أحكام المساجد (6) (متفرقات منهي عنها)
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/05/11 - 2017/02/08 17:14PM
الحمدلله ...
المسجد بيت الله عز وجل في الأرض، أطهر ساحات الدنيا، وأنقى بقاع الأرض؛ فيه تتآلف القلوب المؤمنة، وتتنزل رحمات الرب جل وعلا، وتهبط ملائكة الله، وتحل السكينة والخشوع، هو قلعة الإيمان وبيت كل تقي، أُمر كل مسلم بالغ أن يدخله في اليوم خمس مرات؛ ولهذا المسجد آداب وأحكام، وقد تكلمنا في أربع خطب سابقة عن بعض آداب وأحكام المساجد وها نحن اليوم نكمل هذه السلسلة لنتحدث عن سبع مسائل تخص المساجد.
المسألة الأولى: زخرفة المساجد والتباهي بها
لقد أمر الله تبارك وتعالى عمارة المساجد بالذكر وإقامة الصلاة وحث الناس وترغيبهم إليها، وليس الاهتمام بشكلها ومظهرا فحسب، فلا فائدة من مساجد دون مصلين، ولكي يكون الاهتمام بالمضمون دون الشكل؛ نهى النبي-صلى الله عليه وسلم- عن زخرفة المساجد لما فيها من تبذير وإسراف، وإشغال للمصلي لما جاء له. ولكن كثيرا من مساجد المسلمين أصبحت لا تخلو من تلك الزخارف، وقد روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: -صلى الله عليه وسلم- (مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) رواه أبود وابن ماجه.
ولعل الحكمة في نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن زخرفة المساجد كي يجعل المصلي يأتي للمسجد لا لجماله وإنما احتسابا للثواب المعد لكل من دخل المسجد، ومتى ما اشتغل الناس بزخرفة المساجد حلت عليهم العقوبات، فقد روى أبو الدرداء –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) رواه الحكيم الترمذي وحسنه الألباني.
وقد يكون هذا دعاءٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- على من زخرف المساجد، فتخيل حال من دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه بالدمار؟! لا شك أن حاله إما فتنة في دينه أو دنياه.
ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن استمرار الناس حتى آخر الزمان بالتباهي بزخرفة المساجد وتباهي بعضهم وتفاخرهم بجمال مساجدهم فروى أَنَسٍ –رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ) رواه أبو داود والنسائي.
ولا شك أن زخرفة المساجد يزيد من تكلفتها، ولو أن الزائد من تلك التكلفة بُني به مسجد آخر لكان أعظم أجرا.
فلا ينبغي أن يكون حرصنا على المساجد مبنيا على جعلها معلما سياحيا، فالمساجد بنيت لغاية سامية ورفيعة، بنيت لكي يُعبد اللهُ تعالى فيها، بنيت ليجتمع فيها عباد الله الموحدون، ليؤدوا ما فرض الله عليهم، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ.
المسألة الثانية: دفن الصالحين في المساجد
لقد شاع في كثير من دول العالم الإسلامي دفن الأموات خصوصا الصالحين في المساجد أو قيام من تبرع ببناء مسجد بالوصية لدفنه في مسجده، ولا شك أن هذا أمر محرم لأنه يفضي إلى الشرك. وهذه أعظم فتنة أوقعت ملايين الناس في الشرك والعياذ بالله، والمساجد التي فيها قبور لا يجوز أن يصلى فيها، فقد صح عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))، وقال أيضا -صلى الله عليه وسلم- (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
وهنا شبهة يتشبث بها عباد القبور وهي وجود قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، والجواب عن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدفنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وإنما دفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها المجاور للمسجد امتثالا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقد قالت عَائِشَةَ رضي الله عنها: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ قَالَ: (مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ) ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ رواه الترمذي.
ولما وسع الوليد بن عبد الملك مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر القرن الأول؛ أدخل حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد، فأنكر عليه بعض أهل العلم، ولكنه اعتقد أن ذلك لا بأس به من أجل التوسعة، فلا يجوز لمسلم أن يحتج بذلك على بناء المساجد على القبور، أو الدفن في المساجد؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة؛ ولأن ذلك أيضاً من وسائل الشرك بأصحاب القبور، وهذا ما وقع فعلا في كثير من الدول، فترى الناس يستغيثون ويطوفون بقبر الحسين وقبر زينب والبدوي وغيرهم، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا).
ويتساءل البعض خصوصا لمن سافر خارج البلاد: عن حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور أو بجوارها قبور. أجاب عن ذلك ابن عثيمين رحمه الله تعالى فقال: إذا كان المسجد ليس في المقبرة، وليس فيه قبر فالصلاة فيه صحيحة اهـ.
وسئل مرة أخرى رحمه الله: ما حكم الصلاة في مسجد في قبلته قبر؟ فأجاب قائلاً: " لا يجوز أن يوضع في المسجد قبر، لا في قبلته ولا خلف المصلين، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم، وإذا دفن أحد في المسجد ولو كان هو المؤسس له فإنه يجب أن يُنبش هذا القبر، وأن يدفن مع الناس، أما إذا كان القبر سابقاً على المسجد وبني المسجد عليه فإنه يجب أن يهدم المسجد، وأن يبعد عن القبر، لأن فتنة القبور في المساجد عظيمة جداً، فربما يدعو إلى عبادة هذا المقبور، ولو بعد زمن بعيد، وربما يدعو إلى الغلو فيه، وإلى التبرك به، وهذا خطر عظيم على المسلمين؛ لكن إن كان القبر سابقاً وجب أن يُهدم المسجد ويغير مكانه، وإن كان المسجد هو الأول فإنه يجب أن يخرج هذا الميت من قبره ويدفن مع المسلمين، والصلاة إلى القبر محرمة، ولا تصح الصلاة إلى القبر، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصلوا إلى القبور) اهـ.
لذلك فلنحذر معشر المؤمنين إذا سافر أحدنا لخارج البلاد ألا يصلي في أي مسجد به قبر لئلا يقع في المحذور.
هذه بعض الأمور المتعلقة بالمساجد، أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى وتعلموا أحكام المساجد ما يباح فيها وما يكره فإن ذلك من تعظيم شعائر الله، وقد ذكرت لكم مسألتين هامتين أما
المسألة الثالثة: شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة
قد يروق لبعض الناس خصوصا المولعين بالسياحة ومتابعة الآثار شد الرحال والسفر لزيارة مسجد معين لقدمه أو شهرته وهذا أمر غير مشروع لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث روى البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى).
المسألة الرابعة: الانتفاع بأدوات المسجد للأغراض الشخصية
فبعض الناس قد يطلب من إمام مسجده سماعات أو لاقطات أو قطع سجاد موجودة في مستودع المسجد ليستخدمها في حفل عرس أو في أي مناسبة، فتلك الأشياء موقوفة للمسجد فلا يشرع إخراجها من المسجد، كما أن بعض الناس قد يأخذ مصحفا كبير من المسجد ليقرأ فيه في البيت، فهذا لا يجوز أيضا لأن هذه المصاحف موقوفة للمسجد فقط.
المسألة الخامسة: بناء المساجد من أموال الزكاة
فبعض التجار والمحسنين قد يبنوا المساجد من أموال زكاتهم وهذا لا يجوز لأن الزكاة تصرف على الأصناف الثمانية التي شملتهم آية الزكاة، قال تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فلا يجوز توجيه أموال الزكاة لبناء مساجد أو حفر آبار.
المسألة السادسة: الصلاة في المساجد التي بنيت من مال حرام
فبعض المغنين أو من اكتسب مالا حراما قد يبنوا بها مساجد، فما حكم الصلاة فيها؟ أجاب عن ذلك الإمام النووي وابن تيمية وابن عثيمين رحمهم الله تعالى. قال ابن عثيمين: الصلاة فيه جائزة ولا حرج فيها؛ لأن الذي بناه من مال حرام ربما يكون أراد في بنائه أن يتخلص من المال الحرام الذي اكتسبه، وحينئذٍ يكون بناؤه لهذا المسجد حلالاً إذا قصد به التخلص من المال الحرام، وإن كان التخلص من المال الحرام لا يتعين ببناء المساجد، بل إذا بذله الإنسان في مشروع خيري حصلت به البراءة اهـ.
