أحكام صلاة العيد وكيف نختم رمضان ونودعه
عبد الله بن علي الطريف
أحكام صلاة العيد وكيف نختم رمضان ونودعه 1444/9/30هـ
الحمد لله مصرف الشهور والأيام، وفق من شاء لطاعته فاستثمرها وقام بحقها خير قيام، والشكر له أن وفقنا لإدراك شهر الصيام، وها نحن في يوم التمام. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإنعام. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً. أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر 18]
أيها الإخوة: شهرُ رمضان أزف تمامه، وتصرمت لياليه وأيامه؛ فاستثمروا ما بقي من دقائقه بما يقربُكم إلى ربكم.. وأتبعوا شهركم بكثرة الاستغفار فهو من أفضل الأعمال وأيسرها وقد حث عليه ربنا فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
نعم أحبتي: أفقٌ وضيء أفقُ المغفرة، وغايةٌ سامية تستحقُ المسارعة والسباق، وأسباب المغفرة كثيرة لا يمكن حصرها في مثل هذا المقام.
فالاستغفارُ يشرع بعد الطاعات حتى لا يتسرب للنفس العجب بالعمل فيحبط يقول ابنُ القيم -رحمه الله- مبينا حاجةَ الطائعينَ إلى الاستغفار: "الرضا بالطاعة من رُعوناتِ النَّفسِ وحماقتِها، وأربابُ العزائمِ والبصائر أشدّ ما يكونون استغفاراً عقبَ الطاعات، لشُهُودِهم تقصيرَهم فيها، وتركِهمُ القيامَ به لله كما يليق بجلاله وكبريائِه".. وبشر رَسُولُ الله ﷺ المكثرين من الاستغفار بالسرور والجنة؛ فقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ» رواه البيهقي في الشعب والطبراني وحسنه الألباني عَنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ومن أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعات وفرادى: أنه سبب لدفع البلاء والنقم عن العباد والبلاد، ورفع الفتن والمحن عن الأمم والأفراد، لاسيما إذا صدر ذلك عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة؛ قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]. وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء: 110]. ما أحوجنا لهذا في كل وقت، وخصوصاً هذا الوقت لما تمر به الأمة من فتن ومحن، نسأل الله أن يجليها.. أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المستغفرين، وأن يلهمنا الاستغفار كما نلهم النفس، وأن يرزقنا التوبة النصوح، إنه جواد كريم.
أيها الإخوة: ومما يشرعُ لكم بعدَ إكمالِ العدةِ التكبيرُ، ووقتُه من غروبِ الشمسِ ليلةَ عيدِ الفطرِ إلى صلاةِ العيدِ، قال الله -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185] أي: ولتذكروا اللهَ عندَ انقضاءِ عبادتِكم، وهذه الآيةُ دليلٌ على مشروعيةِ التكبيرِ في عيدِ الفطرِ من دخولِ شوالَ إلى الفراغِ من خطبةِ العيدِ.
وصيغةُ التكبيرِ: اللهُ أكبر اللهُ أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وإن قال: الله أكبر- ثلاثًا فلا بأس، ويسنُ الجهرُ بهِ للرجالِ في المساجدَ والأسواقِ والبيوتِ، إعلانًا لتعظيمِ اللهِ، وإظهارًا لعبادتِه وشكرِه. ويُسِرُّ به النِّسَاءُ؛ لأنهن مأموراتٌ بالتسترِ والإسرارِ بالصوتِ، إلا إن كنَّ في مكانٍ لا يسمعُه الرجالُ غيرَ المحارمِ.
أيه الإخوة: وصلاةُ العيدِ من أعلامِ الدينِ الظاهرةِ، قالَ عن حكمِها شيخُنا محمدُ العثيمين رحمه الله: أنها فرضُ عينٍ على كلِ أحدٍ، وأنه يجبُ على جميعِ المسلمين أن يصلوا صلاة العيدِ، ومن تخلّفَ فهو آثمٌ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفة واختارَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمهما الله.. واستدلَ هؤلاءِ بأن النبيَ ﷺ: «أمرَ النساءَ حتى الْحُيَّضَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ أن يخرجنَ إلى المصلى لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ» وهذا يدلُ على أنها فرضُ عينٍ؛ لأنها لو كانت فرضُ كفايةٍ لكان الرجالُ قد قاموا بها، ومن الأدلةِ على الوجوبِ كذلكَ: أمرُ اللهِ تعالى بها فقالَ: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر:2] والأمرُ يقتضي الوجوبَ وكذلك لما قال النساءُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ ﷺ: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» وفي رواية «فَلْتُعِرْها أختُها من جلابيبها» متفق عليه.
قال في المغني: ومما يدلُ على وجوبِها كذلكَ أنها من أعلامِ الدينِ الظاهرةِ، وأعلامِ الدينِ الظاهرةِ فرضُ كالأذانِ وغيرِه.
