أتدرون ما ثواب المعتكف؟

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/09/19 - 2017/06/14 19:53PM


الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الأخوة في الله

تمر أيام الطاعات سراعا، والسعيد من اغتنمها واستزاد منها لآخرته.
فها نحن قد دخلنا في العشر الأخير من رمضان، ولقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من هديه أنه يزيد من طاعته وتقربه إلى الله عز وجل في هذا الثلث، ما لا يفعله في سائر الشهر، تحريا لليلة عظيمة القدر هي أفضل أيام الدهر، هي ليلة القدر التي جعل الله العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر فيما سواها، وأنزل في فضلها سورة كاملة، جعلها من قصار السور؛ ليحفظها الصغير والكبير، ويتربى عليها المسلم منذ صغره، ليزداد أجره وتكثر حسناته، فالسعيد من اغتنمها، وعرف قدرها، وقام بحقها، والمحروم من حرم نفسه اغتنامها وانشغل عنها بتوافه الأمور.
فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبشر بها من أول الشهر، حيث روى أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ) رواه ابن ماجه.

وروى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.

لذلك كانت العشر الأخيرة من رمضان أفضل ليالي العام؛ لاحتوائها على ليلة حاسمة ومصيرية للإنسان، هي ليلة القدر.

قالت عَائِشَةُ -رَضيَ الله عَنْهَا-: "كَانَ النَّبيُّ –صلى الله عليه وسلم- إذا دَخَل العَشْرُ شَدَّ مِئزَرَهُ، وأَحيَا لَيلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ". رَوَاهُ الشيخان.
وفي رواية لمسلم قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم- يَجتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيْرهِ".
وكان من حرصه –صلى الله عليه وسلم- على هذه الليلة أنه كان يتفرغ لها، ويعتكف في المسجد طمعا في قيامها. ولذلك فإن أفضل عبادة يتقرب بها العبد في هذه العشر أن يعتكف في المسجد، والاعتكاف سُنة نبوية مهجورة وَاظَبَ عليها –صلى الله عليه وسلم-، وشَرَعها لأمته، حتى قاَلَ الزُّهْريُّ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى:"عَجَبًا للمسلمين، تركوا الاعْتِكَافَ، والنبي –صلى الله عليه وسلم- لم يَتْرُكْهُ منذ دخل المدِينَةَ، حتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالى".

أتدرون ما ثواب المعتكف؟

فالمعتكف في المسجد سيضمن قيام ليلة القدر، ليسجل له بإذن الله تعالى ثواب قيام أكثر من ألف شهر، وهذا الأمر هو الذي كان يعول عليه السلف الصالح ويحرصون عليه.

والمعتكف سيجد متسعا من الوقت ليختم القرآن عدة ختمات ليكسب ملايين الحسنات، وسيسجل له عن كل مئة آية يقرأها في الليل ثواب قيام ليلة، لما رواه تميمٍ الداريّ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ بِمِئَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ) رواه أحمد والدارمي.

والمعتكف في المسجد سينال ثواب المرابط في سبيل الله؛ لأنه ممن ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فقد روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ) رواه مسلم.
وأما ثواب المرابط فهو ما رواه سَلْمَانُ –رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (مَنْ رَابَطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، كَانَتْ لَهُ كَصِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ) رواه النسائي.
فلذلك كل اعتكاف لمدة يوم وليلة يسجل لك به ثوابُ قيام شهر وصيامه، فكيف لو اعتكفت العشر الأخير كلها؟
واعلموا أن المرابط في سبيل الله هو الوحيد الذي يستمر ثوابه في نماء إلى يوم القيامة لو مات عليه، فتخيلوا لو أن رجلا اعتكف في المسجد في هذه الليالي المباركة، فجاء أجله وهو في المسجد، لسُجِّلّ له ثواب عمله إلى يوم القيامة بإذن الله، لما رواه فَضَالَة بْن عُبَيْدٍ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (كُلُّ مَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ الْمُرَابِطَ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ) رواه أحمد والترمذي وأبو داود.

وروى العرباض بن سارية –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يُنمى له عمله، ويجري له رزقه إلى يوم القيامة) رواه الطبراني، أرأيتم عظم هذا الثواب الذي لا ينقطع؟

أيها الأخوة في الله
والمعتكف في المسجد سيباهي الله به ملائكته؛ لأنه في المسجد ينتظر صلاة بعد صلاة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- الْمَغْرِبَ فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- مُسْرِعًا قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: (أَبْشِرُوا هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى) رواه أحمد وابن ماجه.

