أثر القدوة في الناس-26-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف
محمد بن سامر
1436/07/26 - 2015/05/15 03:35AM
[align=justify] إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، يتساءلُ المرءُ أحيانا: كيف استطاعَ الأنبياءُ والمرسلونَ-عليهم جميعًا الصلاةُ والسلامُ-نشرَ الأخلاقِ، وإرساءَ الفضائلِ، وتحقيقَ السموِ، في نفوسِ أتباعِهم ومجتمعاتِهم، كيفَ استطاعَ نبينُا الكريمُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-أنْ يُغيِّرَ وجهَ العالمِ في ربعِ قرنٍ، وأنْ يهدمَ عروشَ الظالمين: كسرى وقيصرَ؟!، ولماذا نحنُ اليومَ مع كثرةِ المساجدِ والمدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ ووسائلِ الاتصالِ فتأثيرُها محدودٌ، فقد جعلِتِ الناسِ يحبونَ الدينَ والأخلاقَ بقلوبِهم ومشاعرهم، ويبتعدونَ عنهما في كثيرٍ من سلوكِهم وتصرفاتِهم؟!
ولعل السببَ في هذا أنَّ الأنبياءَ والرسلَ-عليهم جميعًا الصلاةُ والسلامُ-علموا الناسَ بمواقفِهم، وأعمالِهم، قبلَ أنْ يعلموهم بألسنتِهم وأقوالِهم.
والناسُ يتعلمونَ بعيونِهم أكثرَ من آذانِهم؛ فما يرونهُ ويشاهدونه يتأثرونَ به ويطبقونه أكثرَ مما يسمعونه، فالوالدُ والمربي الذي يحدثَ أبناءَه أو طلابَه عن الصدقِ، ثم يكذبُ أمامَهم مرةً واحدةً ليس أهلا أنْ يعلمَهم شيئًا، وليسوا هم مستعدينَ أن يستمعوا إلى كلماته إلا مجاملة، لأنَّ الكلامَ الجميلَ الرائعَ لا يؤثرُ إلا إذا صدقَتْه الأفعالُ والأعمالَ.
يقولُ أحدُهم: "إنَّ مثلا واحدًا-قدوةً واحدةً-أنفعُ للناسِ من عشراتِ الكتبِ والمجلداتِ، لأن الناسَ لا يصدقونَ إلا المثلَ الحيَّ، والقدوةَ الحسنةَ، لهذا كان النبيُ الواحدُ بجهادِه واستشهادِه في سبيلِ الخيرِ، أهدى للبشريةِ مِنْ آلافِ الكتبِ المليئةِ بالفضائل والحكمِ، الكلامُ سهلٌ لكنَّ التطبيقَ صعبٌ، إنَّ أكثرَ الناسِ يستطيعونَ الكلامَ عنِ المثلِ العليا، ولا يستطيعون أنْ يعيشوها، لهذا كانَ الأنبياءُ والرسلُ قليلين، وكانت حياتُهم إعجازًا وإنجازًا، وما مِنْ رجلٍ يستطيعُ أن يؤثرَ في الناسِ تأثيرًا قويًا حسنًا إلا إذا كانَ في حياتِه مستقيمَ السلوكِ، سليمَ الأسلوبِ".
قالَ سيدُ المربينَ، وإمامُ المعلمينَ عليه صلاةُ ربِ العالمينَ: "إنما بُعِثْتُ معلمًا، إنما بُعِثْتُ لأُتممَ مكارمَ الأخلاقِ.
لقد علمنا الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ بمواقِفِه، والتعليمُ بالمواقفِ أبلغُ من التعليمِ بالألفاظِ، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي-مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَو َاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ".
وتقويةً لما سبقَ وردَ في الأثرِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ غيرَه"، إنَّ عظمةَ هذا الأثرِ في كلمةِ: (ثم) فهي للترتيبِ على التراخِي، كما يقول علماء العربية، أي يجبُ أنْ يكونَ بين تعلمِ العلمِ وتعليمِه فسحةٌ مِنَ الوقتِ.
فقبلَ أنْ يسرعَ الإنسانُ إلى نقلِ ما تعلَّمَه للآخرينَ، عليه أنْ يتحققَ-أولا-مِنْ هذا العلمِ، بأنْ يناقشَه معَ نفسِهِ، ويَعرِضَه على القرآنِ وصحيحِ السنةِ؛ ليبحثَ عن دليلِه فيهما، ويَعرِضَه على المنطقِ السليمِ، ويَعرِضَه على الواقعِ، ويرى نتائجَه في الفردِ والمجتمعِ، و ما يحققُ من سعادةٍ للإنسانِ في دنياهُ وأُخراه...