هذه أهم آداب المساجد، أو ما يتعلق بها، أرجو أن نكون قد استوعبناها لنعمل بها، وإن كان هناك الكثير من الأحكام الأخرى لم نتطرق لها خشية السآمة.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا ويثبت حجتنا، اللهم زينا بالعلم وجملنا بالتقوى وألبسنا لباس العافية، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
المسجد بيت الله عز وجل في الأرض، أطهر ساحات الدنيا، وأنقى بقاع الأرض؛ فيه تتآلف القلوب المؤمنة، وتتنزل رحمات الرب جل وعلا، وتهبط ملائكة الله، وتحل السكينة والخشوع، هو قلعة الإيمان وبيت كل تقي، أُمر كل مسلم بالغ أن يدخله في اليوم خمس مرات؛ ولهذا المسجد آداب وأحكام، وقد تكلمنا في أربع خطب سابقة عن بعض آداب وأحكام المساجد وها نحن اليوم نكمل هذه السلسلة لنتحدث عن سبع مسائل تخص المساجد.
المسألة الأولى: زخرفة المساجد والتباهي بها
لقد أمر الله تبارك وتعالى عمارة المساجد بالذكر وإقامة الصلاة وحث الناس وترغيبهم إليها، وليس الاهتمام بشكلها ومظهرا فحسب، فلا فائدة من مساجد دون مصلين، ولكي يكون الاهتمام بالمضمون دون الشكل؛ نهى النبي-صلى الله عليه وسلم- عن زخرفة المساجد لما فيها من تبذير وإسراف، وإشغال للمصلي لما جاء له. ولكن كثيرا من مساجد المسلمين أصبحت لا تخلو من تلك الزخارف، وقد روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: -صلى الله عليه وسلم- (مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) رواه أبود وابن ماجه.
ولعل الحكمة في نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن زخرفة المساجد كي يجعل المصلي يأتي للمسجد لا لجماله وإنما احتسابا للثواب المعد لكل من دخل المسجد، ومتى ما اشتغل الناس بزخرفة المساجد حلت عليهم العقوبات، فقد روى أبو الدرداء –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) رواه الحكيم الترمذي وحسنه الألباني.
وقد يكون هذا دعاءٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- على من زخرف المساجد، فتخيل حال من دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه بالدمار؟! لا شك أن حاله إما فتنة في دينه أو دنياه.
ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن استمرار الناس حتى آخر الزمان بالتباهي بزخرفة المساجد وتباهي بعضهم وتفاخرهم بجمال مساجدهم فروى أَنَسٍ –رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ) رواه أبو داود والنسائي.
ولا شك أن زخرفة المساجد يزيد من تكلفتها، ولو أن الزائد من تلك التكلفة بُني به مسجد آخر لكان أعظم أجرا.
فلا ينبغي أن يكون حرصنا على المساجد مبنيا على جعلها معلما سياحيا، فالمساجد بنيت لغاية سامية ورفيعة، بنيت لكي يُعبد اللهُ تعالى فيها، بنيت ليجتمع فيها عباد الله الموحدون، ليؤدوا ما فرض الله عليهم، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ.
المسألة الثانية: دفن الصالحين في المساجد
لقد شاع في كثير من دول العالم الإسلامي دفن الأموات خصوصا الصالحين في المساجد أو قيام من تبرع ببناء مسجد بالوصية لدفنه في مسجده، ولا شك أن هذا أمر محرم لأنه يفضي إلى الشرك. وهذه أعظم فتنة أوقعت ملايين الناس في الشرك والعياذ بالله، والمساجد التي فيها قبور لا يجوز أن يصلى فيها، فقد صح عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))، وقال أيضا -صلى الله عليه وسلم- (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
وهنا شبهة يتشبث بها عباد القبور وهي وجود قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، والجواب عن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدفنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وإنما دفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها المجاور للمسجد امتثالا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقد قالت عَائِشَةَ رضي الله عنها: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ قَالَ: (مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ) ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ رواه الترمذي.
ولما وسع الوليد بن عبد الملك مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر القرن الأول؛ أدخل حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد، فأنكر عليه بعض أهل العلم، ولكنه اعتقد أن ذلك لا بأس به من أجل التوسعة، فلا يجوز لمسلم أن يحتج بذلك على بناء المساجد على القبور، أو الدفن في المساجد؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة؛ ولأن ذلك أيضاً من وسائل الشرك بأصحاب القبور، وهذا ما وقع فعلا في كثير من الدول، فترى الناس يستغيثون ويطوفون بقبر الحسين وقبر زينب والبدوي وغيرهم، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا).
ويتساءل البعض خصوصا لمن سافر خارج البلاد: عن حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور أو بجوارها قبور. أجاب عن ذلك ابن عثيمين رحمه الله تعالى فقال: إذا كان المسجد ليس في المقبرة، وليس فيه قبر فالصلاة فيه صحيحة اهـ.
وسئل مرة أخرى رحمه الله: ما حكم الصلاة في مسجد في قبلته قبر؟ فأجاب قائلاً: " لا يجوز أن يوضع في المسجد قبر، لا في قبلته ولا خلف المصلين، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم، وإذا دفن أحد في المسجد ولو كان هو المؤسس له فإنه يجب أن يُنبش هذا القبر، وأن يدفن مع الناس، أما إذا كان القبر سابقاً على المسجد وبني المسجد عليه فإنه يجب أن يهدم المسجد، وأن يبعد عن القبر، لأن فتنة القبور في المساجد عظيمة جداً، فربما يدعو إلى عبادة هذا المقبور، ولو بعد زمن بعيد، وربما يدعو إلى الغلو فيه، وإلى التبرك به، وهذا خطر عظيم على المسلمين؛ لكن إن كان القبر سابقاً وجب أن يُهدم المسجد ويغير مكانه، وإن كان المسجد هو الأول فإنه يجب أن يخرج هذا الميت من قبره ويدفن مع المسلمين، والصلاة إلى القبر محرمة، ولا تصح الصلاة إلى القبر، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصلوا إلى القبور) اهـ.
لذلك فلنحذر معشر المؤمنين إذا سافر أحدنا لخارج البلاد ألا يصلي في أي مسجد به قبر لئلا يقع في المحذور.
هذه بعض الأمور المتعلقة بالمساجد، أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى وتعلموا أحكام المساجد ما يباح فيها وما يكره فإن ذلك من تعظيم شعائر الله، وقد ذكرت لكم مسألتين هامتين أما
المسألة الثالثة: شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة
قد يروق لبعض الناس خصوصا المولعين بالسياحة ومتابعة الآثار شد الرحال والسفر لزيارة مسجد معين لقدمه أو شهرته وهذا أمر غير مشروع لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث روى البخاري ومسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى).
المسألة الرابعة: الانتفاع بأدوات المسجد للأغراض الشخصية
فبعض الناس قد يطلب من إمام مسجده سماعات أو لاقطات أو قطع سجاد موجودة في مستودع المسجد ليستخدمها في حفل عرس أو في أي مناسبة، فتلك الأشياء موقوفة للمسجد فلا يشرع إخراجها من المسجد، كما أن بعض الناس قد يأخذ مصحفا كبير من المسجد ليقرأ فيه في البيت، فهذا لا يجوز أيضا لأن هذه المصاحف موقوفة للمسجد فقط.
المسألة الخامسة: بناء المساجد من أموال الزكاة
فبعض التجار والمحسنين قد يبنوا المساجد من أموال زكاتهم وهذا لا يجوز لأن الزكاة تصرف على الأصناف الثمانية التي شملتهم آية الزكاة، قال تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فلا يجوز توجيه أموال الزكاة لبناء مساجد أو حفر آبار.
المسألة السادسة: الصلاة في المساجد التي بنيت من مال حرام
فبعض المغنين أو من اكتسب مالا حراما قد يبنوا بها مساجد، فما حكم الصلاة فيها؟ أجاب عن ذلك الإمام النووي وابن تيمية وابن عثيمين رحمهم الله تعالى. قال ابن عثيمين: الصلاة فيه جائزة ولا حرج فيها؛ لأن الذي بناه من مال حرام ربما يكون أراد في بنائه أن يتخلص من المال الحرام الذي اكتسبه، وحينئذٍ يكون بناؤه لهذا المسجد حلالاً إذا قصد به التخلص من المال الحرام، وإن كان التخلص من المال الحرام لا يتعين ببناء المساجد، بل إذا بذله الإنسان في مشروع خيري حصلت به البراءة اهـ.
هذه أهم آداب المساجد، أو ما يتعلق بها، أرجو أن نكون قد استوعبناها لنعمل بها، وإن كان هناك الكثير من الأحكام الأخرى لم نتطرق لها خشية السآمة.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا ويثبت حجتنا، اللهم زينا بالعلم وجملنا بالتقوى وألبسنا لباس العافية، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.... اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.