أحكام المعاهدين والمستأمنين في الإسلام . موافقة للتعميم

عبد الله بن علي الطريف
1444/01/20 - 2022/08/18 21:03PM

أحكام المعاهدين والمستأمنين في الإسلام 1444/1/21هـ

الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه، أعطى فأجزل ومنحَ فتفَضَّل.. وأشهد أن محمداً عبدُالله، ورسولُه ومصطفاهُ وخليلُه.. أدى الرسالةَ ونصحَ الأمةَ وجاهدَ في اللهِ حقَ جهادِه حتى أتاه اليقين، بعد أن أتم الله به الدين.. فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.. أما بعد...

أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. قال الله تعالى ممتناً على عباده: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3] قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ عَرَفَة، فَلَمْ يُنَزَّلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَاتَ، أي بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِواَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا.

 قال ابن كثير: هَذِهِ أَكْبَرُ نِعَمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينٍ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خُلْف، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا) [الْأَنْعَامِ:115] أَيْ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَمَّا أَكْمَلَ الدِّينَ لَهُمْ تَمَّتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) أَيْ: فَارْضَوْهُ أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ وَبَعَثَ بِهِ أَفْضَلَ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، وَأَنْزَلَ بِهِ أَشْرَفَ كُتُبِهِ.

أيها الإخوة: ومن كمال هذا الدين أنه جاء بحفظ النفس وعدها من الضرورات الخمس، لا فرق بوجوب الحفظ بين المسلمين أو المعاهدين أو المستأمنين، قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله ما ملخصه: المعاهدون هم الذين نعقد بيننا وبينهم عهداً أن لا يعتدوا علينا، ولا نعتدي عليهم، وأن لا يعينوا علينا ولا نعين عليهم، وهؤلاء إن استقاموا على العهد ونفذوه تماماً، وجب علينا أن نستقيم لهم؛ لقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:7]، والوفاء بعهدهم لا شك أنه من محاسن الإسلام. إهـ

والمستأمن: هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان لأداء مهمة ثم يرجع إلى بلده بعد إنهائها دون نية الاستيطان.. فهذا له حق الأمان بالمحافظة على نفسه وماله، وسائر حقوقه ومصالحه، مادام مستمسكاً بحكم الأمان.. وعليه الالتزام بأحكام الإسلام في المعاملات، والخضوع لأحكام الإسلام في الجنايات والعقوبات.

ويحرم على الناس أذاه، أو سبه، أو الإساءة إليه، أو قتله، فَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «ذِمَّةُ الـمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ، فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ». متفق عليه. قال النووي والمعنى: الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ هُنَا الْأَمَانُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ صَحِيحٌ فَإِذَا أَمَّنَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ التَّعَرُّضُ لَهُ مَا دَامَ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِ.. وفي هذا الزمان من مُنِحَ تأشيرة دخول للبلاد من ولي الأمر أياً كان نوعها وأياً كانت ديانته، وجب له الأمان وعلى الجميع مواطنين ومقيمين احترام عقد الأمان والالتزام به..

ومعنى «ذِمَّةُ الـمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ» أي عهدهم واحد، «يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ» أي يتولى ذمتهم أقلهم عددا أو مكانة فإذا أعطى أحدُ المسلمين عهداً لم يكن لأحد نقضه.

أيها الإخوة: والإسلام يكفل للناس مسلمهم وكافرهم العدل قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: مع المسلمين ومع الكفار، حتى لو لم يكونوا معاهَدين أو مستأمَنين أو أهل ذمة، قال الله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا). [المائدة:2]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). [المائدة:8].

والذين يعتدون على الأمن إما أن يكونوا خوارج أو قُطَّاع طُرُق أو بغاة، وكل من هذه الأصناف الثلاثة يتّخذ معه الإجراء الصارم الذي يوقفه عند حدّه ويكفّ شرّه عن المسلمين والمستأمنين والمعاهدين وأهل الذمة. فهؤلاء الذين يقومون بالتفجير في أيّ مكان ويتلِفون الأنفس المعصومة والأموال المحترمة لمسلمين أو معاهدين ويرمّلون النساء وييتّمون الأطفال؛ هم من الذين قال الله فيهم: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[البقرة:204-206].

ومن العجيب أن هؤلاء المعتدين الخارجين على حكم الإسلام يسمون عملهم هذا جهادًا في سبيل الله، وهذا من أعظم الكذب على الله؛ فإن الله جعل هذا فسادًا ولم يجعله جهادًا، ولكن لا نعجب حينما نعلم أن سلف هؤلاء من الخوارج كفّروا الصحابة وقتلوا عثمان وعليّا رضي الله عنهما..

أيها الإخوة: والمطلع على السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي منذ صدر الإسلام يرى العجب فيرى كيف كان رسول الله ﷺ يعامل المعاهدين والذميين والمستأمنين حتى صار سمة جميلة يتميز بها المجتمع المسلم فَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ الفَتْحِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ».؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ، فُلاَنَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ ﷺ ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» رواهما البخاري. "وَمَرَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ إِنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ، ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ. قَالَ: ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ".. وَعَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِالْجَابِيَةِ [موضع في بلاد الشام] وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُخْبِرُهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْرَعُوا فِي عِنَبِهِ فَخَرَجَ عُمَرُ حَتَّى لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، يَحْمِلُ تُرْسًا عَلَيْهِ عِنَبٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَأَنْتَ أَيْضًا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَانْصَرَفَ عُمَرُ فَأَمَرَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ بِقِيمَةِ عِنَبِهِ" رواهما ابن زنجويه في الأموال. وصلى الله وسلم على نبينا محمد..

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ أيها الإخوة: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واعلموا أن من أكبر الكبائر قتل المعاهدين أو المستأمنين، وقتلهم بغير حقّ جريمة بشعة، واعتداء على المجتمع كلّه، وسبب لجلب سخط الرّبّ تبارك وتعالى فَعَنْ عَبْدِالله بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَداً لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عَاماً». أخرجه البخاري.

وقد وفق اللهُ تعالى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، بوصف هذا العمل الشنيع خير وصف فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ». رواه البخاري. وعلق عليه شيخنا محمد العثيمين رحمه الله فقال: "ولقد صدق ابن عمر رضي الله عنهما، إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها أن يسفكَ الإنسان الدم الحرام بغير حلّه، وإن دم المعاهد حرام، وسفكه من كبائر الذنوب؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن من قتله لم يرح رائحة الجنة، وكل ذنب توعَّد الله عليه في كتابه أو رسوله ﷺ في سنته فإنه من كبائر الذنوب".

وقال رحمه الله: ذمةُ المسلمين واحدة يعني عهدهم واحد.. فمثلا إذا دخل كافر إلى البلد في أمان وعهد ممن لهم ولاية العهد، أو غيرهم ممن له الأمان، ثم خَفَرَهُ أحد، استحق اللعنة من الله والملائكة والناس أجمعين.. وقال رحمه الله: وفي هذا دليل على حماية الدين الإسلامي لمن دخل بأمانه وجواره، وأن الدين الإسلامي لا يعرف الغدر والاغتيال والجرائم.. اللهم فقهنا في ديننا واجعلنا هداة مهتدين... وصلوا وسلموا

المشاهدات 3900 | التعليقات 0