أثر بعد مسير
الباهلي الباهلي
1437/10/02 - 2016/07/07 23:14PM
الخطبةالأولى
الحمد لله الذي وفَّق لإتمام شهر العبادة ، وأسعدنا في العيد بالخيرات وزيادة .
فالحمد لله الذي هو دائمٌ أبداً وليس لما سواه دوامُ
والحمد لله الذي لجلاله ولحلمه تتصاغر الأحلام
والحمد لله الذي هو لم يَزَلْ لا تستقلُّ بعلمه الأفهام
سبحانه ملكٌ تعالى جدُّه ولوجهه الإجلال والإكرام
، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدّخرها ليوم الجزاء والإحسان، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمداً عبده ورسوله، بيّن طريق الهدى والرشاد، وحذّر من الضلال والعصيان، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد : فاتقوا الله أيها المؤمنون وأتبعوا الحسنة بالحسنة تفلحوا ، وبادروا الذنب والتقصير بالتوبة تفوزوا . واشكروا الله تعالى أن أتم عليكم فضله بتمام شهركم ، فاستودعوه أعمالكم ، فكم أودعتم فِيهِ مِنْ حُلَلِ الطَّاعَاتِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، فَحُقَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْرَحَ بِهَذَا وَيَبْهَجَ، وَيَعِجَّ لِسَانُهُ بِالتَّكْبِيرِ وَيَلْهَجَ .
عباد الله : لقد طويت صفحة من صفحات المكارم ، فهنيئاً للذين زادتهم أيام هذا الموسم إيماناً مع إيمانهم وهم يستبشرون . ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) .
عباد الله : أعظم لذة تلذذت به نفوس العابدين في شهر رمضان المبارك والتي لا تدانيها لذة هي تلاوةُ كتاب الله ، واستماعُ كلام الله في الصلاة ، ولا شك أن لكل امرئ فتحٌ فَتَحَهُ الله عليه حينما ختم القرآن مرة أو مرتين أو عشرا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والموفق حقا هو من أُلهِْمَ مع هذه الختمات ، وحين استماع الآيات فتأمل وتدبر في المعاني واستشعر أن هذا الكلام هو كلام الله تكلم به من فوق سبع سماوات لن تتحمله الجبال الراسيات لو أنزل عليها لتصدعت ، فكيف بمضغة ضعيفة بين أضلع رقيقة لا تنفطر من جلال العظمة والكمال .
عباد الله : أي هدية تقدم في أيام العيد تقدم أجمل وأعظم من التشريف لكم بكلام الله تعالى ، فمن المناسب في أَيامِ عيدِنا أنْ نذكِّرَ ببعضِ المعاني التي يحتاجُها المسلمُ بعد فراق شهر العبادة ، ليثبت على الطاعة ، فمن عِبَرِ ومواعظ هذا الكتاب العظيم التي لابد وأن يتوقف العبد عندها حين تلاوة القرآن آية تكررت على مسامعنا كثيرا ،وتلوناها مرارا ، فالله عز وجل قال في سورة البقرة ( يا أيها الذين ءآمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، فهنا بيان لحكمة الصيام وما لأجله شُرع ، فلا ينبغي أن يُفيضَ بعض الناس في فوائد الصوم الصحية والنفسية ويُقَصِّرون في الحديث عن كبرى فوائده وهي حصول التقوى ، والتقوى هي ترك المعاصي ، ولعل السبب في كون الصيام يورث التقوى لما فيه كما يقول بعض أهل العلم من انكسار للشهوة ، وانقماع للهوى فإنه يردع عن الأَشَرِ والبَطَرِ والفواحشِ ، ويُهوِّنُ لذاتَ الدنيا ورياستَها ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وغالبا ما يؤتى الإنسان من هذين ، فمن أكثر الصوم هان عليه أمرهما وخفت عليه مؤونتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب الفواحش والمحرمات . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الصوم جنة ) قال ابن عاشور رحمه الله : ( ففي الصوم وقايةٌ من الوقوعِ في المآثمِ ووقايةٌ من الوقوعِ في عذابِ الآخرةِ ، ووقايةٌ من العللِ والأدواءِ الناشئةِ عن الإفراطِ في تناولِ اللذات ) .
