آية جامعة، وعدم نقض العهد بعد رمضان
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الواحدِ الأحد، المتفردِ بالتوحيد، والمنفردِ بالتمجيد، استوفى الأشياء علمُه، ونفذت فيها إرادته، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بوحدانيتِه، وإخلاصا لربوبيتِه، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بلّغ رسالة ربه، ونَصَح لأمتِه، صلى الله عليه وعلى من تشرَّف بصُحبتِه، وعلى من تبعه بإحسان من أمتِه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا اللهَ تعالى المعبودَ في كل زمان، الرقيبَ على خلقه في كلِّ مكان، الحفيظَ لأعمال العباد، الديانَ يجازيهم يوم التناد، إليه المرجعُ والمصير، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
عباد الله.. قد أقبلتم على القرآن في شهر رمضان، فتَلَوْتُم آياته، وتَدَبرتُم معانيه، واعتبرتم بمواعظه، وإنه واللهِ تذْكرةٌ للمتقين، وموعظةٌ للمؤمنين، وفضلٌ من الله ورحمةٌ، به يفرح المؤمنون، هو خيرٌ مما يَجمَعون.
وإن في كتاب الله آياتٌ جامعة، وإنَّ أجمعَ آيةٍ في القرآن للحلال والحرام والأمر والنهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، لذا فقد أَمرَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز -رحمه الله- أن تقرأ على المنابر في خطبة الجمعة.
وإليكم بيانُ هذه الآية فيُوجِّهُ الله تعالى عبادَه إلى أمهاتِ الفضائلِ، ومكارمِ الأخلاقِ، ومحذِّرًا مِن الرذائلِ: يأمُرُ عبادَه بالعَدلِ والإنصافِ في حَقِّه تعالى بتوحيده وأن يُفرَدَ بالعبادة، فلا إله إلا الله، وفي حَقِّ عبادِه فيُنصِفُهم ويُؤدّي حقوقَهم، ويأمُرُ الله تعالى بالإحسانِ في عبادتِه تعالى وإلى خَلقِه، وإعطاءِ ذَوِي القَرابةِ حُقوقَهم، وإسداءِ الخَيرِ إليهم؛ صِلةً لهم، وينهى عن كُلِّ ما قَبُحَ قَولًا أو عَملًا، وعَمَّا يُنكِرُه الشَّرعُ ولا يَرضاه، وعن ظُلمِ النَّاسِ والتعَدِّي عليهم في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم، وقد عجل الله العقوبة على هذا أعجل من غيره، كما في حديث أبي بَكْرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن ذَنبٍ أجدَرُ أن يُعَجِّلَ اللهُ لِصاحِبِه العُقوبةَ في الدُّنيا، مع ما يَدَّخِرُ له في الآخرةِ؛ مِن البَغيِ وقَطيعةِ الرَّحِمِ)).
والله تعالى يُذكِّرُكم بما يأمُرُكم به، وما يَنهاكم عنه؛ لأجلِ أن تتَذَكَّروه فتَتُوبوا إليه، وتَمتَثِلوا أوامِرَه، وتَجتَنِبوا نواهِيَه، فتَنتَفِعوا بذلك.
وليس من خُلُقٍ حسَنٍ إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ إلا نهى الله عنه، وفي الحديث: " إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافَها".
عباد الله.. وإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا جمَعَ كُلَّ المأموراتِ والمَنهِيَّاتِ في الآيةِ السَّابقةِ على سَبيلِ الإجمالِ؛ ذكَرَ بَعضَ تلك الأقسامِ، فبدأ تعالى بالأمْرِ بالوَفاءِ بالعَهدِ فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
فأمرَ الله تعالى بالوفاءِ بكُلِّ عَهدٍ فيما بينكم وبينَه، وما بينَكم وبينَ الناسِ مما لا يُخالِفُ كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ نَبيِّه، ولا تُخالِفوا العُهودَ التي أكَّدْتُموها بالحَلِفِ بالله، وقد جعَلْتُم اللهَ عليكم حفيظًا وضامِنًا حينَ عاهَدتُم؛ ولمّا كان مِن شأنِ الرَّقيبِ حفظُ أحوالِ مَن يراقبُه، قال تعالى مُرَغِّبًا مُرهِّبًا {إنَّ اللهَ يَعلَمُ ما تَفعَلونَ} ومِن ذلك وفاؤُكم بالعُقودِ ونَقضُها، وسيُجازي كلَّ عامِلٍ بعَمَلِه.
