أثر حب الأوطان في سعادة الإنسان د. ياسر مصطفى يوسف

الفريق العلمي
1439/05/06 - 2018/01/23 11:59AM

إن للوطن منزلة عزيزةً في أي نفس، ولحبِّه بقعة من الفؤاد ليست لشيء آخر مهما غلا وعزَّ، ولأحداثه وذكراه ثبات لا تطاله يد النسيان، ومن أجل هذا فهو من صور الإيمان؛ ولهذا هو أغلى من كل الأثمان، ولهذا فإن الوطن يعني الإنسان.

 

والوطن كلمة لها معنيانِ؛ أحدهما ذو معنى محدود وضيق، والآخر ذو معنى واسع وكبير؛ فالأول هو الإقليم من الأرض الذي اتَّخذته مجموعة من الناس موضعًا للإقامة والسكن والعيش المشترك، والثاني هو كل مكان من هذه الأرض فيه أخ مسلم يشاركك الوصف والنسبة والدين، على ما قال الشاعر:

أنا الحجازُ أنا نجدٌ أنا يمنٌ   ** أنا الجنوبُ بها دمعي وأشجاني 
وفي رُبى مكةٍ تأريخُ ملحمةٍ  ** على ثراها بنينا العالم الثاني 
في طَيبة المصطفى عهدي وموعظتي** هناك ينسجُ تاريخي وعرفاني 
بالشام أهلي، وبغدادُ الهوى، وأنا ** بالرقمتين وبالفسطاط جيراني 
النيل مائي، ومن عَمَّان تذكرتي ** وفي الجزائر إخواني وتطواني 
والوحي مدرستي الكبرى وغار حِرَا  ** بدايتي وبه قد شعَّ قرآني 
وثيقتي كُتِبَت في اللوح وانهمرَتْ ** آياتها فاقرؤوا يا قومُ عُنْواني 
فأينما ذُكِر اسمُ اللهِ في بلدٍ ** عددتُ ذاك الحمى من صُلب أوطاني 

 

والوطن له اعتبار في خير الأديان، ومِن أجله سنَّ ركنًا من أعظم الأركان، وهو الجهاد في سبيل الله؛ فالدفاع عن الوطن والذَّود عن حماه يعكس إيمانًا بالله، وحبًّا بالوطن، وشغفًا به، وذوبانًا في تضاريسه وشِعابه ووديانه وهضابه وسهوله ووهاده.

 

والقرآن الكريم أباح التعلُّق به والتمسك بأهدابه؛ ففي قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]، تسوية بين القتل والخروج من الأوطان.

 

وقال تعالى أيضًا: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246]، فجعل القتال ثأرًا للجلاء، وجِلاد الأعداء انتقامًا للتهجير من الديار.

 

ونبينا عليه الصلاة والسلام أحبَّ وطنَه وشغف به، واستغرب حينما أخبره وَرَقةُ بن نَوْفَل أنه سيُخرِجه قومُه من وطنه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أَوَمُخْرِجيَّ هم؟!))، فهو لا يستغرب ردهم لدعوته ورفضهم لرسالته، ولكنه يعجب أن يتمادوا في ذلك إلى درجة أن يخرجوه من وطنه، ويمارسوا عليه هذا النوع من التعذيب النفسي والجسدي والروحي، فطالَما تعلَّقت روحه بشِعاب مكة، ولطالما طوفت بين سككها وضواحيها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام مخاطبًا الدار التي أحبَّ، والبلد التي هامت بها روحه وأُنشِزت فيها عظامُه، ونبت فيها لحمه: ((علمتُ أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت))، وباح بهذا الحب في المدينةِ، حينما أصابت الحمى أصحابه فاشتكى أبو بكر، فكان إذا أخذته الحمى يقول:

كلُّ امرئ مصبَّحٌ في أهلِهِ ♦♦♦ والموتُ أدنى مِن شِراكِ نَعْلِهِ

 

وكان بلال إذا أخذته الحمى يقول:

ألا ليتَ شِعْرِي هل أبيتنَّ ليلةً ** بوادٍ وحَوْلي إِذْخرٌ وجَلِيلُ 
وهَلْ أَرِدَنْ يومًا مياهَ مجنَّةٍ ** وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفيلُ 

 

اللهم العَنْ عُتبة وشيبة وأميَّة بن خلف، كما أخرجونا من مكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقُوا، قال: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكةَ أو أشد، اللهم صحِّحها وبارِك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمَاها إلى الجُحفة))، وكان المولود يولد بالجحفة، فما يبلغ الحُلُم حتى تصرعه الحمى.

