آية تعظيم البيت الحرام
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
آية تعظيم البيت الحرام
26 - 11 - 1438هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ أَنْزَلَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ الْأَنَامِ، وَشَرَعَ الْمَنَاسِكَ لِيَفِدَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، وَاسْتَجَابَ دَعْوَةَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِ عَلَى مَرِّ الدُّوَلِ وَالْأَزْمَانِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلَائِقَ فَدَلَّلَ بِهَا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ فَجَعَلَهَا طَرِيقًا لِعُبُودِيَّتِهِ، فَمَنِ الْتَزَمَهَا كَانَ لِلَّهِ عَبْدًا شَكُورًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا أَوْ عَارَضَهَا كَانَ كَفُورًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَإِمَامُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَأَفْضَلُ الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَاعْبُدُوهُ بِمَا شَرَعَ لَا بِأَهْوَائِكُمْ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا صَوَابًا ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الْمُلْكِ: 1 - 2].
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، الْخَالِصُ: إِذَا كَانَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ».
أَيُّهَا النَّاسُ: نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى دَلَائِلَ تَدُلُّ الْخَلْقَ عَلَى دِينِهِ، وَتَهْدِيهِمْ صِرَاطَهُ؛ فَيُبْصِرُهَا مَنْ وُفِّقَ لِلْهِدَايَةِ، وَيَعْمَى عَنْهَا مَنِ اخْتَارَ طَرِيقَ الْغَوَايَةِ. وَهِيَ دَلَائِلُ قَدَرِيَّةٌ وَدَلَائِلُ شَرْعِيَّةٌ؛ فَمِنَ الْقَدَرِيَّةِ مَا فِي الشَّرَائِعِ الرَّبَّانِيَّةِ مِنْ حِكَمٍ ظَاهِرَةٍ وَحِكَمٍ بَاطِنَةٍ، وَيَظْهَرُ لِلْمُكَلَّفِ فِي حَيَاتِهِ بَعْضُ الْحِكَمِ الْبَاطِنَةِ؛ لِتُثَبِّتَ إِيمَانَهُ، وَتَزِيدَ يَقِينَهُ، وَتُرَسِّخَ عُبُودِيَّتَهُ.
وَتَعْظِيمُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ إِذْ تَوَاطَأَ سَاكِنُوهُ وَالْوَافِدُونَ إِلَيْهِ عَلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مَرِّ الْأَزْمَانِ، وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَمِنْ مُخْتَلِفِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَلْوَانِ وَالْبِقَاعِ. فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا لَهُ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ انْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْجَمَاعَاتِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِأَزْمِنَةِ تَعْظِيمِهِ، وَالْمُنْتَهِكُونَ لِحُرْمَتِهِ أَفْرَادٌ قَلِيلُونَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِأَعْدَادِ مُعَظِّمِيهِ، وَفِي كُلِّ عَامٍ يَفِدُ إِلَيْهِ مَلَايِينُ الْبَشَرِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ، وَكُلُّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَيَتَعَبَّدُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ.
وَتَعْظِيمُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ضَارِبٌ فِي الْقِدَمِ، وَمِنْ أَخْبَارِهِمْ فِي ذَلِكَ: «أَنَّ قُرَيْشًا فِي عَهْدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَنْ يَسْكُنُوا مَكَّةَ، وَيُعَظِّمُونَهَا أَنْ يَبْنُوا فِيهَا بَيْتًا مَعَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يَكُونُونَ بِمَكَّةَ نَهَارًا، فَإِذَا أَمْسَوْا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى الْحِلِّ، وَلَا يَسْتَحِلُّونَ الْجَنَابَةَ بِمَكَّةَ. فَلَمَّا جَمَعَ قُصَيٌّ عَلَى قَوْمِهِ الْيَدَ بَنَى الْكَعْبَةَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا بُيُوتًا بِهَا وَأَنْ يَسْكُنُوا، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ سَكَنْتُمُ الْحَرَمَ حَوْلَ الْبَيْتِ هَابَتْكُمُ الْعَرَبُ، وَلَمْ تَسْتَحِلَّ قِتَالَكُمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ إِخْرَاجَكُمْ. فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ سَيِّدُنَا، وَرَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، فَجَمَعَهُمْ حَوْلَ الْبَيْتِ».
وَكَانَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ لِلْبَيْتِ: أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَنَوْا دَاخِلَ الْحَرَمِ مَا كَانُوا يُرَبِّعُونَ بُيُوتَهُمْ، بَلْ يُدَوِّرُونَهَا، قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: «وَكَانَ النَّاسُ يَبْنُونَ بُيُوتَهُمْ مُدَوَّرَةً تَعْظِيمًا لِلْكَعْبَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ بَنَى بَيْتًا مُرَبَّعًا حُمَيْدُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: رَبَّعَ حُمَيْدُ بْنُ زُهَيْرٍ بَيْتًا، إِمَّا حَيَاةً وَإِمَّا مَوْتًا».
وَكَانَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ لِلْبَيْتِ: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الثَّعَالِبِيُّ بِقَوْلِهِ: «وَمِنْ سُنَنِهِمْ أَنَّ مَنْ عَلَا الْكَعْبَةَ مِنَ الْعَبِيدِ فَهُوَ حُرٌّ، لَا يَرَوْنَ الْمُلْكَ عَلَى مَنْ عَلَاهَا، وَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ عِزِّ عُلُوِّهَا وَذُلِّ الرِّقِّ، وَبِمَكَّةَ رِجَالٌ مِنَ الصُّلَحَاءِ لَمْ يَدْخُلُوهَا قَطُّ إِعْظَامًا لَهَا».
وَكَانَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ لِلْبَيْتِ: أَنَّ الْكَعْبَةَ لَمَّا احْتَرَقَتْ ثُمَّ غَمَرَهَا السَّيْلُ فَتَصَدَّعَتْ، وَأَرَادَتْ قُرَيْشٌ إِعَادَةَ بِنَائِهَا، قَامَ أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرٍو الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا إِلَّا طَيِّبًا، وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَهْرَ بَغِيٍّ، وَلَا بَيْعَ رِبًا، وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَأُكُمْ بِهِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَهَدَمَ، فَتَرَبَّصَ النَّاسُ بِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقَالُوا: نَنْظُرُ؛ فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ سَالِمًا، وَغَدَا إِلَى عَمَلِهِ فَهَدَمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ».
فَمَا قَامَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْكَعْبَةِ جَعَلَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي هَدْمِهَا وَلَوْ كَانَ لِإِصْلَاحِهَا وَإِعَادَةِ بِنَائِهَا، وَهُمْ كَانُوا عَلَى الشِّرْكِ وَلَمْ يَكُونُوا مُوَحِّدِينَ، وَمَنْ هَانَ عَلَيْهِ الشِّرْكُ هَانَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَرَسَ فِي قُلُوبِهِمْ هَيْبَةَ بَيْتِهِ وَحُرْمَتَهُ.
وَكَانَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ لِلْبَيْتِ: أَنَّهُمْ فِي قُفُولِهِمْ مِنْ أَسْفَارِهِمْ أَوْ قَنْصِهِمْ يَبْدَءُونَ بِهِ قَبْلَ بُيُوتِهِمْ لِيَطُوفُوا بِهِ؛ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ.
وَكَانَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ لِلْبَيْتِ: مَا ذَكَرَهُ عَمْرٌو الْهُذَلِيُّ بِقَوْلِهِ: «رَأَيْتُ قُرَيْشًا يَفْتَحُونَ الْبَيْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَكَانَ حُجَّابُهُ يَقْعُدُونَ عِنْدَ بَابِهِ، فَيَرْتَقِي الرَّجُلُ إِذَا كَانُوا لَا يُرِيدُونَ دُخُولَهُ فَيُدْفَعُ وَيُطْرَحُ وَرُبَّمَا عَطِبَ، وَكَانُوا لَا يَدْخُلُونَ الْكَعْبَةَ بِحِذَاءٍ؛ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، وَيَضَعُونَ نِعَالَهُمْ تَحْتَ الدَّرَجَةِ. وَأَوَّلُ مَنْ خَلَعَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ فَلَمْ يَدْخُلْهَا بِهِمَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ؛ إِعْظَامًا لَهَا، فَجَرَى ذَلِكَ سُنَّةً».
وَمِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ الْبَيْتِ: أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ وَحْدَهَا الْبِنَاءَ الْمُعَظَّمَ عِنْدَ الْعَرَبِ، لَكِنْ لَمْ يَبْقَ سِوَاهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ الْعَرَبَ اتَّخَذُوا كَعْبَاتٍ كَثِيرَةً، يَحُجُّونَ إِلَيْهَا، وَيَطُوفُونَ حَوْلَهَا، وَيَتَعَبَّدُونَ عِنْدَهَا. وَلِكُلِّ كَعْبَةٍ مِنْهَا حَرَمٌ كَمَا لِكَعْبَةِ مَكَّةَ. قَالَ إِمَامُ السِّيَرِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ، وَتُهْدِي لَهَا كَمَا تُهْدِي لِلْكَعْبَةِ، وَتَطُوفُ بِهَا كَطَوَافِهَا بِهَا، وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا» اهـ.
فَأَيْنَ هِيَ تِلْكَ الْكَعْبَاتُ؟ وَأَيْنَ حَرَمُهَا؟ وَأَيْنَ سَنَدَتُهَا؟ وَأَيْنَ مَنْ يَتَعَبَّدُونَ عِنْدَهَا؟ لَقَدِ انْدَثَرَتْ كُلُّهَا لِتُصْبِحَ تَارِيخًا مَقْرُوءًا، وَتَبْقَى كَعْبَةَ الْحَقِّ، وَيَبْقَى حَرَمُهَا، وَيَتَعَبَّدَ الْمُؤْمِنُونَ بِالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ إِلَيْهَا، وَالطَّوَافِ حَوْلَهَا، مُنْذُ الْبِعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَإِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
وَابْتَنَى أَبْرَهَةُ كَعْبَةً بِصَنْعَاءَ، لِتَكُونَ بَدَلًا عَنْ كَعْبَةِ مَكَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ: «إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ -أَيُّهَا الْمَلِكُ- كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ».
وَلَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنِ الْكَعْبَةِ الْمَكِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَمْ يَحُجُّوا إِلَى الْكَعْبَةِ الْيَمَانِيَّةِ الْمُزَيَّفَةِ، بَلْ أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ فِيهَا؛ تَصْغِيرًا لِشَأْنِهَا؛ مِمَّا حَدَا بِأَبْرَهَةَ إِلَى تَسْيِيرِ جَيْشٍ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ الْمَكِّيَّةِ، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالطَّيْرِ الْأَبَابِيلِ، تَقْذِفُهُ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ؛ فَزَادَ تَعْظِيمُ الْعَرَبِ لِكَعْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَمَاهَا مِمَّنْ أَرَادَ هَدْمَهَا.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الْفِيلِ: 1 - 5].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الْحَجِّ: 32].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَقَاءُ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ وَعَاهَا عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى، اخْتَارَهُ لِيَكُونَ أَفْضَلَ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ دِينُهُ بَاقِيًا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَلَامٌ مَتِينٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، يَقُولُ فِيهِ: «وَكَذَلِكَ مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مِنْ حِينِ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِلَى هَذَا الْوَقْتِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِ وَانْجِذَابِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُلُوكَ وَغَيْرَهُمْ يَبْنُونَ الْحُصُونَ وَالْمَدَائِنَ وَالْقُصُورَ بِالْآلَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبِنَاءَ الْمُحْكَمَ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْهَدِمَ وَيُهَانَ، وَالْكَعْبَةُ بَيْتٌ مَبْنِيٌّ مِنْ حِجَارَةٍ سُودٍ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، لَيْسَ عِنْدَهُ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَالْمِيَاهِ وَغَيْرِهَا، وَلَا عِنْدَهُ عَسْكَرٌ يَحْمِيهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَلَا فِي طَرِيقِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَكُونُ فِي طَرِيقِهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالتَّعَبِ وَالْعَطَشِ وَالْجُوعِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَفْئِدَةِ النَّاسِ الَّتِي تَهْوِي إِلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ جَعَلَ لِلْبَيْتِ مِنَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ مَا أَذَلَّ بِهِ رِقَابَ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ حَتَّى تَقْصِدَهُ عُظَمَاءُ الْمُلُوكِ، وَرُؤَسَاءُ الْجَبَابِرَةِ، فَيَكُونُونَ هُنَاكَ فِي الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ كَآحَادِ النَّاسِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَقُوَى نُفُوسِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ. وَالَّذِي بَنَاهُ قَدْ مَاتَ مِنْ أُلُوفِ سِنِينَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَمْرُ الْبَيْتِ مِمَّا حَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ وَالطَّبَائِعِيَّةَ؛ لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ قِيَاسِ عُقُولِهِمْ وَقَوَانِينِ عُلُومِهِمْ» انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
تعظيم-البيت-الحرام-3
تعظيم-البيت-الحرام-3
تعظيم-البيت-الحرام-مشكولة
تعظيم-البيت-الحرام-مشكولة
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق