آيــات الله فـي الـشـتـاء

د. زاهر بن محمد الشهري
1434/01/15 - 2012/11/29 19:50PM
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده سبحانه على نعمه المتوالية وعطاياه المتتالية، ونعمه التي لا تعد ولا تحصى, أحمده جلا وعلا وأثني عليه الخير كله، لا نحصي ثناء عليه هو سبحانه كما أثنى على نفسه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
أيها المؤمنون : اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى،
واعلموا أن من الأمور العظيمة النافعة للعبد في هذه الحياة التفكرّ في آيات الله، والتأملَّ في عجائب مخلوقاته؛ فإن ذلك يزيد الإيمان ويقوي اليقين، ويُعْظمُ الصّلة برب العالمين (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)[آل عمران: 190 – 191]
ومن آيات الله العظيمة، اختلافُ الأحوال، ليلٌ ونهار، حرٌّ وبرد، شتاء وصيف، ربيع وخريف، ولله الحكمة البالغة في ذلك،
تأمَّل يارعاك الله- نعمة الله على عباده في دخول الشتاء على الصيف، والصيف على الشتاء، كيف يكون بالتدرُّج والمهلة، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأةً لأضرَّ بالأبدان وأهلكها، ولأفسد النبتات وأتلفها، فما أعظمها من نعمة وما أجلها!
ولله آيات عظيمة تكثر في الشتاء: كالرعد والبرق، والصواعق والمطر والبَرَد, يقول الله تعالى: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) [الرعد: 13]
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وغيرهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " أقبلت يهودُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "يا أبا القاسم: نسألك عن أشياء إن أجبتنا فيها اتبعناك وصدَّقناك وآمنا بك، قال: فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على نفسه، قالوا: الله على ما نقول وكيل، فسألوه أسئلة وقالوا في جملة أسئلتهم: أخبرنا عن الرعد ما هو قال: "الرعد ملك من الملائكة مَوْكولٌ بالسحاب بيديه، أو في يده مخراقٌ من نار، يزجر به السحاب، والصوت الذي يسمع منه زجره السحاب إذا زجره حتى ينتهيَ إلى حيث أمره الله". قالوا: صدقت.
ويقول الله -جلا وعلا- في شأن المطر والبرد: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار * يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) [النور: 43 – 44]
عباد الله: والبرد الشديد من زمهرير جهنم، كما أن الحرَّ الشديد من سمومها، في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً؛ فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد وشدة ما تجدون من الحر من سمومها".
فهلا ذكرنا -عباد الله- ذلك بالنار؟!، ومن يتحمل البرد والحر الشديد في الدنيا؟ فكيف بحر جهنم وزمهريرها، أجارنا الله وإياكم منها.
عباد الله: هل تذكَّر في الشتاء أهلُ الجِدَةِ واليسار إخوانهم الفقراء، وذوي الحاجة ممن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء؟ ممن لمس البرد الشديدُ أجسامَهم، واخترقت شدتُه عظامهم، ألا اتقينا حر جهنم وزمهريرها بالعطف على هؤلاء؟!
وفي الحديث: "اتقوا النّار ولو بشقِّ تمرة" والتمرة لحافٌ يفيد هؤلاء في البرد، كما أن الغطاء لحاف، والثوب الدافئ لحاف، والمعطف لحاف، فتصدق يا من وسع الله عليه، ولو بشيء يسير، فربما يكون في نظرك حقير، وهو عند ذلك الفقير المحتاج كبيرٌ عظيم، ولا تحقرن من المعروف شيئا.
أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشتاء ربيع المؤمن".
قال ابن رجب رحمه الله في كتابه لطائف المعارف:( وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسِّر فيه، كما ترتع البهائم في المرعى الربيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقه ولا كلفه تحصل له من جوع ولا عطش فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، جاء في المسند والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة"، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: " ألا أدلكم على الغنيمة الباردة قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء".
ويقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين"،
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه:"مرحباً بالشتاء، تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وقال الحسن البصري -رحمه الله:" نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله يطول يقومه، ونهاره قصير يصومه ".
هذه مشاعر السلف -رحمهم الله- في الشتاء فرحٌ وغبطةٌ همة ونشاط، جِدٌّ واجتهاد فيما يقرِّب إلى الله.
وأما أحوال كثير من الناس في هذا الزمن، ففي تضيع الفرائض والواجبات، وغَشَيان المحرمات والمكروهات، والاجتراء على حدود ربِّ الأرض والسموات، والسهر الطويل في الليل على ما يُغضِبُ الله ويُظلِمُ القلوبَ، ويُضعِفُ نور الإيمان.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل *** وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة *** وعيشك في الدنيا محال وباطل
عباد الله: لقد حملنا نفوسنا هموماً كثيراً تتعلق بالدنيا، هموم السنين والأزمنة، وهموم الغلاء والرُّخْص، وهموم الشتاء قبل أن يجيء، وهم الصيف قبل أن يجيء، هموم متلاحقة، فماذا أبقينا في قلوبنا من هم الآخرة وأهوالها وأحوالها؟ وفي الدعاء المأثور: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا".