 

وروى ابن الجوزي بسنده عن أبي بكر الهذلي، عن رجال من قومِه: أن أصيلًا الهُذَلي قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فقال: ((يا أصيل، كيف تركت مكة؟))، قال: يا رسول الله، تركتُها وقد ابيضَّت بطحاؤها، واخضرت مسلاتها، يعني: شعابها، وأمشر سلمها، والإمشار: ثمرٌ له حمرة، وأعذق إذخرها، والإعذاق: اجتماع أصوله، وأحجن ثمامها، والإحجان: تعقفه، فقال: ((يا أصيل، دع القلوب تقر، لا تشوقهم إلى مكة)).

 

يقول الجاحظ في رسائله: "ومِن أصدق الشواهد في حب الوطن أن يوسف عليه السلام لَمَّا أدركته الوفاة أوصى أن تحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام، ورُوِي لنا أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف مِن حمله، فلما بعث الله موسى عليه السلام وأهلَك على يدَيْه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمته إلى تربة يعقوب بالشام، وقبره علم بأرض بيت المقدس بقرية تسمى حسامي، وكذلك يعقوب مات بمصر فحملت رمته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام"؛ انتهى كلام الجاحظ.

 

وقديمًا كانت العربُ إذا سافَرَتْ حملَتْ معها من تربة بلدها تستشفي به عند مرض يعرض، وذكروا أن إسفنديارد اعتلَّ في بعض غزواته، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها، واعتل سابور ذو الأكتاف بالروم، وكان مأسورًا بها، وكانت بنت ملكهم قد عشِقَتْه، فقالت له: ما تشتهي؟ فقال: شربة من ماء دجلة، وشميمًا من تراب إصطخر، فغابت عنه أيامًا، ثم أتَتْه بماء من الفرات، وقبضة من شاطئه، وقالت: هذا من دجلة، وهذه تربة أرضك، فشرب بالوهم، واشتم من تلك التربة، فنقه مِن علته، فلما جاء الإسلام أبان عن صحة ذلك الفعل، وترك عليه لمسته الربانية، فدلَّنا نبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك على ترياق عجيب ودواء مجرب، ذي صلة بالوطن وتراب الوطن وهواء الوطن.

 

فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: ((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفَى سقيمنا، بإذن ربنا))؛ رواه البخاري.

 

وتعليلُ هذا الأمر العلمي - على ما أراه - أن هذا الجسم الذي يحتويك إنما دخل في تكوينه الهواء الذي تتنشقه في هذا البلد، وسرى فيه الماء الذي يجري في هذا البلد، وخالطه التراب الذي أنبت طعامك وشرابك، فصار بالنسبةِ لجسمك أحدَ الأخلاط التي يعرفها ولا ينكرها، ويقبلها ولا يرفضها، ويستدعيها ولا يصبر عنها، فإذا فارقه مدةً اضطرب الجسم وأنكر ما جد عليه من هواء وتراب، وطعام وشراب، ولربما مرِض وهزل وسقم حتى يعاد إلى أصل تلك الأجواء التي كان فيها، وهو التراب.

 

وحب الوطن فطرة يُفطَر عليه الإنسان، وخلة يجبل عليها ويُعجَن بها، وطبيعة تولد معه وتوجد في البدن ولا تخرج إلا إن أدرج في الكفن، يقول ابن الجوزي: وفطرة الرجل معجونة بحب الوطن، ثم إن الإبل تحن إلى أوطانها، والطير إلى أوكارها، وما أروع قول ابن الرومي:

وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ ** مآربُ قضَّاها الشبابُ هُنالِكا 
إذا ذكَرُوا أوطانَهم ذكَّرتْهمُ ** عهودُ الصبا فيها فحنُّوا لذالكا 

 

وعن علي كرم الله وجهه: عمرت الدنيا بحب الأوطان.

وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال: ما عالجتُ شيئًا أشد من منازعة النفس للوطن.

 

وقال عبدالملك بن قُرَيْبٍ الأصمعي: سمعتُ أعرابيًّا يقول: إذا أردتَ أن تعرف الرجل فانظر كيف تَحبُّبُه إلى أوطانه، وتشوُّقُه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه.

 

وكان بعض الملوك قد انتقل عن وطنه، فنزل ديارًا أعمر من دياره وأخصب، ودانت له الممالك، ثم كان إذا ذكر الوطن يحن حنين الإبل إلى الأوطانِ.

 

وأنشدوا في هذا المعنى:

ما مِن غريب وإِنْ أبدى تجلُّدَه ** إلَّا تذكَّر بعدَ الغربةِ الوطنا 
وما يزالُ حمامٌ باللوا غردًا ** يَهِيج منِّي فؤادٌ طالما سَكَنا 

 

وهذه الأبيات بقافيتها ورويِّها تذكِّرني بقصيدة خير الدين الزركلي التي يقول فيها:

العينُ بعد فراقِها الوطنا ** لا ساكنًا ألِفَتْ ولا سَكَنَا 
ريّانةٌ بالدمعِ أقلَقَها ** ألَّا تُحِسَّ كرًى ولا وَسَنَا 
كانَتْ ترى في كلِّ سانحةٍ ** حَسَنًا وباتَتْ لا ترى حَسَنَا 
يا موطنًا عبِثَ الزمانُ بِهِ ** مَن ذا الذي أغرى بِك الزَّمَنَا 
قد كان لي بك عن سواك غنى ** لا كان لي بسواك عنك غِنَى 
ما كنت إلا روضةً أنفًا ** كرمتْ وطابَتْ مغرسًا وجنى 
عطفوا عليك فأوسعوك أذًى  ** وهم يُسمُّون الأذى مِنَنَا 
وجَنَوا عليك فجرَّدوا قضبًا ** مسنونةً وتقدموا بِقَنَا 
والقلبُ لولا أنةٌ صعِدَتْ ** أنكرتُه وشككتُ فيه أنا 
يا طائرًا غنَّى على غصنٍ ** والنِّيلُ يسقي ذلك الغصنا 
زِدْني وَهِجْ ما شئتَ مِن شَجَني ** إن كنتَ مثلي تعرِفُ الشجنا 
أذكرتَني ما لستُ ناسيَهُ ** ولرُبَّ ذكرى جدَّدَتْ حزنا 
أذكرتَني بَرَدَى وواديَهُ ** والطيرَ آحادًا به وثنى 
وأحبَّةً أسررتُ مِن كلفي ** وهواي فيهم لاعِجًا كمنا 
كم ذا أغالِبُهُ ويغلِبُني ** دمعٌ إذا كفكَفْتُهُ هَتَنَا 
لي ذكرياتٌ في ربوعِهمُ ** هنَّ الحياةُ تألقًا وسنا 
إن الغريبَ مُعذِّبٌ أبدًا  ** إن حلَّ لم ينعَمْ وإن ظعنا 

 

وحب الوطن يقلل الكثير، ويكثر القليل، ويزهد في النعيم، ويرغب في أدنى خصائصه ومزاياه، كلنا يذكر ميسون بنت بحدل، أم يزيد بن معاوية، التي جاء بها معاوية من البدو وأسكنها فاره قصوره، وأقامها في عزيز نعيمه، ولكن كل ذلك لم يطرف عينها، ولم يصرف قلبها عن الوطن، وكانت تبكي الليالي الطوال، وتتغنى بكوخها الصغير هناك، وتحن إلى قط ألفته، وجارة صادقتها، وخادمة اعتادت الجلوس معها، وتقول:

