أحكام القنوت
ناصر محمد الأحمد
أحكام القنوت
16/9/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: للدعاء شأناً عظيماً ومكانة عالية نوه بها القرآن الكريم وصدحت بها السنة المطهرة، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين) (غافر: 60)، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدعاء هو العبادة" رواه أبو داود والترمذي.
ورمضان شهر الدعاء، ويحرص الأئمة على القنوت في صلاة التراويح، وربما تأثر الناس بدعاء القنوت أكثر من تأثرهم بسماعهم القرآن. فهذه بعض المخالفات التي تقع من البعض في القنوت في رمضان:
أولاً: التطويل المخل في الدعاء، والتنافس فيه، وتكلف الإبداع في مقاطعه: مع أن أدعية القنوت المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، كلها أدعية مختصرة جامعة، ولهذا سعى بعض علماء السلف إلى تحديد مقدار القنوت. وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُطَوِّلُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوت.
وعليه فإن الإمام يمنع من التطويل الذي يشق على المأمومين.
ومن أبرز أدعية القنوت ما جاء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت" رواه أحمد.
إن تطويل دعاء القنوت يؤدي إلى غفلة كثير من الداعين عن مقاصد الدعاء، لما ينتابهم من السآمة والإعياء لطول القيام واستمرار رفع الأيدي.
ثانياً: من المخالفات التي من البعض هداهم الله: الإعراض عن الأدعية المأثورة في القرآن وصحيح السنة والاعتياض عنها بأدعية مخترعة: إن عدم التزام الأدعية النبوية وتجشم ابتكار أدعية غير معروفة، ينافي ما نص عليه كثير من أهل العلم من أن قنوت الوتر في رمضان لا يزاد فيه على ما ورد في السنة النبوية، يقول الإمام النووي رحمه الله: "السنة في لفظ القنوت: "اللهم اهدني فيمن هديت ..". إلى أن قال: "فإن ألفاظ الأذكار يحافظ فيها على الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولو قنت بالمنقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حسناً، فقد روي أنه قنت في الصبح بعد الركوع فقال: "اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين".
إن مخالفة ما كان عليه السلف في القنوت وغيره مفض إلى الغفلة والتردد، قائد إلى الشك في الاستجابة، خلافاً لما دأب عليه السلف من اليقين على تحققها، تجسيداً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل" رواه الترمذي. وما كانوا عليه من الرغبة في جوامع الدعاء تأسياً بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك" أخرجه أبو داود.
وقد أُثر عنهم النكير الشديد على المعتدين في الدعاء، لمنافاة عملهم صريح القرآن وصحيح السنة، ولماّ سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ابنه يقول في دعائه: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا..، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا.. قال: يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء"، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها، وما فيها من الشر. وسمع ابن مغفل رضي الله عنه ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء" أخرجه أبو داود. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المنصوص المشهور عن الإمام أحمد أنه لا يدعو في الصلاة إلا بالأدعية المشروعة المأثورة، كما قال الأثرم: قلت لأحمد بماذا أدعو بعد التشهد؟ قال: بما جاء في الخبر. قلت له: أوليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ليتخير من الدعاء ما شاء؟ قال: يتخير مما جاء في الخبر. فعاودته فقال: ما في الخبر.
ثالثاً: من المخالفات: تكلُّف السجع: وقد كرهه السلف ونهوا عنه، خاصة ما كان منه على غير سجية، وقد جاء قول ابن عباس رضي الله عنهما لمولاه عكرمة في النهي عن ذلك صريحاً: "انظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب".
والمراد بالسجع هو المتكلَّف من الكلام، لأن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلمات متوازنة غير متكلفة. وقد يكون التكلف في السجع من موانع الاستجابة كما قال الإمام القرطبي رحمه الله عند ذكره أنواع الاعتداء في الدعاء: "ومنها: أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخير ألفاظاً مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء". وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "الاعتداء في الدعاء يقع بزيادة الرفع فوق الحاجة، أو بطلب ما يستحيل حصوله شرعاً، أو بطلب معصية، أو يدعو بما لم يؤثر خصوصاً ما وردت كراهته كالسجع المتكلف وترك المأمور".
رابعاً: من مخالفات الدعاء: تلحين الدعاء: وتطريب الصوت به، والمبالغة في ترتيله حتى يؤدَّى على هيئة قراءة القرآن، وذلك ممقوت، لما ينطوي عليه من التكلف المنافي لطابع هذه الشريعة المباركة، قال الله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين) (ص: 86). قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله: "فتسمع في دعاء القنوت عند بعض الأئمة في رمضان الجهر الشديد وخفض الصوت ورفعه في الأداء حسب مواضع الدعاء، والمبالغة في الترنم، والتطريب والتجويد والترتيل، حتى لكأنه يقرأ سورة من كتاب الله تعالى، ويستدعي بذلك عواطف المأمومين، ليجهشوا بالبكاء". انتهى ..
فالمشروع للداعي أن يدعو بجوامع الدعاء من غير تكلف لسجع، ولا تمطيط لتلحين. فالمبالغة في رفع الصوت بالدعاء تخالف توجيه القرآن العظيم، وسمت الهدي النبوي، يقول ربنا عز وجل: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) (الإسراء: 110)، وقال العلامة الألوسي رحمه الله: "وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصاً في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتشتد، ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين، رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد".
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على صحابته رضي الله عنهم رفعهم أصواتهم بالتكبير، فقال لهم: "اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" رواه البخاري ومسلم.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: خامساً: من المخالفات التي قد تقع من بعض الأئمة في دعاء القنوت في رمضان: تحويل القنوت إلى خطب ومواعظ بل ومنابر للتزلف للكبراء، وهذا من الابتداع والتعدي في الدعاء، إذ لم ينقل مثله عن السلف، وإن ورد عن بعضهم جوازه في خطب الجمعة لا في قنوت الوتر، الذي هو داخل الصلاة، ذلك أن الأصل إتيان الإمام في دعاء القنوت بالأدعية التي لها صفة العموم، وصيغة الجمع، إلا إذا خص طائفة من المؤمنين واقعين في كرب عظيم، أو طائفة من المجرمين لشدة عداوتهم وقوة محاربتهم للإسلام، فهذا مشروع بلا خلاف، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" أخرجه البخاري. ولما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: "اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين".
وإذا خص الإمام مأموميه بالدعاء فلا بأس، لكن الأولى تعميم الدعاء. وأياً كان القول في التخصيص فإن ذلك لا ينبغي أن يُتخذ سنة مستمرة في الصلاة.
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله قائلاً: "أما بعد: فإن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن من القُصّاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم على المسلمين عامة ويَدَعوا ما سوى ذلك".
قال النووي رحمه الله: "هذا إذا دعا له بعينه، فأما الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك، ولجيوش الإسلام، فمستحب بالاتفاق".
اللهم ..