ومن تأمل في كتاب الله سيجد أن موضوع التقوى تكرر في القرآن أكثر من مئتين وخمسين مرةً وغالباً ما تأتي التقوى حكمةً وغايةً للعبادات .
ولهذا وجب على المسلم حينما يتعبدُ اللهَ طيلةَ شهرِ رمضان ويعلمَ أنما شرع الصيام فيه ليبلغ غاية التقوى وحجب النفس عن الشهوات والهوى ، عليه أن يعلم أنه إن انتهى رمضان ودلف باب شوال إن استمرت خشيته لله وتقواه في قلبه فاتقى الله في نفسه وفي رعاية وتربية أبناءه وبناته ويتلمس أمرَ اللهِ ونهيَهُ في مطعمِهم ومسكنِهم وفي ملبسِهم ، خاصة في مثل هذا العيد ، فوالله ما نسمعه من صور التبذل والتعري بين البنات ليندى له الجبين وما للتنشئة الصالحة عندهم من نصيب ، فكيف لمن يهمل في هذا الجانب ، أن يكون قد أَثَّرَ الصومُ فيه وأورثه التقوى في قلبه ، أما من حجز التذاكر ، وأعدَّ الحقائب ليسافر بنفسه أو بالأبناء والبنات لا لطلب علم أو لتبليغ دين ، أو لتجارة ، أو غيرها من الحاجات التي لا توجد إلا في تلك البلاد ، وإنما فقط تلبية لشهواتهم أو تقليدا لقراباتهم ، أو تقطيعا لإجازتهم المملة للأبناء من طولها ، والعظيمة على الآباء من وزرها إلا من هدى الله تعالى ، فكيف سيقف يوم العرض أمام الله ليس بينه وبين ربه ترجمان . كيف به يوم أن يتخاصم مع أبناءه حينما يشتكون تضييع والدهم لهم إذ رحمهم للدنيا ونسي رحمتهم ليوم العرض على الله ، ثم يا سبحان الله كيف هو الخسران لأناس عاشوا في رمضان بكائين في القيام ، قائمين والناس نيام ، تالين للقرآن ، ثم ينتهي كل شيء عندهم مع آخر ليلة من رمضان فيعودوا إلى نقطة الصفر التي كانوا عليها قبل رمضان ، فيذهب القيام ، ويهجر القرآن ، وينسى الوتر ، وتتقاصر النفوس عن صلاة الفجر ، وهم يعلمون أن ربَّ رمضان هو ربُّ الشهور كلها .
فمثلُ هؤلاءِ تخشى أن ينطبق عليهم المثل القرآني:( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ..)
، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور .
ثم من تقوى الله عز وجل أن يتفقه المرء في دينه ليعبد الله على بصيرة وليعلم الطريق المستقيم ، خاصة وأن العلم الآن ميسر هو يأتي إليك ولا يحتاج أن تذهب إليه فهو في جيبك عبر الهواتف ، وهو في بيتك عبر الشاشات ، وهو في غرفتك عبر الحاسوب فهذا والله من إقامة الحجة علينا ولا يكن حظ العلم بالدنيا أوفرُ من حظنا من العلم في أمور ديننا وآخرتنا فهي خير وأبقى ، وقد قال الله تعالى ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ، قال الحسن البصري رحمه الله : ( إنه ليبلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه ، أنه يقلبُ الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي ) .
أيها المؤمنون : معين القرآن لا ينضب ، ولقرب عهدنا به نذكر بآية تهز الوجدان ، وتلفت نباهة ذوي الألباب فتقرع قلوبا امتلأت من خشية الله ، فقد قال الله تعالى في سورة الحاقة : ( يومئذٍ تعرضون لاتخفى منكم خافية ) ، فالكل ظاهر يوم القيامة ، فالجسد عريان ، والنفس مكشوفة ، والضمير مفضوح ، والعمل ظاهر ، هناك تسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار، وما أقسى الفضيحة على الملأ. . أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله، من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشِه المرفوعِ فوق الجميع.. ألا إنه لأمر، أمرُّ من كل أمر!!! .