لبيتٌ تخفق الأرواحُ فيه ** أحبُّ إليَّ مِن قصرٍ منيفِ 
ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني ** أحبُّ إليَّ مِن لبسِ الشفوفِ 
وأكلُ كسيرةٍ في كسرِ بيتي ** أحبُّ إليَّ مِن أكلِ الرغيفِ 
وأصواتُ الرياحِ بكلِّ فجٍّ ** أحبُّ إليَّ مِن نقرِ الدفوفِ 
وكلبٌ ينبحُ الطرَّاقَ دُوني ** أحبُّ إليَّ مِن قطٍّ ألوفِ 
وبَكرٌ يتبعُ الأطلالَ صعبٌ  ** أحبُّ إليَّ مِن بغلٍ ردوفِ 
خشونةُ عيشتي في البدو أشهى ** إلى نفسي مِن العيش الظريفِ 
فما أبغي سوى وطني بديلًا ** فحسبي ذاك من وطنٍ شريفِ 

 

والوطن مهما كان ذا قُلٍّ، وضعيف الموارد، ويسير المدخرات، فإن البعض لا ينصرف عنه حبًّا به، على ما قال الشاعر:

بلادٌ ألفناها على كل حالة ** وقد يؤلَفُ الشيءُ الذي ليس بالحسَنْ 
ونستعذب الأرضَ التي لا هوا بها *** ولا ماؤها عذبٌ ولكنها وطَنْ 

 

وقول الآخر:

بلادٌ بها نِيطَت عليَّ تمائمي ♦♦♦ وقطّعن عني حين أدركني عقلي

 

يتحدَّث ياقوت الحموي - في كتابه الشهير معجم البلدان - عن بلدٍ اسمها سيراف، وينسب إليها الإمام السيرافي النَّحْوي، فيقول: ولقد رأيتُها وليس بها قوم إلا صعاليك، ما أوجب لهم المقام بها إلا حب الوطن.

 

ومثله قال القزويني - في آثار البلاد وأخبار العباد - عن الرصافة المعروفة: ومن عجيب هذه البلدة أن ليس بها زرع ولا ضرع ولا ماء، ولا أمن ولا تجارة، ولا صنعة مرغوبة! وأهلها يسكنونها، ولولا حب الوطن لخربت.

 

ويقول كامل الغزي - في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب -: على أن لي الأمل الوطيد، أن يتلقى عشاق التاريخ كتابي هذا برحب صدر، ويقبل عليه نصراء العلم وأعوان أهله إقبالًا يذكر فيشكر، ولا سيما منهم أبناء الوطن العزيز؛ فهم أولى مِن جميع الناس بالإقبال عليه؛ لأنه يخدم وطنهم المحبوب الذي حبه بلا ريب من أقدس واجباتهم، وحكمة ذلك أن محبة الشيء تبعث على حفظه وصيانته، وجر النفع إليه ودفع الضرر عنه، وهي مقاصد لا تكون إلا بعد معرفته والاطلاع على محاسنه؛ إذ محبة المجهول غير معقولة، بل قد يكون الجهل بالشيء مَدعاةً إلى بغضه وكراهيته، على حد قول القائل: المرء عدو لِما جهل.

 

ويتابع الغزي، فيقول: وإني لأعجب من طلاب العلوم العمرانية العصرية من أهل بلادنا إذا سألت أحدهم عن شأنٍ من شؤون الممالك الغربية، أجابك عن سؤالك بما يبل الغليل، ويشفي العليل، وإذا سألتَه عن أقل شأن من شؤون وطنه، أجابك عن سؤالك بالسكوت أو بقوله: لا علم لي بما تسألني عنه، ومعلوم أن الواجب على ساكن الدار أن يعلم أولًا حقيقة داره، وما اشتملت عليه من المحاسن والمساوئ، ليعدَّ لكل معنى عدته، ويأخذ لكل شأن من شؤونها أُهْبَته، ثم يتوسع بالعلم فيعلم حقيقة دار جاره، وما حَوَتْه من المحاسن والمساوئ، استعدادًا لطارئ يُحوِجه إلى أن يكون بها عالِمًا، وبشؤونها عارفًا"؛ انتهى كلامه رحمه الله.