وقد حمل جماعةٌ من أهل العلم قول الله تبارك وتعالى: {بِعَهْدِ اللّهِ} على عموم العهود، العهد مع الله، والعهد مع المخلوقين، فإذا عاهد الإنسان ربه فيجب عليه أن يفي {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقنَّ}، فلمّا أخلفوا هذا عاقبهم الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ}.
ثمَّ لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالوَفاءِ، ونهى عن النَّقضِ؛ شرَعَ في تأكيدِ وُجوبِ الوَفاءِ، وتَحريمِ النَّقضِ وتَقبيحِه؛ تنفيرًا منه، فضرَب الله مثلًا فيه تقبيحٌ لنقضِ العهدِ، فقال: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: ولا يكنْ مَثَلُكم في نَقضِ العُهودِ مَثَلَ امرأةٍ غَزَلَت غَزْلًا وأحكَمَتْه، ثم نقَضَتْه بعد تَقويتِه وإحكامِه، تَجعلونَ أيمانَكم التي حَلَفْتُموها عند التَّعاهُدِ خَديعةً لِمَن عاهَدتُموه، وتَنقُضونَ عَهدَكم إذا وجَدْتُم قومًا آخرينَ أكثَرَ مالًا ومنفعةً مِن الذين عاهَدتُموهم، إنَّما يَختبِرُكم اللهُ بما أمرَكم به مِن الوفاءِ بالعُهودِ، ولَيُبيِّنَنَّ لكم يومَ القيامةِ ما كُنتُم فيه تَختلِفونَ في الدُّنيا.
أيها المسلم: إنك تعاهد الله في كل ركعة من صلاتك أن لا تعبد إلا إياه ولا تستعين إلا به، حينما تقرأ قوله تعالى: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وتُعاهد الله على إقامة الصلاة والديمومة عليها، وبقية أركان الإسلام، وأداء حق الله، والإحسان إلى خلق الله، والصدق والتصدُّق، والصَّبْرِ والذِّكْر، وسلامة المسلمين من الأذى باليد واللسان، والخشوعِ في الصلاة، والإعراض عن اللغو، ورعايةِ الأمانة، والأمنِ من الخيانة، وهجرِ الذنوب، وأن تُسارع إلى مغفرة الله وتتوب، فإن الله تعالى علامُ الغيوب، ولا يخفى عيه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وإليه تُرجعون، وقد أكدتَّ عبدَ الله معاهدةَ الله على ذلك في رمضان، فكن على العهد ثابت، وفي الطاعة مسارع، وعن المعصية مُقلع، وإليه تائب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه غنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، أشهد الا إله إلا الله وحده سبحانه وتعالى إياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد: عباد الله.. إن الفرحةَ الكبرى الدائمةَ في جِوارِ الرحمن، في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مُقْتَدِر، هناك الحُبورُ والسرورُ فلا ينقطعان، هناك اللَّذَةُ والنعيمُ فلا يُنغَّصان، فرحٌ لا يَعقُبُه حُزنٌ، وبهجةُ نفوسٍ لا تُكدَّر ﴿وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ امتدّت أفراحُهم في الدُّنيا إلى أفراحِ الآخرةِ، أولئكَ أهلُ الإيمانِ وعملِ الصالحاتِ والمؤمنونَ بالبعثِ والنشور ..
المرفقات
1682620931_آية جامعة وعدم نقض العهد بعد رمضان.docx
1682620931_آية جامعة وعدم نقض العهد بعد رمضان.pdf