أحكام زكاة الفطر
ناصر محمد الأحمد
أحكام زكاة الفطر
23/9/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: شَرعَ لنا ربنا في ختام رمضان زكاة الفطر: فقد شرعه الله طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وشكراً لله على توفيقه، وهي زكاةٌ عن البدن، حيث أبقاه الله تعالى عاماً من الأعوام، وأنعم عليه سبحانه بالبقاء، ولأجله استوى فيه الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والحر والعبد، والكامل والناقص، في مقدار الواجب: وهو الصاع.
زكاة الفطر: يخرجها المسلم قبل صلاة العيد شكراً لله تعالى على نعمة التوفيق لصيام رمضان وقيامه، يختم بها المسلم عمل رمضان.
تسمى زكاة الفطر وتسمى صدقة الفطر، ويقال للمُخرَج فطرة، وهي المقصودة في قول الله تعالى: (قد أفلح من تزكى) وقد أضيفت الى الفِطر لأنها تجب بالفطر من رمضان وهي صدقة عن البدن والنفس.
زكاة الفطر: يخرجها المسلم من غالب قوت البلد، والأصل فيها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير على كل حر وعبد ذكر أو أنثى على الصغير والكبير".
زكاة الفطر: إحسان إلى الفقراء وكفّ لهم عن السؤال في أيام العيد ليشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم به، ويكون عيداً للجميع، وفيها الإتصاف بخلق الكرم وحب المواساة.
زكاة الفطر: فيها تطهير للصائم مما يحصل في صيامه من نقص ولغو وإثم. فالصيام الكامل هو الذي يصوم فيه اللسان والجوارح كما يصوم البطن والفرج، فلا يَسمح الصائم للسانه ولا لأذنه ولا لعينه ولا ليده ولا لرجله أن تتلوث بما نهى الله ورسوله عنه من قول أو فعل، وقلّ أن يسلم مسلم من ذلك، فجاءت زكاة الفطر في ختام الشهر لتجبر ذلك كله وتغسل ما قد يكون علق بالصائم مما يكدّر صومه وينقص أجره.
وأما وقتها: فإن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس ليلة العيد، لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، فمن تزوج، أو ملك عبداً، أو وُلِد له ولد، أو أسلم قبل غروب الشمس، فعليه زكاة الفطر، وإن كان ذلك بعد الغروب لم تلزمه، ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر.
وزمن دفعها له وقتان: وقت فضيلة ووقت جواز.
فأما وقت الفضيلة فهو صباح العيد قبل الصلاة. عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة" رواه البخاري ومسلم.
وأما وقت الجواز: فهو قبل العيد بيوم أو يومين. لما ثبت عن نافع قال كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إنه كان يعطي عن بَنِيّ وكان يعطيها الذين يقبلونها وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
وإن أخرها عن صلاة العيد أثم وأجزأت، وإن فات يوم العيد ولم يخرجها فإنه يقضيها ولا تسقط عنه.
أيها المسلمون: وتجب زكاة الفطر فريضةً على الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين. لما ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم.
فهي واجبة على المسلم المستطيع الذي يملك مقدار الزكاة زائدًا عن حاجته وحاجة أهله يومًا وليلةً، وإن لم يكن عنده إلا ما يكفي أهله فقط، فليس عليه شيء.
وتستحب عن الجنين فقد كان السلف رضي الله عنهم يخرجونها عنه. ويجب أن يخرجها عن نفسه وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم لأنهم المخاطبون بها أصلاً. أما الخادم المستأجَر فزكاته على نفسه، ومثلها الخادمة، إلا أن يتبرع بها المستأجِر أو يشترطون هم عليه. أما الخادم المملوك فزكاته على سيده.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا على أن صدقة الفطر فرض، وأجمعوا على أن صدقة الفطر تجب على المرء إذا أمكنه أداؤها عن نفسه، وأولاده الأطفال الذين لا أموال لهم، وأجمعوا على أن على المرء أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر".
