أبواب الخير على مر الزمان مفتوحة. /12/15 1440هـ
عبد الله بن علي الطريف
أما بعد أيها الإخوة: هكذا الليالي والأيام تنقضي وتتصرم، وأكثر ما يندم العاقل على فقده الأيام الفاضلة، لكن عظمة هذا الدين وعظمة التشريع لم تجعل المسلم يعيش بين ترقب للمواسم والأسى على فقدها.. فالحياة كلها موسمٌ للطاعة وكسبُ الخير، قال الله تعالى مخاطباً نبيَه صلى الله عليه وسلم وهو خطابٌ للأمة جمعاء: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99] اليقين الموت أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات، فامتثل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر ربه، فلم يزل دائبا في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه.. فصلوات ربي وسلامه عليه.. بل وأبرز للأمة سبلاً للخير والطاعة لا تخطر ببال.!! والموفق من اهتبل فرصةَ الحياةِ واستثمرَها..
يقول الله تعالى حاثاً على عموم الخير وأفعاله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل:20] الخير الذي يقدمه الإنسان لنفسه كل عمل صالح مشروع يفيده وينتفع به الآخرون، ويشمل الأعمال البدنية والمالية والقولية والذهنية، قال الشيخ السعدي رحمه الله معلقاً على هذه الآية: "الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائةِ ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرة.. وليُعلمْ أنَّ مثقال ذرَّةٍ من الخير في هذه الدار، يقابله أضعافُ أضعافِ الدُّنيا وما عليها في دارِ النعيم المقيم، من اللذَّات والشَّهوات، وأنَّ الخيرَ والبرَّ في هذه الدنيا، مادةُ الخيرِ والبرِّ في دارِ القرار، وبذرُه وأصلُه وأساسُه، فوا أسفاه على أوقاتٍ مضت في الغفلات.! ووا حسرتاه على أزمانٍ تقضت بغيرِ الأعمال الصالحات.! ووا غوثاه من قلوبٍ لم يؤثِّر فيها وعظُ بارئِها، ولم ينجَعْ فيها تشويقُ من هو أرحم بها من نفسها.. فلك اللهم الحمدُ، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوَّة إلا بك." أ هـ
أيها الأحبة: من الأعمال الصالحة التي تشرع في كل وقت وحين الصدقة وهي من أعظم الأعمال الصالحة التي تكرر أمر الشارع بها، فمالت إليها القلوب وتشوقت لها النفوس، واشرأبت لها الأعناق، وقد أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها متاحة لجميع الناس غنيهم وفقيرهم.. وقد شرع هذا الدين لكلِ مسلمٍ ما يستطيعُه من الصدقات.. فكل طاعة من قول أو فعل أو بذل صدقة.
صدقاتٌ شُرعت لكلِ أحد.. ويستطيعُها كلُ أحد.. ولكن لا يوفق لها كل أحد.. وهذه الصدقات منها البدنية.. والنفسية.. ومنها ما شرعت فيه المشاركة الوجدانية..
وأصلُ هذه الأنواع من الصدقات قَولُ الرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلُّ معْروفٍ صدقة». البخاري ومسلم عن حذيفةَ وجابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. والمعروف: كل ما تعارف الناس على حُسْنِهِ، أو ما عُرف في الشرعِ حُسْنُه؛ فكلُ ما يفعلُ من أعمالِ البرِ والخيرِ يكونُ ثوابُه كثوابِ من تصدقَ بالمال.. قال ابن بطال: والمعروف مندوبٌ إليه، ودلَ هذا الحديثُ أن فعل المعروف صدقة عند الله، يثيب المؤمن عليه ويجازيه به، وإن قل لعموم قوله: «كلُّ معْروفٍ صدقة». والمعنى: ما عرف فيه رضى الله فثوابه كثواب الصدقة..
ولا فرق في أن يُقَدَّمَ المعروفُ لغني أو لفقير؛ فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ تَصْنَعُهُ إِلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ فَهُوَ صَدَقَةٌ». رواه ابن عساكر عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني.
