أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ 1442/9/25هـ
يوسف العوض
الخطبة الاولى:
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ ) حديث حسن اللَّهُ أَكْبَرُ يَا عِبَادَ اللَّهِ ، كَم نَحْن بِحَاجَةٍ إِلَى التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا الْحَسَنَةِ الَّتِي يُوصِي بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَلَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا :
يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْت فَإِنَّكَ مَيِّتٌ : نَعَم عِش يَا عَبْدَ اللَّهِ مِنْ السِّنِينَ مَا شئتَ! فَكَم يَكْفِيك ؟ هَل يَكْفِيك ثَمَانُونَ سَنَةً أَوْ تِسْعُونَ سَنَةً أَوْ حَتَّى مِائَةَ سَنَةٍ ؟ هَذَا إذَا بَلَغَتْ أَيُّهَا الْعَبْدُ هَذَا السِّنَّ ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ بِيَدِك لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾
. وَيَكْفِي فِي الدُّنْيَا مَذَمَّةً أَيُّهَا الْإِخْوَة : أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيِّت وَأَنَّهُ مَهْمَا حَصَلَ مِنْ الْمَالِ أَوْ الْجَاهِ فَإِنَّه مُفَارَقُه ، فَجَدِيرٌ بِمَنْ كَانَ الْمَوْتُ مَصْرَعَه ، وَالتُّرَابُ مَضْجَعَه ، وَالدُّودُ أَنَيْسَه ، وَالْقَبْرُ مَقَرِّه ، وَالْقِيَامَةُ مَوْعَدَه ، وَالْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ دَارَه ، جَدِيرٌ بِهِ أنْ يَعْلَمَ أَنَّ عَيْشَهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا قِيمَةَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ يَتَجَهَّز فِيهَا لِلْآخِرَةِ .
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : أَنَّ المنهكَ بِالدُّنْيَا الْمُتَعَلِّقَ بحطامِها الَّذِي أَلْهَتْه تِجَارَتُه وَأَمْوَالُهُ وَأَوْلَادُهُ وَلَذَّاتُه عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا وَلَّاه فَأَمْسَى عبداً لشهوته وَهَوَاه ، فَصَار الشَّيْطَانُ يُقَلِّبُه ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَا يُرِيدُ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَلَوْ ذَكَرَ لَهُ أَوْ رَأَى مَا يَذْكُرُهُ بِه لتضجَّرَ وتأفّفَ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ .
وَلِذَا أَيُّهَا الْإِخْوَة : فَإِنْ تَذَكَّرَ الْمَوْتِ عِلَاجٌ شَافٍ لِمَن تَعَلَّق بِالدُّنْيَا أَو اِنْشَغَلَ عَنْ الْآخِرَةِ ، وَإِنْ خَيَرَ نَصِيحَةٍ تُقالُ لِمَنْ غَرَّهُ شَبَابُه أَوْ غَرَّهُ مَالُهُ أَوْ غُرَّتَه دُنْيَاه هِيَ وَصِيَّةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (عش مَا شِئْت فَإِنَّكَ ميت) .
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ : فَهِي قَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وأحبب مَنْ شِئْت فَإِنَّكَ مفارقه) ، وَهَذِه الْوَصِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْأَوْلَى إلَّا أَنَّهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مَحَبةٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، إنَّ الْإِنْسَانَ بِطَبْعِه يُحِبُّ الْوَلَدَ وَالْوَالدَ وَالزَّوْجَ وَالْأَقَارِبَ وَالصِّديقَ وَالصَّاحِبَ وَيُحِبُّ الشَّهَوَاتِ بِأَنْوَاعِهَا ، أَنَّ كُلَّ مَحَبَّةٍ فِي الدُّنْيَا لاَبُدّ وَأَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وَتَنْقَطِعُ ، بَلْ إنْ كثيراً مِن عَلاَقاتِ الْمَحَبَِّ وَالصَّدَاقَةِ ستصيرُ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي اللَّهِ وَاَللَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ .
وَلِذَا وَاجِب عَلَيْنَا أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْكِرَامُ : أَن نُمَيِّزَ بَيْن الْمَحَبَّةِ الَّتِي ستنفعنا يَوْمَ تَشْتَدُّ فِيهِ الْحَاجَةُ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، فَكُلُّ أحبابِك أَخِي الْمُسْلِمُ لَن ينفعوك بَعْدَ مَوْتِك إلَّا مِنْ اسْتَغْفَرَ لَكَ أَوْ دَعَا لَكَ ، وَلِهَذَا فَقَدْ يَكُونُ الْغَرِيبُ أَنْفَعَ لِلْمَيِّتِ مَنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ .
وَلِذَا فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ هُوَ مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ وَعَوَّدَهَا عَلَى مُفَارَقَةِ أَهْلِه وَأَحْبَابِه ليمتثلَ وَصِيَّةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ (وأحبب مَنْ شِئْت فَإِنَّكَ مفارقه) .
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ :أَمَّا الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ فَهِي قَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وأعمل مَا شِئْت فَإِنَّكَ مجزى به) ، وَنَحْنُ نَقُولُ أَيُّهَا الْإِخْوَة : لِلْمُذْنِبِين وَكُلُّنَا ذَاكَ الرَّجُلُ ، اعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّكَ مجزىٌ بِه ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ رَقِيبٌ مِنْ النَّاسِ إنَّمَا الرَّقِيبُ هُوَ اللَّهُ ، وَنَقُولُ لِمَنْ نَذَرَ نَفْسَه لِنَشْرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، اعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّكَ مجزىٌ بِه ، وَنَقُول لدعاةِ تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ وللساعين لِإِضْلَالِ شَبَابِ الْأُمَّةِ وَلِمَن يسوؤهم انْتِشَارُ الْخَيْرِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنَّكُم مجزيون بِه وَنَقُول أيضاً لِمَن اعْتَاد الذَّهَابَ إلَى الْمَسْجِدِ وَقَرَأَ كِتَابَ رَبِّه وَهَلَّل وَاسْتَغْفَر اعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّكَ مجزىٌ بِه ، وَنَقُولُ لِمَنْ سَخَّر وَقْتَه وَمَالَه وَجُهْدَه أَو جزءاً مِنْهَا فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَبَيَانِ الْحَقِّ لِلنَّاسِ وَالسَّعْيِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ نَقُول : اعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّكَ مجزىٌ بِه ، وَنَقُولُ لِمَنْ سَاءَه وَاقِعٌ الْمُسْلِمِين وَحَمَل هَمَّ الْإِسْلَام وَأَحَبَّ الْخَيْرَ وَأَهْلَه اعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّكَ مجزىٌ بِه ، وَاَللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا .
الخطبة الثانية
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَأَمَّا وَصِيَّةُ جِبْرِيلَ الرَّابِعَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وأعلم إنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُه بالليل) ، إنَّهَا شَهَادَةُ الشَّرَفِ مِنْ اللَّهِ لَا يَنَالُهَا إِلا الَّذِينَ - ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ ، وَكَان جَزَاؤُهُم أنْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أفضل الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ قِيَام الليل) ، ثُمَّ اُنْظُرُوا أَيُّهَا الْإِخْوَة : كَيْف سَمَّى اللَّهُ قِيَام اللَّيْلِ شرفاً لِأَنَّه تَشَرَّف بَلْقَاء الْمُولِي عَزَّ وَجَلَّ ، فالشرفُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ ، وَلِذَا فَلَا يَسْتَطِيعُ قِيَامَ اللَّيْلِ إلَّا مِنْ كَفٍّ نَفْسَهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَطَهَّرَهَا بِالطَّاعَاتِ وَحَفِظ جَوَارِحَهُ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ .
أَمَّا الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَة : فَهِي قَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (وعزه اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الناس) ، نَعَمْ أَيّهَا الْإِخْوَة : إنَّ عِزَّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ النَّاسِ ، ولنعلم جميعاً وَأَنَّ مَنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ الْمُسْلِمُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَإِنْ يَأْكُلَ بِعَرَق جَبِينِه وَألَّا يَكُونَ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ، مَا أَحْسَنَ - أَيُّهَا الْإِخْوَة - وَمَا أَقْوَى إِيمَان مَنْ يَعْتَمَدُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمُدَّ يَدَهُ إلَى أَحَدٍ أبداً ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُعِينُ الْمُسْلِمَ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْخَلْقِ أَنْ يُقَوِّيَ عَلَاقَتَه بِخَالِق الْخَلْق جَلّا جَلَالُه ، فَلَا يطرقُ إلَّا بَابَهُ وَلَا يَسْأَلُ إلَّا سَوَّاهُ وَلَا يَعْتَمَدُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ (يا عِبَادِي كُلُّكُم جَائِعٌ إلَّا مِنْ أَطْعَمْتُه فاستطعموني أطعمكم ، يَا عِبَادِي كُلُّكُم عَارٍ إلَّا مِنْ كَسْوَتُه فاستكسوني أكسكم ، وَقَالَ تَعَالَى (ومن يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حسبه) .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَنَا بِالْوَحْي الْمَنْزِل وَإِن يفقهَنا فِي دِينِهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ أُولِي الْأَلْبَابِ .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق