عليه وسلم- له عقوبتين:

الأولى: أنه ليس منا.

والثانية: أن يتبوأ ويختار له مقعدًا في النار، نسأل الله السلامة والعافية.

كم هم الذين يدعون الأموالَ على الناس بغير وجه حقٍّ، ويطالبونهم بأموالٍ ليست لهم، ويرفعون القضايا والادعاءات، ويُنْهُونها إما في المحاكم أو الصلح، وهم يعلمون أنهم ظالمون، وأنهم أخذوا أموالًا ليست لهم.

ولْيَعْلَموا أن المال الحرام لا يُحِلُّه حكم قاضٍ، أو صُلْح مُصْلِح، ما دام أنك تعلم أنك ظالم، وقد جاء في الصحيحين من حديث أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ؛ فَلَا يَأْخُذْهَا»([4])، زاد ابن ماجه: «يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([5]).

وتأملوا هذه المخاصمةَ الشريفة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد في مسنده عن أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دُرِسَتْ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ -أَوْ قَدْ قَالَ: لِحُجَّتِهِ- مِنْ بَعْضٍ، فَإِنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا إِذْ قُلْتُمَا فَاذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا، ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ»([6]).

ما أجملَها من خصومةٍ حينما تكون القلوبُ صافيةً خائفةً من الله جل وعلا!

أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

 بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ عَلى إحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَه عَلى توفِيقِهِ وامتنَانِهِ، وأشْهَدُ أنَّ لَا إِله إلَّا اللهُ تَعظيمًا لشانِهِ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبْدُه ورسُولُه الدَّاعِي إِلى جنَّتِه ورِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ علَيْه وعَلى آلِه وأصحابِه وأعوانهِ، أمَّا بَعْدُ:

معشر الإخوة: فكيف إذا صاحبَ ذلك الادعاءَ يمينٌ كاذبة فاجرةٌ؟! نسأل الله السلامة والعافية، اسمعوا هذا الوعيد الشديد في الحديث الذي رواه مسلمٌ في صحيحِه من حديث ثابت بن الضحاك، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ قِلَّةً، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ»([7])، ويمينُ الصبر هي التي ألزم بها الحالف عند حاكم، وقد روى الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرٍئٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»([8])، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الآية، فجاء الأشعثُ فقال: ما حدَّثكم أبو عبد الرحمن؟ فيَّ أنزلت هذه الآية، كانت لي بئرٌ في أرض ابن عمٍّ لي، فقال لي: «شهودَك». قلت: ما لي شهود، قال: «فيمينه»، قلت: يا رسول الله إذن يحلف، فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث، فأنزل الله ذلك تصديقًا له.

وروى مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي أمامةَ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»([9]).

وَلْيُعْلَم أن هذا الوعيد في دعوى ما ليس لك غيرُ خاصٍّ بما إذا كنت ستأخذ حقَّ غيرِ مُعَيَّنٍ، كلا، بل هو عامٌّ، فمن ادَّعى مُلْكًا مشاعًا للمسلمين فهو داخل في العقوبة، ومن ادَّعى أرضًا مُشَاعَةً للمسلمين بأنها ملكه وليست كذلك فهو داخل في العقوبة، ولهذا تجد كثيرًا من الناس يتحايل في ملك الأراضي، ونجده لا يبالي في الزيادة على مُلْكِه، أو ملك ما لم يملكه، وقد جاء في الصحيحين من حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»([10])، قال شراح الحديث: «وأما التطويق المذكور في الحديث فقالوا: يحتمل أن معناه أنه يحمل مثلَه من سبع أرضين، ويكلف إطاقة ذلك، ويحتمل أن يكون يجعل له كالطوق في عنقه، كما قال -سبحانه وتعالى-: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180]، وقيل: معناه أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه، وعلى تقدير التطويق في عنقه يطول الله تعالى عنقَه كما جاء في غِلَظِ جلد الكافر وعظم ضَرْسِه»([11]).

ولهذا فإن على الناس أن يحترسوا عند بنائهم لبيوتهم أو مزارعهم أن يأخذوا شِبْرًا واحدًا؛ فإن بعض الناس يخرج على طريق المسلمين، أو مواضع الرعي، أو مسايل السيول، ويتساهل في هذا، وكل هذا عقوبته عظيمة، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «الشح في الأراضي شديدٌ، والاعتداء عليها عقابه شديدٌ، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ»، أي: يُجعل طوقًا في عنقه من سبع أرضين، وليس من أرض واحدة؛ لأنه ظلم، حتى إن العلماء –رحمهم الله- قالوا: لا يجوز للإنسان أن يزيدَ في تلييس الجدار أكثر مما جرت به العادة؛ وذلك لأنه يأخذ بهذه الزيادة من السوق، والسوق مشترك، فإلى هذا الحدِّ حذَّر العلماءُ من التعدي على الأرض»([12]).

فاتقوا الله عبادَ الله، وتذكروا أن العبد ماثل وواقف أمام علام الغيوب، وليتذكر أن يمينه التي أخذ بسببها الحقَّ يوم القيامة لن تنفعه في الآخرة، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18].

ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]،  اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين...

([1]) أخرجه مسلم (1/80، رقم 61).

([2]) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (2/289).

([3]) شرح النووي على مسلم (2/ 50).

([4]) أخرجه البخاري (2/952، رقم 2534)، ومسلم (3/1337، رقم 1713).

([5]) أخرجه ابن ماجه (2/777، رقم 2317).

([6]) أخرجه أحمد (6/320، رقم 26760).

([7]) أخرجه مسلم (1/ 105، رقم 110).

([8]) أخرجه البخاري (4/1656، رقم 4275)، ومسلم (1/122، رقم 138).

([9]) أخرجه مسلم (1/ 122، رقم 218).

([10]) أخرجه البخاري (3/ 130، رقم 2452)، ومسلم (3/230، رقم 1610).

([11]) شرح النووي على مسلم (11/ 48).

([12]) الشرح الممتع على زاد المستقنع (10/ 319).

المشاهدات 7135 | التعليقات 0