أبو طالب قصة وعبرة
الشيخ نواف بن معيض الحارثي
الخطبة الأولى : أبو طالب قصة وعبرة
الْـحَمْدُ لِلَّـهِ الْـخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ خَلَقَ الْـخَلْقَ فَهَدَاهُمْ وَهُوَ الـْهَادِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وهُوَ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلَّغَ الدِّينَ، وَأَوْضَحَ الْـمَحَجَّةَ، وَأَقَامَ الْـحُجَّةَ، فَلَا عُذْرَ لِمَنْ خَالَفَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، صَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أما بعد: فأوصيكم ونفسي ....
عن ابْن الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عائفاً ، فكانَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَاهُ رِجَالُ قُرَيْشٍ بِغِلْمَانِهِمْ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَعْتَافُ لَـهُمْ فِيهِمْ. قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ بالرسولِ وَهُوَ غُلَامٌ، مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ، فَنَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّـهِ، ثُمَّ شَغَلَهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: الْغُلَامُ عَلَيَّ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ حِرْصَهُ عَلَيْهِ غَيَّبَهُ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ، رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ الَّذِي رَأَيْتُ آنِفا، فو اللـه لَيَكُونَنَّ لَهُ شَأْنٌ. قَالَ: فَانْطَلَقَ به أَبُو طَالِبٍ. ابن إسحاق.
عباد الله: بطلٌ من الأبطالِ، تميَّزَ بالشهامةِ، وتحلّى بالكرمِ، واتصفَ بالشجاعةِ، وليَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّـهِ r فَكَانَ إلَيْهِ وَمَعَهُ .
كان أحدَ أكبرِ دعائمِ الإسلامِ منذُ بَدْءِ الدعوةِ إليه، نصرَ النبيَّ r، ووفر له الحمايةَ، ودافعَ عنه أعظمَ الدفاع.
كان حائطَ صدٍّ أمامَ أذى قريشٍ للنبيِّ r ولم تزل قريشٌ تخافُه وتهابُه وتَجْبُنُ عن الإمعانِ في أذى الحبيبِ r حتى ماتَ ذلك الذي كان يحميهِ!
إنه أبو طالبٍ عبدُ مَنافٍ، عمُّ رسولِ اللـهِ r ضحى عشرَ سنينَ للدفاعِ عن النَّبيِ r والذبِّ عنه ، وامتنعَ عن تسليمِه لقريشٍ ، ومنعَهم من قتلِه ، وكان r يقول: " مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ، حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ".
لكنَّ أبا طالبٍ لم يدافعْ عن محمدٍ لأنَّه رسولُ اللـهِ r ، بل كان يدافعُ عنه حميةً لأنَّه ابنُ أخيهِ.
ولما حاصرت قريشٌ المسلمينَ في الشعبِ، دخل أبو طالبٍ مع المسلمين، وتحملَ مقاطعةَ قريشٍ الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ، أكلَ معهم الجلودَ، وتقرَّحتْ أشداقُه بأوراقِ الشجِر، فصبرَ على كلِّ ذلكَ من أجلِ ابنِ أخيهِ.
عباد الله: كان الرسولُ r يدعو أبا طالبٍ إلى دعوةِ الإسلام ليسعدَ بها، وينعمَ بها، وينجوَ بها من عذابِ الله، وأيقنَ أبو طالبٍ بصدقِ النبيِّ r ، لكنه كان يأَبى إلا الإصرارَ على انتحالِ دينِ آبائِه وأجدادِه، واستمرت المحاولاتُ معه طِوالَ عشرِ سنين، لكنه لم يشهدْ بشهادةِ الإسلام، ورضيَ بدينِ الشرك . وكان يقولُ :
ودَعَوْتَني وزَعمتَ أنك ناصحٌ ولقد صدقْتَ، وكنتَ ثَمَّ أَمينا
وعَرضْتَ دِيناً قد علمتُ بأنَّهُ مِن خيرِ أديانِ البريَّة ِ دِينا
لولا المَلامة ُ أو حِذاري سُبَّة ً لوجَدْتني سَمحاً بذاك مُبِينا
إخوة الإيمانِ: بعد خروجِ النبيِّ r ومن معه من الشعبِ ،باغتَ المرضُ أبا طالبٍ فأقعدَه الفراشِ، ويبدو أنَّها اللحظاتُ الأخيرةُ من حياتِه.