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا ومستقرنا برحمتك ياأرحم الراحمين.





الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلّم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
أيها المسلمون، إن من تيسير الله الرحيم عليكم في هذا الدين أن أباح المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، ويدخل في حكم الخفين الجوربان أو الشرَّاب، وقد أجمع أهل السنة على جواز المسح، وفيه أربعون حديثًا عن النبي ، رواها سبعة وثلاثون صحابيًا.
والخُفّان: ما يُلبس على الرجلين من الجلود، ويلحق بهما ما يُلبس من الكتان والصوف ونحوها من كل ما يلبس على الرجل مما تستفيد منه الرِّجلان بالتسخين، ولهذا بعث النبي  سرية وأمرهم أن يمسحوا على التساخين. رواه الحاكم وغيره وقال: "صحيح على شرط الشيخين". والمراد بالتساخين أي: الخفاف، وسميت تساخين لأنها تسخّن الرِّجل.
عباد الله، مدّة المسح المشروعة إن كان المسلم مقيمًا فيوم وليلة، وإن كان مسافرًا فثلاثة أيام بلياليها. تبتدئ مدة المسح من أول مسحة ولولم يسبقها حدث، فإذا لبس الإنسان لصلاة العصر ولم يمسح عليها أوّل مرة إلا لصلاة العشاء فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة العشاء، فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد.
وإذا تمت المدة وهو على طهارة فطهارته باقية حتى تنتقض، فالمدة يومٌ وليلة هي مدةٌ للمسح وليس مدة للبس على طهارة، فإذا انتقضت طهارته بعد تمام المدة وجب على المسلم غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد.
ومن تمّت مدته فنسي ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يُعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة.
وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء، ثم يُمرهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة، ولايمسح أسفل الخف أوالجوارب أو الشراب، لحديث عليٍ قال: (لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله يمسح أعلى الخف) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، والحديث صححه جمع من أهل العلم وحسنة آخرون.
ويجوز المسح على الجورب أو الشُرّاب الذي به خروق إذا كانت صغيرة؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أغلبهم فقراء، وحال الفقير لا يخلو خُفُّه أو شُرَّابه من الخروق، ولم ينقل عن النبي  أن نبه على ذلك أو نهى عنه، بل النصوص في المسح مطلقة، فلا سبيل لتقييد شيء لم يُقيَّد بدليل شرعي.
ومن لبس جورباً أو خفاً ثم لبس عليه آخر قبل أن يحدث فله مسح أيهما شاء.
وإذا لبس جورباً أو خُفاً ثم أحدث ثم لبس عليه آخر قبل أن يتوضأ فالحكم للأول.
وإذا لبس خُفاً أو جورباً ثم أحدث ومسحه ثم لبس عليه آخر فله مسح الثاني على القول الصحيح. ويكون ابتداء المدة من مسح الأول.
وإذا لبس خُفاً على خُف أو جورباً على جورب ومسح الأعلى ثم خلعه فله المسح بقية المدة حتى تنتهي على الأسفل.
وليحذر المسلم من التقصير في إسباغ الوضوء، وترك غسل أجزاء من بعض الأعضاء، كالوجه والكعبين، ولا سيما المرفقين، مع كثرة اللباس، وعُسْرِ حَسْرِ الأكمام عنهما.
يَكثرُ في البرد إيقاد النار ووسائلِ التدفئة؛ فليحذر المسلم منها؛ فإن النار عدو له، وكم من حوادث هلك فيها أفراد وأسرٌ بسبب التساهل في ذلك، روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لا تَتْرُكُوا النَّارَ في بُيُوتِكُمْ حين تَنَامُونَ) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي مُوسَى رضي الله عنه قال:( احْتَرَقَ بَيْتٌ على أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ من اللَّيْلِ فلما حُدِّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشَأْنِهِمْ قال:" إِنَّ هذه النَّارَ إنما هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فإذا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ" رواه البخاري ومسلم.
ويُكره أن تكون النار في قبلة المصلي فريضة كانت أم نافلة، ولو كانت صغيرة كشُعْلَةَ مِدْفَأةٍ أو فتيلة سراج أو شمعة؛ لما فيه من التشبه بالمجوس الذين يُصَلُّون للنار أو إليها، وقد نُهينا عن التشبه بالكفار.
أيها المسلمون، قد يخفى على الإنسان حكم من الأحكام أو يعرض له سؤال أو استفتاء فعليه أن يسارع إلى أهل العلم ويسألهم عما أشكل، فهذا ديننا إن تعلمنا أحكامه وشرائعه سعدنا في الدنيا والآخرة وإن أهملناه وغفلنا عنه فإن الله غني كريم.
اللهم وفقنا لطاعتك ودلنا على سبيل مرضاتك واهدنا صراطك المستقيم.
اللهم علمنا ماينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين, اللهم انصر من نصر دينك, اللهم انصر إخواننا في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان, اللهم انصرهم نصراً مؤزراً, اللهم أيدهم بتأييدك، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام, اللهم وعليك باليهود المعتدين الغاصبين فإنهم لا يعجزونك, اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
المشاهدات 2556 | التعليقات 0