 

وحب الوطن كان دافعًا للبعض إلى خدمة العلم، ورفد المكتبة الإسلامية بأروع الكتب وأنفع المصنفات وأجمل التواليف؛ فكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة للإمام ابن الخطيب، كان الدافع إليه حبه لغرناطة، وقد ذكر في المقدمة السبب الداعي إلى تأليفه الكتابَ، وهو أن بعض المصنفين أفرد لوطنه تاريخًا؛ كتاريخ مدينة بخارى لمحمد بن أحمد بن سليمان الفخار، وتاريخ بغداد للخطيب أبي بكر أحمد بن علي البغدادي، وتاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، وتاريخ مصر لعبدالرحمن بن أحمد بن نواس، وتاريخ مالقة لأبي عبدالله بن عسكر، فداخلته عصبية حب الوطن، فأقدم على كتابة تاريخ لوطنه غرناطة، قدَّم فيه صورة شاملة عن كل ما يتعلق بمدينة غرناطة من أوصاف وأخبار، فذكر مُرُوجَها وجبالها وأنهارها، وتغنَّى بها، فقال:

بلدٌ تحفُّ به الرياضُ كأنَّهُ ♦♦♦ وجهٌ جميلٌ والرياضُ عِذارُه

 

والجاحظ - وقد عُرِف بسرد التحف من الأقوال والفرائد المنثورة - يسوق لنا نتفًا رائعة حول الوطن وتجذر حبه في الإنسان، فيقول:

"قيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان، قيل: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان، وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلًا فيرفضُّ عرقًا كأنه الجُمَان، ثم ينصبُ عصاه ويلقي عليها كساءه، وتقبل عليه الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى".

 

ولأحمد شوقي حكايةٌ في صورة قصيدة، كان أستاذنا الشيخ حسان فرفوطي رحمه الله قد طلب إلينا ونحن صغار أن نكتب موضوعًا تعبيريًّا ننطلق فيه منها، تقول هذه القصيدة:

عصفورتانِ في الحجا ** زِ حلَّتَا على فنن 
في خاملٍ مِن الرِّيا ** ضِ لا ندٌّ ولا حَسَن 
بَيْنَا هُمَا تنتجيا **نِ سحرًا على الغصن 
مرَّ على أيكِهما **ريحٌ سرى من اليمن 
حيَّا وقال: "درَّتا ** نِ في وعاءٍ مُمتَهَن" 
لقد رأيتُ حولَ صَنْ ** عاءَ وفي ظلِّ عدن 
خمائلًا كأنَّها  ** بقيةٌ مِن ذِي يَزَن 
الحبُّ فيها سكرٌ ** والماءُ شهدٌ ولَبَن 
لم يرَها الطيرُ وَلَمْ ** يسمَعْ بها إلَّا افتتن 
هيَّا اركباني نأتِها ** في ساعةٍ مِنَ الزَّمن 
قالَتْ له إحداهما ** والطيرُ منهنَّ الفَطِن 
يا ريحُ أنتَ ابنُ السَّبِي ** لِ ما عرَفْتَ ما السَّكَن 
هَبْ جنةَ الخُلدِ اليمن ** لا شيءَ يعدلُ الوَطَن 

 

ويقول ابن الرومي:

وما الشوقُ للأوطانِ مِن أجلِ طيبِها ** ولا شرفٌ فيها وفضلُ مقامِ 
ولكنَّه في النفسِ طبعٌ لأجلِه ** يجادلُ في تفضيلِها ويُحامِي 

ومِن ثَمَّ يَهْوَى الطفلُ في النفسِ أمَّهُ  ** ويأبى سواها وَهْي ذاتُ وشامِ 
ومِن غربةٍ يبكي الجنينُ إذا بدا ** وقد كان في ضيقٍ وفرط ظلامِ 

 

وقال شوقي أيضًا:

اختلافُ الليلِ والنهارِ يُنسِي ** اذكُرَا لي الصِّبا وأيامَ أُنْسِي 
وطني لو شغلت بالخلد عنه ** نازعتني إليه في الخلد نفسي 
وهفا بالفؤادِ في سلسبيلٍ ** ظمأٌ للسوادِ مِن عينِ شمسِ 
شهِد اللهُ لم يَغِبْ عن جفوني ** شخصُه ساعةً ولم يخلُ حِسِّي 

وقال آخر:

نقِّل فؤادَك حيثُ شئتَ مِن الهوى 
ما الحبُّ إلَّا للحبيبِ الأوَّلِ 
كَمْ منزلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفتى 
وحنينُهُ أبدًا لأوَّلِ مَنزِلِ 

فحب الوطن عاطفةٌ دونها العقل، والإنسان يكون إنسانًا بالعواطف لا بالتفكير، فلا ينبغي أن نحقر العاطفة ونزدري فعل القلوب؛ فإن القلب موطن الحب، ومِن حب الوطن ما قتل.