أيها الإخوة: وتتميزُ صلاةُ العيدِ عن غيرِها من الصلواتِ بأن كلَ ركعةِ تبدأُ بعددِ من التكبيراتِ ففي الركعةِ الأولى يكبرُ تكبيرةَ الإحرامِ، ثم يقرأُ دعاءَ الاستفتاحِ، ثم يكبرُ ستَ تكبيراتٍ، وفي الثانيةِ يكبرُ خمساً بعد تكبيرةِ الانتقالِ، والسنةُ أن يكبرَ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، والسنةُ للمأمومِ عدمُ رفعِ الصوتِ في التكبيرِ، وهل يرفع يديه مع كل تكبيرة قال شيخنا: والصواب أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفي تكبيرات الجنازة أيضاً؛ لأن هذا ورد عن الصحابة رضي الله عنهم فعن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد»، وكذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه رواهما الأثرم.. أهـ
وهل يسدل يديه أم يقبضهما بين التكبيرات الأمر فيه سعة، وماذا يقول بين التكبيرات.؟ قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: وقال بعض العلماء: يكبّر بدون أن يذكر بينهما ذكراً، وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسع، إن ذكر ذكراً فهو على خير، وإن كبّر بدون ذكر، فهو على خير. أهـ
وإذا دخلَ المأمومُ مع الإمامِ وقد فاته بعضُ التكبيراتِ الزوائدِ فإنهُ يكبرُ تكبيرةَ الإحرامِ، ثم يكبرُ مع الإمامِ ما بقيَ منها، ويسقطُ عنهُ ما فاته من التكبيراتِ.. ومن أدركَ جزءاً من صلاة العيد مع الإمامِ أتمها على صفتِها من حيث عدد الركعات وعدد التكبيرات، أما من فاتته كُلَها أي لم يصل للمسجد إلا بعد الفراغ من الصلاة، أو لم يحضرها أصلاً؛ فقال شيخُنا محمدُ العثيمين رحمه الله: من فاتته صلاةُ العيدِ، فلا يسنُّ له أن يقضيَها؛ لأن ذلك لم يردْ عن النبيِ ﷺ؛ ولأنها صلاةٌ ذاتُ اجتماعٍ معينٍ، فلا تشرعُ إلا على هذا الوجهِ.. وبه قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ.. أسأل الله تعالى أن يبلغنا العيد بعمر مديد بطاعته وأن يجعلنا من المقبولين.. وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعانهم، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبانها لهم، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه والتابعين لهم بإيمان وإحسان، وسلّم تسليمًا كثيرا..
أما بعد أيها الإخوة: فقد أوصانا ربنا بالتقوى فقال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131] أما شهرنا فقد دار الدهرُ دورتَه... ومضت الأيامُ تلو الأيام... وإذا بشهرنا قد أفل نجمه بعد أن سطع... وأوشك إظلام ليله بعد أن لمع... وسيخيم السكون على الكون بعدما كان الوجود كل الوجود يتأهب للقاء هذا الضيف الكريم... نعم سينقضي رمضان... فيا ولهي عليه... ذهبت أيامِه ولياليه... ذهبت... لتعود على من يكتبُ اللهُ له منا الحياة... وليودعَ من كان أجله قد حان... نعم... ذهبت يا رمضان فجرت منا عليك المدامع.. فطوبى لمن حل فيه بروضة الأبرار، وختم شهره بالتوبة والاستغفار.
يا غافلاً وليالي الصومِ قد ذَهبتْ.... زَادتْ خَطايَاك قِفْ بالبابِ وابْكِيها
وتبْ لعلَك تحْــــــــــــــــــظَى بالقبولِ عـــــــــــــسـى أنْ تبلغَ النفسُ بالتقوى أمانِيها
وقلْ إلهي أنا العبدُ الذليلُ وقد .... أتيتُ أرجـــــــــو أجوراً فازَ راجيهـــــــــــــا
فلا تَكِلني إلى نفسي ولا عملـي ..... واغفرْ ذنوبي فإني غـارقٌ فيها
وبعد أحبتي: إذا لم نحسنْ الاستقبالَ فلنحسن الوداعَ، والعبرةُ بكمالِ النهاياتِ لا بنقصِ البداياتِ.. فالأعمالُ بالخواتيمِ.. ويقولُ الحسنُ البصري: أحسنْ فيما بقي يُغفرُ لكَ ما مضى.. واغتنمْ ما بقيَ، فلا تدري متى تدركُ رحمةَ اللهِ، ربما تكونُ في آخرِ ساعةٍ من رمضان اللهم اختم لنا رمضانَ بالغفرانِ. من كان منا أحسن فيما مضى فعليه بالتمام، ومن فرط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.. وودعوا شهركم بأزكى تحية وسلام.
وصلوا وسلموا على نبيكم استجابة لأمر ربكم فقد قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وَقَالَ ﷺ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا.. اللهم تقبل منا إنك أنت السميعُ العليم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.. اللهم إنا نسألك الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد والغنيمة من كلِّ بِرٍ والسلامةَ من كلِّ إثم والفوزَ بالجنة والنجاةَ من النار. اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك. اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان والسلامةِ والإسلام واحفظ رجال أمننا الداخلي والخارجي واجزهم عنا خير الجزاء.. اللهم وفق ولاةَ أمورِنا لما تُحبُّ وترضى وأعنهم على البر والتقوى. اللهم زدهم هدىً وصلاحاً وتوفيقا. (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8] (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201] (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45].