وقبلَ أنْ يسرعَ الإنسانُ إلى نقلِ ما تعلَّمَه للآخرينَ عليه أن يطبقَه بنفسِه ليكتشفَ الخيرَ الذي فيه، ويشعرَ به، ويعيشَه في واقعهِ، وعندها يصبحُ لكلامِه قوةً تهزُ الجبالَ، ولبيانِه سحرًا يأخذُ بالألبابِ، وردَ في الأثرِ أن اللهَ-تعالى-يقول: "ابنَ آدمَ، عِظْ نفسَك، فإنْ وعظتَها فعِظْ غيرَك، وإلا فاستحِ مني".
فالمسلمُ إذا تحققَ مما علمَ، وعملَ به، تَمَكَّنَ مِنْ علمِه، وقويَ موقفُه، وأثرَّ في مَنْ حولَه، وقطعَ الطريقَ على الذينَ يصدونَ عنْ سبيلِ اللهِ.
وقبلَ أنْ يسرعَ الإنسانُ إلى نقلِ ما تعلَّمَه للآخرينَ عليه أنْ يفتحَ قلوبَهم بالحبِ، قبل أن يفتحَ عقولَهم للحقِ، فيمهدَ لتقبلِ علمِه بالكلمةِ الطيبةِ، والمعاملةِ الحسنةِ، والمودةِ البالغةِ، والخدمةِ الخالصةِ، والمعونةِ الصادقةِ، والعفوِ الكثيرِ، والحِلْمِ الواسعِ، لذلك جاء في الأثرِ: "رأسُ العقلِ بعدَ الإيمانِ التوددُ إلى الناسِ".
وانظرْ كيفَ جعلَ تعليمَ العلمِ صدقةً فقالَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ غيرَه".
والصدقةُ من الصدقِ، صدقِ الإنسانِ في محبةِ اللهِ خالقِه ومربيه، وصدقهِ في محبةِ نفسهِ بتعلمِ العلمِ النافعِ والعملِ بهِ، وصدقهِ في محبةِ خلقِ اللهِ بدعوةِ الناسِ إليهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والأسلوبِ الجميلِ، والصبرِ على ما يلاقيه...
فيا أيها الآباءُ والمربونَ، علموا أولادَكم وطلابَكم علمًا صحيحًا نافعًا، علموهم بمواقفِكم وأعمالِكم قبلَ أنْ تعلموهم بألسنتِكم وأقوالِكم، وافتحوا قلوبهم بالحبِّ قبل أن تفتحوا عقولهم للحقِّ.
تلقى عمرُ-رضيَ اللهُ عنه-مِنْ أحدِ ولاتِه هديةً من الحلوى، ولما وُضِعتْ أمامهَ قالَ للرسولِ الذي يحملُها: ما هذا؟ قال: حلوى يصنعُها أهلُ أَذْرِبيجَانَ، أرسلني بها إليك عتبةُ بنُ فرقدٍ، والي أَذْرِبيجَانَ، فذاقَها عمرُ، فوجد لها مذاقًا شهيًا، فعادَ يسألُ الرسولَ: أَوَكُلُّ المسلمينَ هناكَ يطعمونَ هذا؟ قالَ: الرجلُ لا هذا طعامُ الخاصةِ، فأعادَ عمرُ إغلاقَ الوعاءِ جيدًا وقالَ للرجلِ: أينَ بعيرُك؟ خُذْ حِمْلَك هذا وارجعْ به إلى عتبةَ، وقلْ لهُ: يقولُ لكَ عمرُ: اتقِ اللهَ ولا تشبعْ مِنْ طعامٍ حتى يشبعَ منه سائرُ المسلمينَ قَبْلَكَ.
أيها الكرامُ، إنَّ قوةَ عمرَ، وهيبتَه، وشدةَ تأثيرِه في الناسِ، كانت من استقامتِه ومواقفِه المشرفةِ، وكان إذا وضعَ قانونًا، أو منعَ أمرًا جمعَ أهلَه-أَوَلا-وقال لهم: "إني قدْ نَهيتُ الناسَ عنْ كذا وكذا، وإنَّ الناسَ ينظرونَ إليكم كما ينظرُ الطيرُ إلى اللحمِ، فإِنْ وقعتُم وقعوا، وإن هِبتُم هابوا، وإني واللهِ لا أُوتَى برجلٍ منكم وقعَ فيما نَهيتُ الناسَ عنه، إلا ضاعفتُ له العذابَ؛ لمكانِه مني، فمَنْ شاءَ منكم فليتقدمْ، ومَنْ شاءَ فليتأخرْ".
