أثر إقامة الحدود في استباب الأمن.
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، منْ يهدِهِ اللهُ فلَا مضلَّ لهُ، ومنْ يضلِل فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لَا شريكَ لهُ وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُهُ، أما بعدُ: فاتّقوا اللهَ عبادَ اللهِ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}[النساء:1].
عبادَ الله: جاءتْ شريعةُ الإسلامِ بوجوبِ حفظِ الأمنِ، كونِهِ مطلباً شرعياً لا غِنى للناسِ عنهُ أبداً، وهو نعمةٌ عظيمةٌ وجليلةٌ لا يعلمُ قيمتَها إلّا منْ فقدَهَا. قالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)(رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
وجاءتْ كذلكَ آمرةً بحفظِ الدّمَاءِ المعصومةِ، وعدمِ الاعتداءِ عليهَا، وتحريمِ سفكِهَا وإراقتِهَا، قالَ جلّ وعَلَا:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93].
وعن ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما قال: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: (لَنْ يَزَالَ المؤمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)(رواه البخاري).
وعنهُ رضي الله عنهما قال:(إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)(رواه البخاري).
وتبرأتْ الشريعةُ ممّن يحملُ السّلاحَ على المسلمينَ، قال صلى اللهُ عليه وسلّم (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا)(رواه البخاري ومسلم).
وجعلهَا اللهُ تعالى أوّلُ مَا يُقضى فيها بينَ النَّاس يومَ القيامَةِ، قالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ)(رواه البخاري ومسلم).
عبادَ اللهِ: ومنْ أخطرِ مظاهرِ الغُلُوِّ والتنطُّعِ ما يقودُ صاحبَه إلى التكفيرِ جُزَافًا؛ واستحلالِ دماء المعصومينَ والمستأمنينَ، فيُرهبونَ ويُهلكونَ ويفسدونَ.
وهذه الفئةُ الضالّةُ المضلةُ حذرَنَا منها رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ بقولِهِ:(يَخْرُجُ مِنْ أُمّتِي قَوْمٌ يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ، يقرؤُونَ القرآنَ لا يُجَاوِزُ حناجِرَهم، يحقرُ أَحَدُكُمْ عَمَلَهُ مَعَ عَمَلِهِمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، فَطُوبَي لِمَنْ قتَلَهُمْ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللهُ، كُلَّمَا طلَع مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللهُ، كُلَّما طلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قطَعَهُ اللهُ، فردَّدَ ذلكَ رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- عشرينَ مرةً أو أكثرَ وأنا أسمع)(رواه الإمام أحمد).
فمَا أقبحَ فِكْرَ هؤلاءِ، وما أعظمَ جُرْمِهِمْ، هتَكوا شرعَ اللهِ وأمنَ المجتمعِ ولُحْمَة الأُمَّةِ، فمَا لهم وأمثالِهم إلّا الجزاءُ الصّارِمُ وإقامةُ حدِّ اللهِ فيهم قطعًا لدابرِهِمْ، وعبرةً لكلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نفسُه ترويعَ المؤمنينَ واستباحةَ دمائهم.
عبادَ اللهِ: وإنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ علينا في بلادِنَا تطبيقَ أحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ في جميعِ جوانبِ الحياةِ، وتنفيذَ الحدودِ الشرعيةِ التي أمرَ اللهُ بها. وهذهِ الحدودُ الشرعيةُ هي أسوارٌ منيعةٌ، وعقوباتٌ زاجرةٌ لكلِّ مَنْ سوّلَتْ لهُ نفسُهُ بالتعدّي على الدّينِ والنّفسِ والعرضِ والعقلِ والمالِ.
وفي إقامتِهَا تنفيذٌ عمليٌ لنشرِ العدلِ بينَ النّاسِ، وسبباً في دفعِ الشرورِ والفتنِ وقمعِ الباطِلِ وأهلهِ، وسدِّ بابِ الفسادِ والظُّلمِ.
وقدْ أمرِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم كلّ منْ وَلِيَ أمرِ المسلمينَ بإقامتِهَا وتنفيذِها وتطبيقِهَا، وعدِم التهاونِ أو الاستخفافِ بِهَا. كمَا جاءَ في قصّةِ المرأةِ المخزوميةِ التي سَرَقَتْ، فقالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)(رواه البخاري ومسلم).
وعنْ أبِي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: (إِقَامَةُ حَدٍّ بِأَرْضٍ، خَيْرٌ لأهلها من مطر أربعين صباحًا)(رواه ابن حبان).
