أتعجبون من غيرة سعد؟

هلال الهاجري
1444/10/13 - 2023/05/03 06:12AM

الحمدُ للهِ العليمِ الحكيمِ؛ أتقنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه، وأَحسنَ في كُلِّ حُكمٍ شَرَعَه، نحمدُه حمدَ الشاكرينَ، ونستغفرُه استغفارَ المذنبينَ، ونسألُه من فضلِه العظيمِ، فهو الجوادُ الكريمُ، البرُّ الرحيمُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ربُّ العالمينَ، وخالقُ الخلقِ أجمعينَ، (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه؛ لا خيرَ إلا دلَّنَا عليه، ولا شرَّ إلا حذرَنا منه، تركنَا على بيضاءَ ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن اهتدى بهداهم إلى يومِ الدِّينِ .. أما بعد:

(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

جَلَسَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ يَوماً مَعَ أصحابِه مُعَلِّماً ومُرشِداً، فَقَالَ: (إِنْ دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَهْلِهِ وَوَجَدَ مَا يَرِيبُهُ أَشْهَدَ أَرْبَعَاً)، قَالَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا)، فَقَالَ سَعْدُ: إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟، قَالَ: (نَعَمْ)، فَقَالَ سَعْدُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ، ولَأَضْرِبَنَّهُ بِهِ غَيْرَ مُصْفِحٍ – أَيْ: أَضرِبُه بِحَدِّ السَّيفِ، لا بِصَفْحِهِ وَهُوَ جَانِبُهُ-،  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).

هذه صورةٌ من صُوَرِ الغَيرةِ على الأعراضِ عندَ العربِ، والتي جاءَ الإسلامُ بتعزيزِها وضبطِها، فالنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكرَ عُذرَ سعدٍ رضيَ اللهُ عنه وأنَّه غيورٌ، حتى أخرجتُه الغَيرةُ عن صَوابِه فقالَ ما قالَ.

والغَيرةُ صِفةٌ للهِ عزَّ وجلَّ تليقُ بجلالِه وعظمتِه، وَقَد قالَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ بعدَ حادثةِ كسوفِ الشَّمسِ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ)، ولذلكَ يُعرفُ سببُ كَثْرَةِ وقوعِ الكسوفِ والخسوفِ في هذا الزَّمانِ بسببِ كثرةِ الزِّنا، فيغارُ اللهُ سبحانَه ويغضبُ، فيُرسلُ الآياتِ ليُخَوَّفَ بِهِم عِبَادَهُ، فهل سيخافونَ؟.

وكانَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من أَغيرِ النَّاسِ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ).

وكذلكَ كانَ أصحابُه الكِرامُ، فها هو الخليفةُ الثَّاني عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنه كانَ يُكثِرُ أن يقولَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، غَيرةً على أُمَّهاتِ المُؤمنينَ، حَتى أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وكانَ عليه الصَّلاةُ السَّلامُ يعرفُ جيِّداً غيرةَ عُمرَ، فقالَ يوماً وهو يُحدِّثُ أصحابَه: (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا  قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا فَقَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ)، فَبَكَى عُمَرُ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَمِنْ عَجَائِبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، أَنَّ امْرَأَةً تَقَدَّمَتْ إِلَى قَاضِي الرَّيِّ فَادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا خَمْسَمِائَةَ دِينَارٍ، فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ، فَجَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ –أيْ شُهُودٍ- تَشْهَدُ لَهَا بِهِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تُسْفِرَ لَنَا عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ أَمْ لَا، فَلَمَّا صَمَّمُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الزَّوْجُ: لَا تَفْعَلُوا هِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا تَدَّعِيهِ، فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَتْ لِيَصُونَ زَوْجَتَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَإِذْ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حِلٍّ مِنْ صَدَاقِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .. اللهُ أكبرُ .. إنَّها الغَيرةُ على المَحارمِ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي كرَّم المرأةَ بمنهجٍ قويمٍ، وهَدانا للصِّراطِ المستَقيمِ، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له يحيِي العِظامَ وهي رَميمٌ، وهو بِكلِّ خَلقٍ عليمٌ، وأشهَدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محَمّدًا عبدُه ورَسولُه بالمؤمنينَ رَؤوفٌ رحيمٌ، صلّى الله عليه وعَلى آلِه وصحبِه أفضلَ صلاةً وأزكى تَسليمٍ .. أما بعد:

فَمِن عَجيبِ مَا ذُكِرَ عَن غَيرةِ العَرَبِ، أنَّ أعرابياً رَأى رَجُلاً يَنظرُ إلى زَوجَتِهِ فَطَلَّقَها، فَلما عُوتِبَ، قَالَ:

إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ *** رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ

وَتَجْتَنِبُ الأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ *** إِذَا كَانَ الكِلاَبُ وَلَغْنَ فِيهِ

وقَد ذَمَّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَنْ لا غِيرةَ لَه بِقَولِهِ: (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، ولَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ، وَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ؟، قَالَ: (الَّذِي لَا يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ، والَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخُبْثَ).

فَيَا أيُّها الأحِبَّةُ الكِرامُ، ؟، هَل مَا نَراهُ اليَومَ حَقيقةٌ أم أَحلامُ؟، مَا هَذا التَّغيُّرُ الكبيرُ؟، ما هَذا التَّحوِّلُ الخَطيرُ؟، ما هذا السُّفورُ المُريبُ؟، وما هَذا الحِجابُ الغَريبُ؟، وما هذا الاختِلاطُ العَجيبُ؟، أينَ أَصحابُ الوِلايةِ والقِوامةِ؟، أَينَ أهلُ المُروءةِ والشَّهامةِ؟، فَالحذرَ الحَذرَ .. فَإنْ لَم يَكُنْ غَيرةٌ عَلى الأعراضِ؟، طَمَعَ الذينَ في قُلوبِهم أَمراضٌ؟.

أَمَّا الخِيامُ فَإنَّهـا كَخِيَامِهِم *** وَأَرَى نِساءَ الحَيِّ غَيرَ نِسَائِها

اللهمَّ اهدِّ ضالَ المُسلمينَ والمسلماتِ، اللهمَّ اكفِنا شرَّ الأشرارِ، وكيدَ الفُجارِ، (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعفافَ والْغِنَى، اللهمَّ رُدَّنا إليكَ رَداً جَميلا،ً ولا تَفتِنَّا في دِينِنا ولا دُنيانا، اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ من الضَّلالِ بَعدَ الهُدى، ومِنَ العَمى بَعدَ البَصيرةِ، يَا مُقلبَ القُلوبِ ثَبتْ قُلوبَنا عَلى دِينِكَ، ويا مُصرِّفَ القُلوبِ صَرِّفْ قُلوبَنا عَلى طَاعتِكَ، اللهمَّ إنَّا نسألُك الأمنَ في الأوطانِ والدُّورِ والصَّلاحَ للأئمَّةِ وولاةِ الأمورِ.

المرفقات

1683083538_أتعجبون من غيرة سعد؟.docx

1683083544_أتعجبون من غيرة سعد؟.pdf

المشاهدات 1172 | التعليقات 0