 

لَمَّا ترجم الإمام التاج السبكي رحمه الله تعالى للإمام أبي محمد أحمد بن عبدالله بن محمد المزني المغفلي الهروي، الملقب بالباز الأبيض، ذكر بيتين له يقول فيهما:

نزلَنْا مُكرَهينَ بها فلمَّا 
ألِفْنَاها خرَجْنا مُكرهينا 
وما حبُّ الدِّيارِ بنا ولكِنْ 
أمرُّ العيشِ فُرقةُ مَن هَوِينا 

 

ثم قال السبكي: قيل: كان الشيخ الجليل قتيلَ حب الوطن، أملى مجلسًا في هذا المعنى - معنى حب الأوطان والتعلق بها - ومرض عقبه، وتوفِّي بعد جمعة في سابع عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وثلاثمائة.

 

الوطن بين الإقامة والظعن:

ثمة مَن يثير تساؤلًا يقول: وماذا عمَّن هجر وطنه، وتغرب في طلب العلم أو تحصيل لقمة العيش، أو بحث عن ملاذ آمن؟ أو غير ذلك من الأسباب التي تدفع البعض إلى ترك الأوطان، ماذا عن قول الشافعي:

تغرَّبْ عَنِ الأوطانِ في طلبِ العلا 
وسافِرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ 
تفرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ 
وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ 
وإن قيل في الأسفار ذلٌّ ومحنةٌ 
وقطعُ الفَيافي واكتسابُ الشدائدِ 
فموتُ الفتى خيرٌ له مِن حياتِهِ 
بدارِ هوانٍ بينَ واشٍ وحاسدِ 

وقوله:

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ 
مِن راحةٍ فدَعِ الأوطانَ واغتَرِبِ 
سافِرْ تجِدْ عِوضًا عمَّن تُفارِقُهُ 
وانصَبْ فإن لذيذَ العيشِ في النصَبِ 
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ 
إن ساحَ طاب وإن لم يَجْرِ لم يَطِبِ 

والأُسْدُ لولا فِراقُ الأرضِ ما افترسَتْ 
والسهمُ لولا فِراقُ القوسِ لم يُصِبِ 
والشمسُ لو وقفَتْ في الفُلكِ دائمةً 
لملَّها الناسُ مِن عُجْمٍ ومِن عرَبِ 
والتِّبرُ كالتُّربِ مُلقًى في أماكنِهِ 
والعُودُ في أرضِهِ نوعٌ مِن الحَطَبِ 
فإِنْ تغرَّب هذا عزَّ مطلبُهُ 
وإن تغرَّب ذاك عزَّ كالذَّهبِ 

 

وقول ابن الوردي:

حبُّك الأوطانَ عجزٌ ظاهرٌ 
فاغتَرِبْ تَلْقَ عن الأهلِ بدلْ 

فبمكثِ الماءِ يبقى آسنًا 
وسُرى البدرِ به البدرُ اكتملْ 

 

فنقول: نعم، ترك الوطن يكون ولكن عن ضرورة، ويقع ولكن عن حاجة ملحَّة وغاية نبيلة، ويحصل ولكن إذا ما تيسَّر لك ما تطلب فيه، والسابقون قالوا لك: سافِرْ إذا اضطررت، ولكنهم لم يقولوا لك: لا تحب وطنك، لم يَدْعُوك إلى نزعِ حبه من فؤادك، بل أجازوا لك ذلك مع الكراهة - مع الكراهة العاطفية إن صح التعبير - فإذا قضيت نَهْمَتك من سفرك فارجع إلى بلدك.