ويدخلُ النبيُّ r إلى أبي طالبٍ، وكلُّه أملٌ في أن تنجحَ المحاولةُ الأخيرةُ لدعوتِه إلى الإسلامِ والإذعانِ لشهادةِ الحقِّ، يدخلُ عليه ويجدُ عنده رُفقاءَ السُوْءِ أبا جهلٍ وابنَ أبي أُمية، يسكتانِ ويتكلمُ النبيُّ r، فيقولُ لعمه: (يا عمِّ قُلْ : لا إلهَ إلَّا اللـهُ كَلِمَةً أُحاجُّ لكَ بها عندَ اللـهِ) .
يتدخل شياطينُ الإنسِ أبو جهلٍ وابنُ أبي أُميةَ فيقولان له: (يا أبا طالبٍ أترغَبُ عن ملَّةِ عبدِ المُطَّلبِ؟!)
النبيُّ r لا ييأسُ ولا يسكتُ، فهذه هي الفرصةُ الأخيرة (فلَمْ يزَلْ يعرِضُها عليه ويُعيدُ له تلكَ المَقالةَ) (يا عمِّ قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللـهُ كلمةً أُحاجُّ لكَ بها عندَ اللـهِ) وها هو أبو طالبٍ يستجيبُ أخيراً، ويتهيأُ للكلامِ، والكلُّ يترقبُ !
تخرجُ الكلماتُ بصعوبةٍ فيقولُ لابنِ أخيهِ:لَوْلا أنْ تُعَـيِّـرَنِي قُرَيْشٌ، يقولونَ: إنَّما حَمَلَهُ علَى ذلكَ الجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بها عَيْنَكَ، حتَّى قَالَ آخِرَ شَيءٍ كَلَّمَهُمْ بهِ: "على ملَّةِ عبدِ المُطَّلبِ" وأَبى أن يقولَ لا إلهَ إلا اللـهُ، ثم فاضتْ روحُه إلى بارئِها، والنبيُّ r يعتصرُ ألماً وحُزْناً على عمِّه الذي أحبَّه وأحبَ هدايَتَهُ، تفيضُ تلك العاطفةُ الجياشةُ من القلبِ الرحيمِ فيقولُ r (لَأستغفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عنكَ ).
وأَنزل الحكيمُ سبحانه حُكمَه العادلَ في كتابه (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، ونزلَ قولُه سبحانه (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ). خ.م.
عباد الله : لقد بينَ اللـهُ لنا في كتابِه أن الشركَ جريمةٌ لا تُغتفر، وأن الكفرَ مصيبةٌ لا تَهونُ، وأنَّ منْ وفَّى بحقوقِ الناس ثم جحدَ حقَّ اللـهِ فإن ذلك لن يغنيَ عنه في الآخرةِ شيئاً، وإن كان نالَ نصيبَه في الدنيا ( إنَّ اللهَ لا يغفرُ أن يشركَ به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاءُ ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً مبينا) .
عن العباسِ t قال: يَا رَسولَ اللَّـهِ، هلْ نَفَعْتَ أبَا طَالِبٍ بشَيءٍ؟ فإنَّه كانَ يَحُوطُكَ ويَغْضَبُ لَكَ، قالَ: نَعَمْ، هو في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ لَوْلَا أنَا لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ) خ.م. خُفِّفَ عنه العذابُ، لكنه باقٍ في النارِ لا يخرجُ منها أبداً .
عباد الله: في كلِّ مرةٍ يموتُ أحدٌ من الكفارِ الذين كانتْ لهم سيرةٌ حسنةٌ مع الناسِ في الدنيا، تثورُ عواطفُ الكثيرِ من النَّاسِ، شفقَةً على مصيرِه، وألماً على فقدِه، وهذه العاطفةُ قد تكونُ طبيعيةً، فإنَّ النفسَ مجبولةٌ على حبِّ من أحسنَ إليها.
ولكنَّ هذه العاطفةَ لا بدَ أن تنضبطَ بضوابطِ الشرعِ، فلا تكونُ هي التي تقودُنا وتصوغُ أفعالَنا، فاللـهُ أعلمُ منا وأعدلُ ، وحكمُه هو النافذُ الذي يجبُ علينا طاعتُه واتباعُه. وحين ثارتْ عاطفةُ إبراهيمَ عليه السلامُ تِجاهَ أَبيهِ دعا له بالمغفرةِ، ولكنه لما عرفَ حكمُ اللـهِ توقفَ عن ذلك (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّـهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، وكذا فعلَ الحبيبُ r مع أبي طالبٍ، وعَدَه بالاستغفارِ فلما نُهيَ عنه توقفَ لأمرِ اللـهِ. ومثلُ ذلك حصلَ مع أمِّهِ حين زارَ قبرَها عليه السلامُ "فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ، فَقالَ: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأُذِنَ لِي) م.
عباد الله: إنَّ مذهبَ أهلَ السنةِ والجماعةِ أن أبا طالبٍ ماتَ كافراً ، وكلُّ من ماتَ على الكفرِ فمصيرُه إلى النارِ، هذا هو حكمُ اللـهِ العادلُ (إنَّه من يشركْ باللـهِ فقد حرَّمَ اللـهُ عليه الجنةَ ومأواه النارُ وما للظالمينَ من أنصار).
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين . بارك ....
الخطبة الثانية:
الحمد لله .... أما بعد:
فيا عباد الله: أجمعَ العلماءُ على عدمِ جوازِ الصلاةِ على من ماتَ على الكفرِ أو الاستغفارِ له أو الترحمِ عليه، ولو كان ذلك جائزاً لفَعَلَهُ النبيُّ r مع أمِّه وعمِّه.
فالكفرُ باللـهِ وجحودُه والشركُ به، وشتمُه بنسبةِ الولدِ والصاحبةِ إليه جرائمُ كبيرةٌ، وذنوبٌ عظيمةٌ، لا يمحوها شيءٌ إلا التوبةُ منها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّـهِ وَالْـمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ )
عباد الله: من مذهبِ أهلِ السنةِ أنهم لا يشهدونَ لأحدٍ معينٍ بالجنَّةِ أو بالنَّارِ إلا بنصٍ شرعيٍ من الكتابِ والسنةِ، فإذا لم يوجد نصٌ فلا نحكمُ على أحدٍ بعينه، وإنَّما نحكم بالحكمِ العامِ الذي حكم به اللـهُ ورسولُه، فالشهادةُ بالجنةِ والنارِ تنقسمُ إلى قسمين :
القسمُ الأولُ الشهادةُ العامةُ المتعلقةُ بوصفٍ: كأن تقولَ: من أشركَ باللـهِ تعالى شركاً أكبرَ فقد كفرَ وخرجَ من الدينِ وهو في النَّار ، فهذه شهادةُ حقٍّ ثبتت بالقرآنِ والسنةِ نعلنُها ونبينُها للنَّاس.
القسمُ الثاني الشهادةُ الخاصةُ أو المعيّنةُ : لشخصٍ بذاتِه واسمِه أنَّه في الجنَّةِ أو في النَّارِ ، فهذه لا تجوزُ إلا في حقِ من أخبرَ اللـهُ تعالى عنه ، أو رسولُه أنه في الجنّة كالعشرةِ المبشرينَ بالجنةِ أو في النارِ كأبي لهبٍ وامرأتِه وغيرهم.
ولكن من ماتَ على الكفرِ في الظاهرِ فإنَّه تجري عليه أحكامُ الكفرِ في الدنيا، فلا نصلي عليهِ ولا ندعو له بالرحمةِ أو المغفرةِ، وإن لم نكن نجزمُ أنه في النارِ بعينِه ، وكذلك الحالُ في أطفالِ الكفارِ فإنه تجري عليهم أَحكامُ الكفارِ في الدنيا وأمرُهم في الآخرةِ إلى اللـهِ تعالى .
عبادَ اللـهِ: لقد ذهبَ بعضُ النَّاسِ مذاهبَ بعيدةً كلَّ البعدِ عن الحقِّ حتى وصلَ الحالُ إلى القولِ بأن الجنَّةَ ليست خاصةً بالمسلمينَ الموحدينَ وأنَّ من ماتَ كافراً من اليهودِ والنصارى وغيرهم فإنَّه من أهلِ الجنَّةِ، وأنَّ رحمةَ اللـهِ أكبرُ من أن يَحدَّها حدٌ، وهذا مسلكٌ وخيمٌ ومنزلقٌ خطيرٌ وتلبيسٌ بالباطلِ على الناسِ، ولئن استدلُوا ببعضِ الآياتِ المشكلةِ في ظاهرِها فلا مفرَ لهم عن الآياتِ المحكمةِ ( إنَّ الذين كفروا من أهلِ الكتابِ والمشركينَ في نارِ جهنمَ خالدينَ فيها أُولئكَ هم شرُ البرية) ( ومن يبتغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقبلَ منه وهو في الآخرةِ من الخاسرين ) . والحقُّ واضحٌ لمن أراده حقاً . ثم صلوا ....
المرفقات
1653399604_خطبة أبو طالب قصة وعبرة.doc
1653399605_خطبة أبو طالب قصة وعبرة.pdf