عبادَ اللهِ: ومنْ أعظمِ آثارِ تطبيقِ الحدودِ الشرعيةِ: انتظامُ أحوالِ المسلمينَ على الشّرعِ وصلاحِهِمْ واستقامتِهِمْ، وزجرٌ للجانِي وردعِهِ، واعتبارٌ لغيرِ الجانِي بما أصابَ الجانِي، وتكفيرُ سيئاتِ الجَانِي، وإنصافٌ للمجني عليهِ، وكذلكَ سلامةُ المجتمعِ والأمّةِ منَ الفسادِ والهلاكِ والفوضى، وإظهارًا لهيبةِ الدّولةِ وسلطانِهَا وثباتٌ للحكمِ وقطعُ دابرِ الفوضى، وردعُ أهلِ الفُرْقَةِ والفتنة.
منْ أجلِ ذلكَ قامتْ وزارةُ الدّاخليةِ منذُ أيّامٍ بتنفيذِ حكمِ القتلِ تعزيرًا بحقِّ سبعةٍ وثلاثينَ شخصًا منَ الفئةِ الضّالّةِ لتبنيهم الفكرَ الضّال، وتشكيلِ خلايا إرهابيةٍ للإفسادِ والإخلالِ بالأمنِ وإشاعةِ الفوضى، والإضرارِ بالبلادِ والعبادِ.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الْمَائِدَةِ: 33-34].
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيُّها المؤمنون والمؤمنات: هَا هُو شهرُ رمضانَ قد أقبلتْ نسائِمُهُ، وهلَّ علينَا بخيرِهِ وفضلِهِ، فحُقَّ على كلِّ مسلمٍ أنْ يفرَحَ بِمَقْدِمِهِ، ويستبشرَ بدخولِهِ، ويأْنَسَ بقربِهِ، حيثُ مدّ اللهُ جلّ وعلَا فِي أجلِهِ حتَّى بَلَغَهُ.
فهو نعمةٌ ومِنَّة إلهيةُ عظيمة، يجبُ على المسلمِ شكرُها، وبذلُ الجهدِ في طاعةِ ربّهِ ومولاهُ. قال صلى الله عليه وسلم: (لِلصّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحْهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بفطرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ).
وهوَ شهرٌ تُغفرُ فيهِ الذُّنُوبُ، يقولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(البخاري، ومسلم).
وتُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجِنَانِ وتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النّيرَانِ، قالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ ليلةٍ مِنْ شهرِ رمضانَ صُفِّدت الشياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغلّقَتْ أبْوَابُ النّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وفُتّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ..)(الترمذي، وصححه الألباني).
وجزاءُ صومِهِ على الربِّ الكريمِ جلَّ وعلَا، يقولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم:(قَالَ اللهُ: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلّا الصّيام فإنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)(البخاري، ومسلم).
وخُصّ للصّائِمِ فيهِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنّةَ مِنْ بَابِ الرّيَّانِ، قالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: (إنَّ في الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ "الرّيّانُ" يَدْخُلُ مِنهُ الصّائمونَ يومَ القيامةِ لا يدخلُ منهُ أحدٌ غيرُهم، يُقَالُ: أيْنَ الصّائمونَ؟ فيقومونَ، لَا يدخلُ منهُ أحدٌ غيرٌهم، فإذا دخلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدخلْ منهُ أحد)(البخاري، ومسلم). وغير ذلك من النعم التي تُفرِحُ قلوبَ المؤمنينَ بدخولِهِ.
فيا أخي الحبيب المبارك: حُقَّ لكَ أنْ تفرحَ وتَسْعَدَ بهذا الشهرِ المبارَكِ، وأنْ تَحْرِصَ عَلى أنْ تَزِيدَ فِيهِ إِيمانَكَ وحسناتِكَ ودرجاتِكَ، وأنْ تعيشَ فيهِ لحظاتِ القربِ من مولاكَ وخالقِكَ، وأنْ تُسْعِدَ نفسَكَ ورُوحَكَ وقَلْبَكَ بالقيامِ بينَ يدَي مَنْ خلقَكَ ورزقَكَ.
أسألُ اللهَ جلّ وعلَا أنْ يُبلّغنا وإيّاكم إيّاهُ، وأنْ يبارِكَ لنَا فيهِ، وأنْ يعيننَا فيهِ على طاعتِهِ ومرضاتِهِ.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 28-8-1440هــ