حينما تتلو هذه الآية عبدالله إن كان قلبُك حاضرا لا شك سيرتعش جسدك وسيقشعر جلدك ، ولا غرو أن تدمع عينك ، حينها ستعرف أنه لن ينفعك في تلك الساعة تقديم الأعذار ، حينها ، ( يُنبأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيرة ) ، في ذلك اليوم سترى سجلاتك التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة وأنت أعلم بحالك وعلى نفسك بصيرة ، ولن تجديك المعاذير ، سيخرس اللسان وتنطق الأعضاء والجلود فأقرب ما تملك سيكونون عليك شهودا ، والله أعلم بك ولكن ليقيم الحجة عليك ، ذلك اليوم سيكون ( إلى ربك يومئذ المساق ) قال ابن الجوزي رحمه الله في كتاب التبصرة معلقا على قول الله تعالى قال (من لك إذا ألم الألم وسكت الصوت، وتمكن الندم، ووقع الفوت، وأقبل لأخذ الروح ملك الموت، وجاءت جنوده وقيل: من راق، ونَزَلْتَ منزلا ليس بمسكون! وتعوضت بعد الحركات السكون! فيا أسفا لك كيف تكون؟ وأهوال القبر لا تطاق! أكثرُ عُمْرِكَ قد مضى، وأعظم زمانِك قد انقضى، أفي أفعالك ما يصلح للرضا إذا التقينا يوم التلاق؟ ) . فاللهم رحماك رحماك ، واجعل عملنا في رضاك .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأخيار ، والتابعين لهم من الأبرار وسَلَّمَ تسليماً كثيرا .
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: من تقوى الله تعالى والتي يورثها الصيام ، استغلال مواسِمُ الخير ، واستثمار سوق التجارة الرابحة مع الله ليُجَدِّدَ العبدُ فيها العهدَ مع ربِّه وَيَقْرُبْ، ومِنْ أجلى وأبين عَلَامَاتِ صَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَقَبُولِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعَمَلِ، تَرَى ذَلِكَ فِي سَمْتِهِ، وفي ملبسه ، وفي َقَوْلِهِ، وَخُلُقِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِهِ، لَا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مُجَرَّدَ طُقُوسٍ اعْتِيَادِيَّةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي وَاقِعِ صَاحِبِهَا.
فكيف يكون متقيا لله من صام رمضان وقامه وذلك لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وأصدق القائلين سبحانه يقول في محكم التنزيل يقول ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) .
ومَا قِيمَةُ الجوع والعطش في الصَّوْمِ إِذَا لَمْ يمنع صَاحِبَهُ عَنِ الزُّورِ وَفُحْشِ الْقَوْلِ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .
وكيف يكون متقيا لله من صام رمضان وقامه ثم يُقَدِّم هواه في سخط الله على تقواه لنيل رضا الله ، بتوديعه لشهر الصيام واستقباله للعيد بمخالفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في جزِّ لحيته وإسبال ثوبه . فلا أدري أين وقعت التقوى في القلب بعد الصيام حينما لأمر ربه لا ينصاع ، ويكون هواه هو المطاع .
فما أسعد العبد الذي يكون له القرآن منهاجا ، والرسول صلى الله عليه وسلم نبراسا ، فيترجم حياته في أمور الدينا من المنصوص إلى المحسوس ، بناء على ما في قلبه من التقوى التي اكتسبها بعد العبادة ، فيكون عابدا ، تائبا ، خاشعا ، ويكون خلوقا ، كريم النفس مبتهجا ، ليَكُونَ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ الْعَامِلِينَ .
ثم صلوا بعد ذلك على خير المرسلين... بل وأكثروا في هذا اليوم من ذكر الله ومن الصلاة على رسول الله فقد أمركم الله عز وجل في كتابه وحثكم نبيكم في سنته فقال من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ................................
الحمد لله الذي وفَّق لإتمام شهر العبادة ، وأسعدنا في العيد بالخيرات وزيادة .
فالحمد لله الذي هو دائمٌ أبداً وليس لما سواه دوامُ
والحمد لله الذي لجلاله ولحلمه تتصاغر الأحلام
والحمد لله الذي هو لم يَزَلْ لا تستقلُّ بعلمه الأفهام
سبحانه ملكٌ تعالى جدُّه ولوجهه الإجلال والإكرام
، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدّخرها ليوم الجزاء والإحسان، وأشهد أن سيدنا، ونبينا محمداً عبده ورسوله، بيّن طريق الهدى والرشاد، وحذّر من الضلال والعصيان، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد : فاتقوا الله أيها المؤمنون وأتبعوا الحسنة بالحسنة تفلحوا ، وبادروا الذنب والتقصير بالتوبة تفوزوا . واشكروا الله تعالى أن أتم عليكم فضله بتمام شهركم ، فاستودعوه أعمالكم ، فكم أودعتم فِيهِ مِنْ حُلَلِ الطَّاعَاتِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، فَحُقَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْرَحَ بِهَذَا وَيَبْهَجَ، وَيَعِجَّ لِسَانُهُ بِالتَّكْبِيرِ وَيَلْهَجَ .
عباد الله : لقد طويت صفحة من صفحات المكارم ، فهنيئاً للذين زادتهم أيام هذا الموسم إيماناً مع إيمانهم وهم يستبشرون . ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) .
عباد الله : أعظم لذة تلذذت به نفوس العابدين في شهر رمضان المبارك والتي لا تدانيها لذة هي تلاوةُ كتاب الله ، واستماعُ كلام الله في الصلاة ، ولا شك أن لكل امرئ فتحٌ فَتَحَهُ الله عليه حينما ختم القرآن مرة أو مرتين أو عشرا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والموفق حقا هو من أُلهِْمَ مع هذه الختمات ، وحين استماع الآيات فتأمل وتدبر في المعاني واستشعر أن هذا الكلام هو كلام الله تكلم به من فوق سبع سماوات لن تتحمله الجبال الراسيات لو أنزل عليها لتصدعت ، فكيف بمضغة ضعيفة بين أضلع رقيقة لا تنفطر من جلال العظمة والكمال .
عباد الله : أي هدية تقدم في أيام العيد تقدم أجمل وأعظم من التشريف لكم بكلام الله تعالى ، فمن المناسب في أَيامِ عيدِنا أنْ نذكِّرَ ببعضِ المعاني التي يحتاجُها المسلمُ بعد فراق شهر العبادة ، ليثبت على الطاعة ، فمن عِبَرِ ومواعظ هذا الكتاب العظيم التي لابد وأن يتوقف العبد عندها حين تلاوة القرآن آية تكررت على مسامعنا كثيرا ،وتلوناها مرارا ، فالله عز وجل قال في سورة البقرة ( يا أيها الذين ءآمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، فهنا بيان لحكمة الصيام وما لأجله شُرع ، فلا ينبغي أن يُفيضَ بعض الناس في فوائد الصوم الصحية والنفسية ويُقَصِّرون في الحديث عن كبرى فوائده وهي حصول التقوى ، والتقوى هي ترك المعاصي ، ولعل السبب في كون الصيام يورث التقوى لما فيه كما يقول بعض أهل العلم من انكسار للشهوة ، وانقماع للهوى فإنه يردع عن الأَشَرِ والبَطَرِ والفواحشِ ، ويُهوِّنُ لذاتَ الدنيا ورياستَها ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وغالبا ما يؤتى الإنسان من هذين ، فمن أكثر الصوم هان عليه أمرهما وخفت عليه مؤونتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب الفواحش والمحرمات . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الصوم جنة ) قال ابن عاشور رحمه الله : ( ففي الصوم وقايةٌ من الوقوعِ في المآثمِ ووقايةٌ من الوقوعِ في عذابِ الآخرةِ ، ووقايةٌ من العللِ والأدواءِ الناشئةِ عن الإفراطِ في تناولِ اللذات ) .