الله أكبر أيها الأحبة: هذا التعميم من المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي مساحة كبيرة لبذل المعروف مهما كان، ولأي إنسان كان.. المهم أن يستشعرَ مُقدمُ المعروفِ التعبدَ لله بما يقدمه من معروف، وأن يُغالبَ في نفسه عدم الإيجابية، ويطرحَ النداء السلبي في النفسِ الأمارة بالسوء ويبتعد عن العبارات السلبية مثل (أنا مالي دخل ما هوب شغلي، مالي ومال الناس كلٍ يخدم نفسه... وغيرها كثير) ومتى بادر الناسُ كبيرُهم وصغيرُهم وغنيُهم وفقيرهم وشريفهم وعامتهم لبذل المعروف مهما كان صغيراً استجابة لسيد الأنام ورغبة برضا الرحمن عاشت الأمة بحب وسلام، ورفرفت عليها أعلام السعادة والتطور والوئام..
أيها الإخوة: ومن الأعمال البسيطة التي نص عليها المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقاس عليها كل ما عده الناس معروفاً..
من ذلك قَولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ.؟ قَالَ: «فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ.؟ قَالَ: «فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» _أي: صاحب الحاجة المظلوم المستغيث والمكروب المستعين_ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ.؟ قَالَ: «فَيَأْمُرُ بِالخَيْرِ» أَوْ قَالَ: «بِالْمَعْرُوفِ» قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ.؟ قَالَ: «فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ» معناه: صدقة على نفسه، والمراد أنه إذا أمسك عن الشرِ لله تعالى كان له أجر على ذلك كما أن للمتصدق بالمال أجر. رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. وسُئلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ.؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» قَالَ السائل: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ.؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا» فَقَالَ السائل: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ.؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ» _وهو من لا صنعة له_ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ.؟ قَالَ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» البخاري ومسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ». رواه الترمذي عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني
وَحَثَّ رسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمَاً على الصدقةِ فَقِيلَ لَهْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا.؟ فَقَالَ: «إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» رواه ابن حبان عَنْ أَبِي ذَرٍّ وقال الألباني صحيح لغيره..
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «..كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" رواه البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ» رواه الترمذي عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» أي قَرْضَ الدَّرَاهِمِ، وقَوْلُهُ: «أَوْ هَدَى زُقَاقًا»: يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ وَهُوَ إِرْشَادُ السَّبِيلِ. ومعنى مَنِيحَةُ اللَبَنِ: الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلاً يشربُ لبنَها.. جعلنا الله ممن يوفق للسنة وممن يستمع القول فيتبع أحسنه إنه جواد كريم أقول قولي هذا..
الثانية:
أيها الإخوة: ومن الصدقات ما يؤديه المسلم من باب أداء الواجب. فإذا احتسبه عند الله أُجر عليه قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً. رواه البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
كذلك الأعمال المباحة والمتع الخاصة إذا صاحبتها النية الصالحة تحولت لطاعة وصدقة على النفس قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «..وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ.؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ.؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» رواه مسلم عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ما أعظم هذا الدين حتى العلاقة الخاصة بين الزوجين تكون عبادة إذا نوى بها قضاء حق الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو إعفاف نفسه أو إعفاف زوجته ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
أيها الإخوة: حتى ما يقوم به المسلم من أعمال الحرث والزراعة والتي هي في ظاهرها من طرق كسب المال جعلها اللهُ باباً من أبوابِ الصدقة، مع ما يعود إلي صاحب الزرع من نفع مادي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» متفق عليه عن أَنَسٍ رضي الله عنه.
بل جعل اللهُ بعضَ هذه الأعمال اليسيرة في فعلها والكبيرةُ في أثرِها ودوافعِها سبباً من أسباب المغفرة ودخول الجنة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وبعد أيها الإخوة: هذا هو ديننا.. وهذه نتف بسيطة من آدابه الخاصة والعامة، جعلها الله أبواباً لكسب الأجر والثواب، ولو تمثلنها حصل لنا من الأجر العظيم ما لا يحصى، وصلح أمر المجتمع وصار مجتمعاً صالحاً يسوده الحب والتعاون وتحمل المسئولية والوئام.. فتعيش الأمة بخير وإلى خير..
وصلوا وسلموا على نبيكم..