والواجب في زكاة الفطر صاع من غالب قوت أهل البلد من بر أو شعير أو أرز أو تمر أو زبيب أو أقط، وكلما كان أجود فهو خير وأفضل، فعلى كل مسلم ذكر أو أنثى صغير أو كبير حر أو عبد أن يخرج صاعاً من طعام بصاع النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يعادله كيلاً أو وزناً، ولا يجزئ أقل من ذلك، والصاع بمقاييسنا الحالية قرابة الكيلوين وأربعين جراماً.
أيها المسلمون: وزكاة الفطر تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين، فإن كان في بلد ليس فيه من يدفع إليه أو كان لا يعرف المستحقين فيه، وكّل من يدفعها عنه في مكان فيه مستحق. وبناء على ذلك فمن أقام في بلده أكثر رمضان، ثم سافر إلى بلد آخر في أواخر رمضان فالأولى له أن يدفع زكاة الفطر في البلد الذي سافر إليه لأنه البلد الذي غرب عليه فيه شمس آخر يوم من رمضان، وإن دفعها إلى فقراء بلده الذي يقم فيه أجزأته ولكن خلاف الأولى.
وزكاة الفطر خاصة بالفقراء والمساكين، ولا تصرف لبقية المصارف الثمانية التي تصرف لها الزكاة إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك.
والأولى أن تصرف على فقراء نفس البلد إلا أن يكون في غيره من هو أشد حاجة فلا حرج حينئذ من نقله.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: وهنا مسألة تثار في كل سنة، وهو إخراج زكاة الفطر نقوداً بدلاً عن الطعام. فيسألون: هل تجزئ القيمة في زكاة الفطر؟ أم أنه يجب أن تكون طعاماً: الجواب:
اعلموا رحمني الله وإياكم أن العبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأيّةِ عبادة إلاّ بما أخذ عن المشرّع الحكيم صلوات الله وسلامه عليه، الذي قال الله تبارك وتعالى عنه: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وقد شرّع هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة: صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط. روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر. وبناءً عليه فلا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر وإنما يجب أن تكون غالب قوت أهل البلد، فنقول بأن إخراج القيمة لا يجزئ لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يخرجونها صاعاً من طعام.
ولأن زكاة الفطر عبادة مفروضة من جنس معين في وقت معين، فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزئ إخراجها في غير الوقت المعين، لأن كل الذين يقولون بجواز إخراج القيمة، يعللون القضية عقلياً في أذهانهم، ويقولون: بأن المال أنفع للفقير من الطعام. فلو تركت للعقل، فقد يقول قائل هذا الفقير كل الناس يعطونه الآن في رمضان فيتكدس لديه الطعام، وبناءً عليه فأنا أعطيه في ذي القعدة، ولو فكرت في كلامه عقلياً قد يكون له شيء من الوجاهة. فحسماً للاجتهادات العقلية يقال كما أنه لا يجوز تغيير الوقت، فكذلك لا يجوز تغيير الجنس.
وَلَو قَالَ قَائِلٌ: النُّقُودُ أنفَعُ لِلفَقِيرِ وَيَشتَرِي بِهَا مَا يَشَاءُ وَقَد يَحتَاجُ شَيئًا آخَرَ غَيرَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَدْ يَبِيعُ الفَقِيرُ الطَّعَامَ وَيَخسَرُ فِيهِ!.
فَالجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ: أنَّ هُنَاكَ مَصَادِرَ أخْرَى لِسَدِّ احتِيَاجَاتِ الفُقَرَاءِ فِي المسْكَنِ وَالملْبَسِ وَغَيرِهَا، وَذَلِكَ مِن زَكَاةِ المالِ وَالصَّدَقَاتِ العَامَّةِ وَالهِبَاتِ وَغَيرِهَا فَلنَضَعِ الأمُورَ فِي نِصَابِهَا الشَّرعِيِّ، وَنَلتَزِمُ بِمَا حَدَّدَهُ الشَّارِعُ وَهُوَ قَدْ فَرَضَهَا صَاعاً مِن طَعَامٍ: طُعمَةٌ لِلمَسَاكِينِ.