 

الوطنية في الإسلام:

الوطنية نسبة إلى الوطن، وهي وصف يطلق على كل مَن أحب وطنه، وأخلص له، وسعى في سبيل بقائه ونمائه وتطوُّره، فمِن هنا يجوز إطلاقه على كل مَن اتَّصف بما قلناه، ولا غضاضة في ذلك ولا حرج، بل قد يكون في وصف الرجل به ندب للآخرين أن يقتدوا به ويكونوا مثله في المسارعة إلى حفظ الوطن في قلوبهم وعيونهم وأيديهم.

 

أما دعوى أنها من الجاهلية، أو أنها من دعوى الجاهلية، فذلك يصح فيما إذا دعت الوطنية إلى تفريق المسلمين، وبث الشقاق والنزاع فيما بينهم، أما إذا أفهمت معنى جميلًا هو حب الوطن، والإعلاء من شأنه، والسمو به، فذاك مطلوب ومرغوب، ومشجع عليه ومحبوب، والله أعلم.

 

من صور حب الوطن:

    • أن تحترمَ قانون البلد الذي أنت فيه وأنت منه.

      • أن تصون أرضَه وسماءه، وترابه وماءه، ومنافعه ومرافقه.

       

         أن تردَّ له الدَّين الذي له عليك، والفضل الذي له في رقبتك، فتُقدِّم له أعمالًا جليلة، وتنتج له نتاجًا صالحًا ونافعًا وكبيرًا، قال أحمد شوقي:

          وللأوطانِ في دمِ كلِّ حرٍّ ♦♦♦ يدٌ سلفَتْ ودَينٌ مُستحقُّ

           

            • أن تحبَّ أهلك وإخوانك من أهل البلد؛ فهم يشاركونك في الانتفاع من خيرات هذا الوطن، وهم يؤنسونك بالإقامة فيه معك، فهم جزء من الوطن، ومِن احترام الكل احترام الجزء، ومِن حب الشيء حب ما يتصل به، كما قال المتنبي في رائعته:

              نحنُ أدرى وقد سأَلْنا بنَجْدٍ 
              أقصيرٌ طريقُنا أم يطولُ 

              وكثيرٌ مِن السؤال اشتياقٌ 
              وكثيرٌ مِن ردِّه تَعليلُ 

              لا أقَمْنا على مكانٍ وإن طا 
              ب وَلا يمكن المكانَ الرحيلُ 
              كلَّما رحَّبَتْ بنا الروضُ قلنا 
              حلبٌ قصدنا وأنت السبيلُ 
              فيك مرعى جيادِنا والمطايا 
              وإليها وجيفُنا والذَّميلُ 

               

                 التكافل والتضامن بين أفراد وجماعات الوطن.

                   نعمة الوطن مِن النعم التي تستحق الشكر من المتنعمين، ومن الآخرين تستوجب الصبر.

                   

                     رغم أننا نُعلي من شأن غريزة حب الأوطان، فإننا نمنعُ أن تكون تلك المحبة مساوية لحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو مؤثرة عليهما على ما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].

                     

                      أمثال في الوطن:

                      وردت في الوطن أمثال؛ منها:

                         الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.

                           عسرُك في وطنك أطيب مِن يسرك في غربتك، وإذا أخلقك الوطن جددك الظعن.

                            • لا تجزع لفراق الوطن مع لقاء الرغبة؛ فإنك إذا أعسرت أنكرك عارفوك، وإذا أيسرت عرفك منكروك.

                               ترك الوطن أحد السِّباءين؛ السباء بالكسر والمد: الأَسْر، والسِّباءان هما الأسر والسفر.

                                • يا غريبًا كن أديبًا.

                                   لا تُعادِ الناسَ في أوطانِهم 
                                  قلما يرعى غريبُ الوطَنِ 
                                  وإذا ما شئتَ عيشًا بينهم 
                                  خالِقِ الناسَ بخُلْقٍ حَسَنِ 
                                  ♦  ♦  ♦ 
                                   أكرِمْ أخاك بأرضِ مولدِهِ 
                                  وأمِدَّهُ مِن فعلِكَ الحسَنِ 

                                  فالعزُّ مطلوبٌ ومُلْتَمَسٌ 
                                  وأعزُّه ما نِيلَ في الوطنِ

                                  المصدر: موقع الألوكة

                                  المشاهدات 1144 | التعليقات 0