أثر طاعة ولي الأمر واجتماع الكلمة عليه في نعمة الأمن. 1443/2/10هـ
عبد الله بن علي الطريف
أثر طاعة ولي الأمر واجتماع الكلمة عليه في نعمة الأمن.
الحمد لله القائل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة:126] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]
أيها الأحبة: المتأملُ لدعاءِ أبينا إبراهيمَ عليه السلام في الآيةِ السابقة يجعله يقفُ مع الترتيب اللفظي لدعائه مبهوراً مسلماً؛ فقد قال الله تعالى على لسانه عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة:126] ذلك أن نعمة الأمن من أعظم نعم الله التي يجب أن نَذكرَها ونُذكِّر بها، وهي أعظمُ من نعمةِ الرزق؛ ولذلك قُدمت عليها في هذه الآية الكريمة..
ونعمةُ الأمن كذلك أعظمُ من نعمة الصحة.! ذلك أن المرض ألم جسدي يجد الإنسان معه من يداويه ويطعمه ويواسيه فيَصِحُ بإذن الله..
أما من فقد الأمنَ فلا طعمَ مع فقدِهِ لطعامٍ يأكلُه.. أو شَرْبَةٍ يشربُها وهو متوجسٌ قلِقٌ من قصفٍ.. أو خائفٌ من مداهمة.. أو مذعورٌ من مطاردة.. أو ملهوفٌ ضاع مالُه وأهله.. وأي لذة لخائفٍ في غفوةِ نومٍ يغفُوها تتخللها يقظة وسْنَانٍ هلع.. وأي علم وتعليم يكون وسط أجواء محفوفة بالمخاطر يُنْتَفَعُ به.؟!
إذاً لا حياة هنية لمن فقد الأمن واستولى عليه الخوف فالضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من فقد الرزق وألم الجَسَد..
أيها الإخوة: إن وقفات التأمل والمراجعة للواقع الذي نعيشه من النعم المتعددة مقرونا بالتأمل بما صح من السنة المطهرة يجعل المسلم يعرف أسرارها، ويستضيء بأنوارها، فتنشرح نفسه.. وتحلوا الحياة بعينيه.. ويتفتق بيانه بآيات الحمد والثناء على المنعم المنان بما أعطى من نعم لا حدود لها.
ومن عَظيمِ ما جاءَ عَنْ النَّبيِّ ﷺ هذا الحديث: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». وفي رواية: «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها». رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه.
الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيرة، حوت مَعْنَى الحياةِ الحقة، والاستقرارِ الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرءِ صورةَ الحياة بكلِ تفاصيلها.. حُلوها ومرها.. وسهلِها وصعبِها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وماذا في الدنيا ينشده الإنسان أكثر من مأوى آمن.. وعافية في البدن.. وتوفر في القوت يسد الجوعة.. ولو بحث الإنسان وراء ذلك لم يجد بعد ذلك شيئاً، فمن اجتمعت له تلك الثلاث حاز الدنيا كلَها بين يديه بمتعها.
إنها عبارات سهلة على كلِ لسانٍ، غيرَ أنَّ وصفَ النَّبيِّ ﷺ لها بكونها تُعادلُ حيازةَ الدنيا بحذافيرها يجعلُ كلَ واحدٍ منا يتأمّلُ ويدققُ النظرَ في أبعاد هذه المعاني، وتنْزيلها على واقعِ حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرِها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أَمْنُ الْمَرءِ فِي سِرْبِهِ أيها الأحبة: مطلبُ الفردِ والمجتمعات على حدِّ سواء، وهو الهدفُ المرتقبُ لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلافِ مشاربها..
وكل مجتمعٍ يفقدُ الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقدٌ لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياةٍ يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهبِ الناهبين.. وجشعِ الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائرَ.. ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب الدوائر.. ويخشى القوارع..
وحين يدبّ في الأمة داء التوجس الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
أيها الإخوة: إن إصباح المرء المسلم آمنًا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّةُ البدنِ وقُوْتُ اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يَصِحُّ بدنُ الخائف.؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته.؟!
ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمن مصدران أساسيان، الأول: السلطة التنفيذية والقوة القضائية، الثاني: الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. ولن تتمكن أيّ دولة مهما أُوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بالسلطة والقوة القضائية وحدها، إذا لم يصاحبها الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. والانتماء إلى الأمة والوطن.. وطاعة أولي الأمر بالمعروف.. والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى.. واعتبار ذلك من الدين.. واستجابة لرب العالمين القائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59]، قال الشيخ السعدي: أمر الله بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طَاعةً لله ورغبةً فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. وَقَالَ عُبادَةُ بنُ الصَّامتِ رضي الله عنه: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ»، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» رواه البخاري ومسلم.
اللهم احفظ بلادنا بحفظك واجمع كلمتنا ووحد صفوفنا، تحت قيادتنا، واكفنا شر الفرقة إنك جواد كريم.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنِعْمَتِهِ كَثَّرَنا بعدَ القِلَّة، وأغنَانا بعدَ العَيْلَة، وجَمَعَنا بعدَ الفُرْقَة، وقوَّانَا بعدَ الضَّعْف، وآمَنَنا بعدَ الخَوْف، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً..
أَمَا بَعْدُ أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. واعلموا أن نعمة الأمن الذي نعيشه، ووحدة الصف التي تسود بلادنا، واجتماع الكلمة تحت قيادة واحدة، هو بفضل الله تعالى أولاً، ثم هو نتيجة لتحقيق عبادة الله تعالى وتوحيده، والسمع والطاعة لمن ولاه اللهُ أمرنا.. وله آثار كثيرة، وتأتي في سلسلة آثار الالتزام بالشرع، عقيدة وسلوكاً.. ومن أبرز ذلك.
ما ذكره سماحة المفتي حفظة الله بأن لاجتماع الكلمة والسمع والطاعة لولي الأمر فوائد كثيرة عظيمة ذكر منها: أنها سبب للخلوص من الفتن والمصائب.. ولما أخبر النبي ﷺ عن الشر الذي يقع في آخر الزمان؛ قال آمراً أحدَ أصحابه: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» فقال له الصحابي: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ، قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». رواه البخاري.
ومنها حصول البركة والخير بالاجتماع يقول الله تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران:103]. ويخاطب النبي ﷺ الأنصار، فيقول لهم: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي».
ومن آثار الاجتماع على ولي أمرٍ واحد: قوة المؤمنين، ورعب عدوهم منهم، فإن الأمة إذا اجتمعت كانت قوة لا تغلب، وإذا نظر الأعداء إليها فوجدوها قوة متماسكة منتظمة، بعضها يشد أزر بعض، ويقوي بعضها بعضا، ويعين بعضها بعضا، وينصح بعضها بعضا؛ أصبحت قوة لا تغلب، فتتحقق القوة للدولة فلا يتمكن منها الأعداء..
ا