وَنَحنُ لَو أعطَينَا الفَقِيرَ طَعَامًا مِن قُوتِ البَلَدِ فَإنَّهُ سَيَأكُلُ مِنهُ وَيَستَفِيدُ عَاجِلًا أوْ آجِلًا لأنَّ هَذَا مِمَّا يَستَعمِلُهُ أصْلًا، وَبِنَاءً عَلَيهِ فَلَا يَجُوزُ إعطَاؤُهَا مَالًا لِسَدَادِ دَينِ شَخصٍ، أوْ أُجرَةِ عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ لِمَرِيضٍ، أو تَسدِيدِ قِسطِ دِرَاسَةٍ عَن طَالبٍ مُحتَاجٍ، وَنَحوِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا مَصَادِرُ أُخرَى.
وبناءً عليه فلا يجزئ دفع القيمة بدلاً عن زكاة الفطر. ولو أخرجها من الثياب فإن ذلك لا يجزأه، ولو أخرجها من أي شيء آخر غير الطعام فإن ذلك لا يجزأه، وكل قياس أو نظر يخالف النص فإنه مردود على صاحبه، والرسول صلى الله عليه وسلم فرضها صاعاً من طعام، ونحن متعبدين لله عز وجل بما جاء في شريعة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولسنا متعبدين بما تهواه نفوسنا أو ترجحه عقولنا ما دام في المسألة نص: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا). فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "كنا نخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير". فهل يعني هذا أن الدراهم كانت مفقودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يجدوا إلاّ الطعام؟. كلا. فإن الدراهم كانت موجودة والذهب موجود والفضة موجودة، ولم يفرض النبي صلى الله عليه وسلم علينا إلا صاعاً من طعام. وقد أجمع علماء المسلمين بأن كل قياس في مقابلة النص فهو مردود على صاحبه وفاسد لا يلتفت إليه.
ما موقفنا أيها الإخوة أمام الله عز وجل إذا سألنا يوم القيامة: قد بلغكم عن رسولي بالسند المتصل الصحيح المنتهي إلى عبدالله بن عمر، ثم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن زكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير. هل لنا حجةً أن نقول: يا ربنا إنا رأينا أن الدراهم خير. أبداً والله، فإن الخير ما اختاره الله لنا، والخير ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا.
ثم إننا لو قلنا بالقيمة، فقيمة صاع التمر يختلف سعره عن قيمة صاع القمح ويختلف سعره عن قيمة صاع الشعير، فبأي قيمة نأخذ؟ هل بالأقل أم بالأكثر أم بالمتوسط؟ وإذا أخذنا بأحدهما فلماذا ليس بالآخر؟. لكن الصاع ثابت.
ثم إن إخراج القيمة يُخرج زكاة الفطر عن كونها شعيرة ظاهرة، فمقصود الشارع إظهار هذه الشعيرة، فلو صارت قيمة لأصبحت خفية مثل الصدقة يعطيها الإنسان سراً للفقير وليس هذا هو المقصود من زكاة الفطر، وإنما مقصودها أن تكون ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كيلها وتوزيعها ويتبادلونها بينهم بخلاف مالو كانت دراهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أوجبها الله طعاماً كما أوجب الكفارة طعاماً".
وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني: سئل أحمد بن حنبل رحمه الله في صدقة الفطر، فقال: "لا يُعطي قيمتها"، قيل له: إن عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ القيمة، فقال: يَدَعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زكاة الفِطر صاعٌ من تمر، أو صاع من شعير"، وقد قال الله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) المائدة: 92! ثم قال: قومٌ يَردُّون السننَ، قال فلان، قال فلان!".
وقال الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "ولا يجوز إخراج القيمة عند جمهور أهل العلم، وهو أصح دليلاً، بل الواجب إخراجها من الطعام، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ".
وقال العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "نرى أنه لا يجوز أن تُدفَع زكاة الفطر نقودًا بأي حال من الأحوال، بل تدفع طعاماً، والفقير إذا شاء باع هذا الطعام وانتفع بثمنه، أما المزكِّي فلا بد أن يدفعها طعاماً".
اللهم ..