إذًا القُربى من عمرَ ليست ميزةً بل مسؤوليةٌِ، وهذا هو سرُ قوتِه.ِ
[/align]
فيا أيها الإخوة، يتساءلُ المرءُ أحيانا: كيف استطاعَ الأنبياءُ والمرسلونَ-عليهم جميعًا الصلاةُ والسلامُ-نشرَ الأخلاقِ، وإرساءَ الفضائلِ، وتحقيقَ السموِ، في نفوسِ أتباعِهم ومجتمعاتِهم، كيفَ استطاعَ نبينُا الكريمُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-أنْ يُغيِّرَ وجهَ العالمِ في ربعِ قرنٍ، وأنْ يهدمَ عروشَ الظالمين: كسرى وقيصرَ؟!، ولماذا نحنُ اليومَ مع كثرةِ المساجدِ والمدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ ووسائلِ الاتصالِ فتأثيرُها محدودٌ، فقد جعلِتِ الناسِ يحبونَ الدينَ والأخلاقَ بقلوبِهم ومشاعرهم، ويبتعدونَ عنهما في كثيرٍ من سلوكِهم وتصرفاتِهم؟!
ولعل السببَ في هذا أنَّ الأنبياءَ والرسلَ-عليهم جميعًا الصلاةُ والسلامُ-علموا الناسَ بمواقفِهم، وأعمالِهم، قبلَ أنْ يعلموهم بألسنتِهم وأقوالِهم.
والناسُ يتعلمونَ بعيونِهم أكثرَ من آذانِهم؛ فما يرونهُ ويشاهدونه يتأثرونَ به ويطبقونه أكثرَ مما يسمعونه، فالوالدُ والمربي الذي يحدثَ أبناءَه أو طلابَه عن الصدقِ، ثم يكذبُ أمامَهم مرةً واحدةً ليس أهلا أنْ يعلمَهم شيئًا، وليسوا هم مستعدينَ أن يستمعوا إلى كلماته إلا مجاملة، لأنَّ الكلامَ الجميلَ الرائعَ لا يؤثرُ إلا إذا صدقَتْه الأفعالُ والأعمالَ.
يقولُ أحدُهم: "إنَّ مثلا واحدًا-قدوةً واحدةً-أنفعُ للناسِ من عشراتِ الكتبِ والمجلداتِ، لأن الناسَ لا يصدقونَ إلا المثلَ الحيَّ، والقدوةَ الحسنةَ، لهذا كان النبيُ الواحدُ بجهادِه واستشهادِه في سبيلِ الخيرِ، أهدى للبشريةِ مِنْ آلافِ الكتبِ المليئةِ بالفضائل والحكمِ، الكلامُ سهلٌ لكنَّ التطبيقَ صعبٌ، إنَّ أكثرَ الناسِ يستطيعونَ الكلامَ عنِ المثلِ العليا، ولا يستطيعون أنْ يعيشوها، لهذا كانَ الأنبياءُ والرسلُ قليلين، وكانت حياتُهم إعجازًا وإنجازًا، وما مِنْ رجلٍ يستطيعُ أن يؤثرَ في الناسِ تأثيرًا قويًا حسنًا إلا إذا كانَ في حياتِه مستقيمَ السلوكِ، سليمَ الأسلوبِ".
قالَ سيدُ المربينَ، وإمامُ المعلمينَ عليه صلاةُ ربِ العالمينَ: "إنما بُعِثْتُ معلمًا، إنما بُعِثْتُ لأُتممَ مكارمَ الأخلاقِ.
لقد علمنا الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ بمواقِفِه، والتعليمُ بالمواقفِ أبلغُ من التعليمِ بالألفاظِ، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي-مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَو َاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ".
وتقويةً لما سبقَ وردَ في الأثرِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ غيرَه"، إنَّ عظمةَ هذا الأثرِ في كلمةِ: (ثم) فهي للترتيبِ على التراخِي، كما يقول علماء العربية، أي يجبُ أنْ يكونَ بين تعلمِ العلمِ وتعليمِه فسحةٌ مِنَ الوقتِ.
فقبلَ أنْ يسرعَ الإنسانُ إلى نقلِ ما تعلَّمَه للآخرينَ، عليه أنْ يتحققَ-أولا-مِنْ هذا العلمِ، بأنْ يناقشَه معَ نفسِهِ، ويَعرِضَه على القرآنِ وصحيحِ السنةِ؛ ليبحثَ عن دليلِه فيهما، ويَعرِضَه على المنطقِ السليمِ، ويَعرِضَه على الواقعِ، ويرى نتائجَه في الفردِ والمجتمعِ، و ما يحققُ من سعادةٍ للإنسانِ في دنياهُ وأُخراه...