ومن تأمل في كتاب الله سيجد أن موضوع التقوى تكرر في القرآن أكثر من مئتين وخمسين مرةً وغالباً ما تأتي التقوى حكمةً وغايةً للعبادات .
ولهذا وجب على المسلم حينما يتعبدُ اللهَ طيلةَ شهرِ رمضان ويعلمَ أنما شرع الصيام فيه ليبلغ غاية التقوى وحجب النفس عن الشهوات والهوى ، عليه أن يعلم أنه إن انتهى رمضان ودلف باب شوال إن استمرت خشيته لله وتقواه في قلبه فاتقى الله في نفسه وفي رعاية وتربية أبناءه وبناته ويتلمس أمرَ اللهِ ونهيَهُ في مطعمِهم ومسكنِهم وفي ملبسِهم ، خاصة في مثل هذا العيد ، فوالله ما نسمعه من صور التبذل والتعري بين البنات ليندى له الجبين وما للتنشئة الصالحة عندهم من نصيب ، فكيف لمن يهمل في هذا الجانب ، أن يكون قد أَثَّرَ الصومُ فيه وأورثه التقوى في قلبه ، أما من حجز التذاكر ، وأعدَّ الحقائب ليسافر بنفسه أو بالأبناء والبنات لا لطلب علم أو لتبليغ دين ، أو لتجارة ، أو غيرها من الحاجات التي لا توجد إلا في تلك البلاد ، وإنما فقط تلبية لشهواتهم أو تقليدا لقراباتهم ، أو تقطيعا لإجازتهم المملة للأبناء من طولها ، والعظيمة على الآباء من وزرها إلا من هدى الله تعالى ، فكيف سيقف يوم العرض أمام الله ليس بينه وبين ربه ترجمان . كيف به يوم أن يتخاصم مع أبناءه حينما يشتكون تضييع والدهم لهم إذ رحمهم للدنيا ونسي رحمتهم ليوم العرض على الله ، ثم يا سبحان الله كيف هو الخسران لأناس عاشوا في رمضان بكائين في القيام ، قائمين والناس نيام ، تالين للقرآن ، ثم ينتهي كل شيء عندهم مع آخر ليلة من رمضان فيعودوا إلى نقطة الصفر التي كانوا عليها قبل رمضان ، فيذهب القيام ، ويهجر القرآن ، وينسى الوتر ، وتتقاصر النفوس عن صلاة الفجر ، وهم يعلمون أن ربَّ رمضان هو ربُّ الشهور كلها .
فمثلُ هؤلاءِ تخشى أن ينطبق عليهم المثل القرآني:( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ..)
، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور .
ثم من تقوى الله عز وجل أن يتفقه المرء في دينه ليعبد الله على بصيرة وليعلم الطريق المستقيم ، خاصة وأن العلم الآن ميسر هو يأتي إليك ولا يحتاج أن تذهب إليه فهو في جيبك عبر الهواتف ، وهو في بيتك عبر الشاشات ، وهو في غرفتك عبر الحاسوب فهذا والله من إقامة الحجة علينا ولا يكن حظ العلم بالدنيا أوفرُ من حظنا من العلم في أمور ديننا وآخرتنا فهي خير وأبقى ، وقد قال الله تعالى ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ، قال الحسن البصري رحمه الله : ( إنه ليبلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه ، أنه يقلبُ الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي ) .
أيها المؤمنون : معين القرآن لا ينضب ، ولقرب عهدنا به نذكر بآية تهز الوجدان ، وتلفت نباهة ذوي الألباب فتقرع قلوبا امتلأت من خشية الله ، فقد قال الله تعالى في سورة الحاقة : ( يومئذٍ تعرضون لاتخفى منكم خافية ) ، فالكل ظاهر يوم القيامة ، فالجسد عريان ، والنفس مكشوفة ، والضمير مفضوح ، والعمل ظاهر ، هناك تسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار، وما أقسى الفضيحة على الملأ. . أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله، من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشِه المرفوعِ فوق الجميع.. ألا إنه لأمر، أمرُّ من كل أمر!!! .
حينما تتلو هذه الآية عبدالله إن كان قلبُك حاضرا لا شك سيرتعش جسدك وسيقشعر جلدك ، ولا غرو أن تدمع عينك ، حينها ستعرف أنه لن ينفعك في تلك الساعة تقديم الأعذار ، حينها ، ( يُنبأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيرة ) ، في ذلك اليوم سترى سجلاتك التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة وأنت أعلم بحالك وعلى نفسك بصيرة ، ولن تجديك المعاذير ، سيخرس اللسان وتنطق الأعضاء والجلود فأقرب ما تملك سيكونون عليك شهودا ، والله أعلم بك ولكن ليقيم الحجة عليك ، ذلك اليوم سيكون ( إلى ربك يومئذ المساق ) قال ابن الجوزي رحمه الله في كتاب التبصرة معلقا على قول الله تعالى قال (من لك إذا ألم الألم وسكت الصوت، وتمكن الندم، ووقع الفوت، وأقبل لأخذ الروح ملك الموت، وجاءت جنوده وقيل: من راق، ونَزَلْتَ منزلا ليس بمسكون! وتعوضت بعد الحركات السكون! فيا أسفا لك كيف تكون؟ وأهوال القبر لا تطاق! أكثرُ عُمْرِكَ قد مضى، وأعظم زمانِك قد انقضى، أفي أفعالك ما يصلح للرضا إذا التقينا يوم التلاق؟ ) . فاللهم رحماك رحماك ، واجعل عملنا في رضاك .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأخيار ، والتابعين لهم من الأبرار وسَلَّمَ تسليماً كثيرا .
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: من تقوى الله تعالى والتي يورثها الصيام ، استغلال مواسِمُ الخير ، واستثمار سوق التجارة الرابحة مع الله ليُجَدِّدَ العبدُ فيها العهدَ مع ربِّه وَيَقْرُبْ، ومِنْ أجلى وأبين عَلَامَاتِ صَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَقَبُولِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعَمَلِ، تَرَى ذَلِكَ فِي سَمْتِهِ، وفي ملبسه ، وفي َقَوْلِهِ، وَخُلُقِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِهِ، لَا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مُجَرَّدَ طُقُوسٍ اعْتِيَادِيَّةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي وَاقِعِ صَاحِبِهَا.
فكيف يكون متقيا لله من صام رمضان وقامه وذلك لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وأصدق القائلين سبحانه يقول في محكم التنزيل يقول ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) .
ومَا قِيمَةُ الجوع والعطش في الصَّوْمِ إِذَا لَمْ يمنع صَاحِبَهُ عَنِ الزُّورِ وَفُحْشِ الْقَوْلِ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .
وكيف يكون متقيا لله من صام رمضان وقامه ثم يُقَدِّم هواه في سخط الله على تقواه لنيل رضا الله ، بتوديعه لشهر الصيام واستقباله للعيد بمخالفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في جزِّ لحيته وإسبال ثوبه . فلا أدري أين وقعت التقوى في القلب بعد الصيام حينما لأمر ربه لا ينصاع ، ويكون هواه هو المطاع .
فما أسعد العبد الذي يكون له القرآن منهاجا ، والرسول صلى الله عليه وسلم نبراسا ، فيترجم حياته في أمور الدينا من المنصوص إلى المحسوس ، بناء على ما في قلبه من التقوى التي اكتسبها بعد العبادة ، فيكون عابدا ، تائبا ، خاشعا ، ويكون خلوقا ، كريم النفس مبتهجا ، ليَكُونَ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ الْعَامِلِينَ .
ثم صلوا بعد ذلك على خير المرسلين... بل وأكثروا في هذا اليوم من ذكر الله ومن الصلاة على رسول الله فقد أمركم الله عز وجل في كتابه وحثكم نبيكم في سنته فقال من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ................................