والمعتكف في المسجد سيسجل له أنه في صلاة طيلة مدة اعتكافه؛ لأن ينتظر صلاة بعد صلاة حيث روى سَهْل السَّاعِدِيِّ –رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَهُوَ فِي الصَّلاةِ) رواه النسائي.

والمعتكف في المسجد ستصلي عليه الملائكة مدة بقاءه في المسجد، لما رواه أبو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا، وَلا تَزَالُ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ) رواه الترمذي أي ما لم ينتقض وضوءه.

ولذلك قال ابن بطال رحمه الله تعالى: من كان كثير الذنوب وأراد أن يحطها عنه بغير تعب، فليغتنم ملازمة مكان مصلاه ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابتهم لقوله تعالى وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى اهـ.

والمعتكف في المسجد سينال ثواب حجة وعمرة كل يوم لأنه يجلس بعد الفجر يذكر الله حتى شروق الشمس، وقد روى أنسُ بْنُ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ) رواه الترمذي.

هذه بعض فضائل الاعتكاف، فتخففوا من مشاغل الدنيا التي لا تنتهي، وجربوا الاعتكاف تغنموا، جعلني الله وإياكم من المستمعين للقول المتبعين أحسنه، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده سبحانه وأشكره على عطاءه الكثير، وأستغفره وأتوب إليه من الخطأ والتقصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على مكنون الضمير وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الهادي البشير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أهل الجد والتشمير، أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، ولا يفوتنكم قيام ليلة القدر، فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- من حرصه على إدراكها أنه كان –صلى الله عليه وسلم- يقوم العشر الأخير من رمضان كله، بل كان يعتكف فيه؛ ليتفرغ للدعاء والصلاة، وكان يشد المئزر ويوقظ أهله ويحي ليله طمعا في هذه الليلة العظيمة.
روت عائشة رضي الله عنها: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكفُ العَشرَ الأَواخِرَ من رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ الله، ثمَّ اعْتَكَفَ أَزواجُهُ من بَعدِهِ. متفق عليه.

إن إهمال الاجتهاد في العشر الأخير من رمضان جناية يجنيها المسلم على نفسه، لأنه سيخسر أعظم ليلة في العام، وهي ليلة القدر، ولعله لا يدركها في عام قادم، وقد ذكرت لكم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يبشر بهذه الليلة أصحابه من أول الشهر فقال: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ) رواه ابن ماجه. فلا تحرم نفسك منها لئلا تحرم الخير كله.

ومن عجز عن الاعتكاف فلا أقل أن يتفرغ في الليل، ويعتكف في المسجد من بعد العشاء حتى الصباح ليدرك ليلة القدر، فجمهور العلماء يرون جواز الاعتكاف مدة يسيرة، فاحرصوا على هذه الليالي المباركة.

واعلموا أيها الأخوة أن ليلة القدر تأتي في الليالي الوتر وأنها تتغير من عام لآخر، فبعض الناس قد ينشط في ليلة سبع وعشرين فقط ويصلي التهجد مع الإمام ظنا أنها ليلة القدر، والصواب أن ليلة القدر تتغير من عام لآخر، لذلك احرصوا على كل ليالي الوتر من هذه الليالي المتبقية، واحرصوا عدم تفويت أي دقيقة فيها، واعمروها بالصلاة والدعاء، لا تعمروها بشيء آخر؛ لأنها لا تقدر بثمن، فهي خير من ألف شهر، لذلك لا نعجب من أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحي الليل كله في هذه العشر، بمعنى أنه كان لا ينام فيها كسائر الليالي؛ لأنه القائل–صلى الله عليه وسلم- (مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ)، لذلك احذر أن تُحرمَ خَيْرَهَا، وبالنسبة للمرأة الحائض فإن كانت حُرمت من قيامها، فلا تحرم نفسها من كثرة الدعاء فيها، وأفضل ما يقال فيها ما قاله النبي –صلى الله عليه وسلم- لعائشة حين سألته: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: (تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) رواه أحمد وابن ماجه.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيمانا واحتسابا، اللهم لا تحرمنا خير هذه الليلة، اللهم أعنا على الصيام والقيام، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت،
اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات.....
المشاهدات 636 | التعليقات 0