وقبلَ أنْ يسرعَ الإنسانُ إلى نقلِ ما تعلَّمَه للآخرينَ عليه أن يطبقَه بنفسِه ليكتشفَ الخيرَ الذي فيه، ويشعرَ به، ويعيشَه في واقعهِ، وعندها يصبحُ لكلامِه قوةً تهزُ الجبالَ، ولبيانِه سحرًا يأخذُ بالألبابِ، وردَ في الأثرِ أن اللهَ-تعالى-يقول: "ابنَ آدمَ، عِظْ نفسَك، فإنْ وعظتَها فعِظْ غيرَك، وإلا فاستحِ مني".
فالمسلمُ إذا تحققَ مما علمَ، وعملَ به، تَمَكَّنَ مِنْ علمِه، وقويَ موقفُه، وأثرَّ في مَنْ حولَه، وقطعَ الطريقَ على الذينَ يصدونَ عنْ سبيلِ اللهِ.
وقبلَ أنْ يسرعَ الإنسانُ إلى نقلِ ما تعلَّمَه للآخرينَ عليه أنْ يفتحَ قلوبَهم بالحبِ، قبل أن يفتحَ عقولَهم للحقِ، فيمهدَ لتقبلِ علمِه بالكلمةِ الطيبةِ، والمعاملةِ الحسنةِ، والمودةِ البالغةِ، والخدمةِ الخالصةِ، والمعونةِ الصادقةِ، والعفوِ الكثيرِ، والحِلْمِ الواسعِ، لذلك جاء في الأثرِ: "رأسُ العقلِ بعدَ الإيمانِ التوددُ إلى الناسِ".
وانظرْ كيفَ جعلَ تعليمَ العلمِ صدقةً فقالَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ غيرَه".
والصدقةُ من الصدقِ، صدقِ الإنسانِ في محبةِ اللهِ خالقِه ومربيه، وصدقهِ في محبةِ نفسهِ بتعلمِ العلمِ النافعِ والعملِ بهِ، وصدقهِ في محبةِ خلقِ اللهِ بدعوةِ الناسِ إليهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والأسلوبِ الجميلِ، والصبرِ على ما يلاقيه...
الخطبة الثانية
تلقى عمرُ-رضيَ اللهُ عنه-مِنْ أحدِ ولاتِه هديةً من الحلوى، ولما وُضِعتْ أمامهَ قالَ للرسولِ الذي يحملُها: ما هذا؟ قال: حلوى يصنعُها أهلُ أَذْرِبيجَانَ، أرسلني بها إليك عتبةُ بنُ فرقدٍ، والي أَذْرِبيجَانَ، فذاقَها عمرُ، فوجد لها مذاقًا شهيًا، فعادَ يسألُ الرسولَ: أَوَكُلُّ المسلمينَ هناكَ يطعمونَ هذا؟ قالَ: الرجلُ لا هذا طعامُ الخاصةِ، فأعادَ عمرُ إغلاقَ الوعاءِ جيدًا وقالَ للرجلِ: أينَ بعيرُك؟ خُذْ حِمْلَك هذا وارجعْ به إلى عتبةَ، وقلْ لهُ: يقولُ لكَ عمرُ: اتقِ اللهَ ولا تشبعْ مِنْ طعامٍ حتى يشبعَ منه سائرُ المسلمينَ قَبْلَكَ.
أيها الكرامُ، إنَّ قوةَ عمرَ، وهيبتَه، وشدةَ تأثيرِه في الناسِ، كانت من استقامتِه ومواقفِه المشرفةِ، وكان إذا وضعَ قانونًا، أو منعَ أمرًا جمعَ أهلَه-أَوَلا-وقال لهم: "إني قدْ نَهيتُ الناسَ عنْ كذا وكذا، وإنَّ الناسَ ينظرونَ إليكم كما ينظرُ الطيرُ إلى اللحمِ، فإِنْ وقعتُم وقعوا، وإن هِبتُم هابوا، وإني واللهِ لا أُوتَى برجلٍ منكم وقعَ فيما نَهيتُ الناسَ عنه، إلا ضاعفتُ له العذابَ؛ لمكانِه مني، فمَنْ شاءَ منكم فليتقدمْ، ومَنْ شاءَ فليتأخرْ".
إذًا القُربى من عمرَ ليست ميزةً بل مسؤوليةٌِ، وهذا هو سرُ قوتِه.ِ
[/align]
المرفقات
أثر القدوة في الناس-26-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx
أثر القدوة في الناس-26-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx
أثر القدوة في الناس-26-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc
أثر القدوة في الناس-26-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc