آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

هلال الهاجري
1435/07/21 - 2014/05/20 10:21AM
إِنّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَاأَيّهَا الّذَيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوْتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ)
(يَاأَيّهَا النَاسُ اتّقُوْا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللهَ الَذِي تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَاْلأَرْحَام َ إِنّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا)
(يَاأَيّهَا الّذِيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ وَقُوْلُوْا قَوْلاً سَدِيْدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا) .. أَمّا بَعْدُ:
فَأِنّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَشَرَّ اْلأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةً، وَكُلَّ ضَلاَلَةِ فِي النَّارِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيَّ يَجْمَعُ لِي النَّاسَ لِيَغْزُونِي، وَهُوَ بِنَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ) .. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْعَتْهُ لِي-يعني صِفْهُ لي- حَتَّى أَعْرِفَهُ، قَالَ: (إنَّكَ إذَا رَأَيْتُهُ أَذْكَرَكَ الشَّيْطَانَ، وَآيَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَنَّكَ إذَا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً).
قَالَ: فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا سَيْفِي، حَتَّى دُفِعْتُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلًا، وَحَيْثُ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُشَعْرِيرَةِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، وَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُجَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ، أُومِئُ بِرَأْسِي، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَيْهِ، قَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟، قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَكَ لِذَلِكَ، قَالَ: أَجَلْ، إنِّي لَفِي ذَلِكَ.
قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا، حَتَّى إذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُنْكَبَّاتٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنِي، قَالَ: (أَفْلَحَ الْوَجْهُ)، قُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (صَدَقْتُ).
ثُمَّ قَامَ بِي، فَأَدْخَلَنِي بَيْتَهُ، فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: (أَمْسِكْ هَذِهِ الْعَصَا عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ)،قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟، قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا عِنْدِي، قَالُوا: أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْأَلَهُ لِمَ ذَلِكَ؟، قَالَ: فَرَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ أَعْطَيْتنِي هَذِهِ الْعَصَا؟، قَالَ: (آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَضُمَّتْ فِي كَفَنِهِ، ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعًا.
لا إلهَ إلا اللهُ .. رجلٌ واحدٌ يخرجُ ليُجابِهَ جيشاً كاملاً ، لا لشيءٍ .. إلا لأنَ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ أمرَه بذلك.
إنَّ الحديثَ عن هؤلاءِ الرِّجالِ .. كأنَه حديثٌ عن الخيالِ .. ولكنَّها حقيقةُ الامتثالِ لقولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
هذه الاستجابةُ الغريبةُ عندَ الصَّحابةِ، هي التي جعلتْ منه جيلاً لا يُمكنُ اللِّحاقُ به، ولو قارَنا الفرقَ بيننا وبينَهم لوَجدنا البَوْنَ الشَّاسعَ في تحقيقِ قولِه تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).
اسمعْ معي لهذا الموقفِ .. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ) .. فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. فماذا عسى أن تَصفَ العِباراتِ؟ .. هل هو الحبُّ؟ .. أو هيَ الطَّاعةُ؟ .. أو هو مَزيجٌ من العِباداتِ؟ .. كانَ يستطيعُ أن يأخذَ خاتمَه فيبيعَه أو يُعطيَه لامرأتِه ولا حرجَ عليه في ذلك .. ولكن لم تُطاوعَه نفسُه المؤمنةُ باللهِ تعالى ورسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. أن يرفعَ شيئاً طرحَه رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وأما قَصَّةُ تحريمِ الخمرِ .. فماذا عسى أن تَبلُغَ الكلماتُ .. في وصفِ تلكَ النُّفوسِ الصَّالحاتِ .. فكلما قرأها المُسلمُ .. كلما رأى خَلَلَنا الظاهرَ في الاستسلامِ لأمرِ اللهِ تعالى .. فهؤلاءِ العربُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ليلاً ونهاراً .. قد امتلأتْ منها أجسامُهم .. وتشَّبعتْ منها دِماءُهم .. وأصبحَ كثيرٌ منها كما يُطلقُ عليهم في زَمانِنا من أهلِ الإدمانِ .. ينزلُ عليهم قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) .. فماذا حصلَ؟ .. وماذا كانَ؟ .. لم يتردَّدوا في الانتهاءِ عنْ شُربِها .. ولم يرفعْ أحدُهم الكأسَ بعدَ ذلك إلى فِيه .. ولم يحتاجوا إلى مجالسِ وَعظٍ وتذكيرٍ .. ولا جَلساتِ علاجٍ وتَخديرٍ .. يقولُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَبا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ، فَأَتَاهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ، قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ، فَاكْسِرْهَا، فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا، فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ) .. فهل تعلمونَ ما هو التفسيرُ العِلميُّ لهذا الفِعلِ؟ .. إنه الإيمانُ .. ولا شيءَ سِوى الإيمانِ.
وفي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوقِفٌ فريدٌ .. تَلينُ له قلوبُ الحديدِ .. سأُعيدُه لكم .. يقولُ: (وَحَيْثُ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُشَعْرِيرَةِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، وَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُجَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ، أُومِئُ بِرَأْسِي).
سبحانَ اللهِ .. البدَنُ تكسوهُ القُشَعْرِيرَةُ .. والمِهِمَّةُ حسَّاسةٌ خَطيرةٌ .. والأعْيُنُ مُترَقِّبةٌ بصيرةٌ .. وتبقى الصَّلاةُ في حياتِهم هي الهَمُّ الأكبرُ .. الَّذي لا يُشغلُ عنه شاغلٌ .. أرواحُهم تسبحُ في معانيِ قولِه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .. عَنْ نَافِعٍ رحمَه اللهُ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا .. ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانَا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا).
عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلْنَاهُ، فَأَدْخَلْنَاهُ ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) .. إغماءةُ المَوْتِ .. وسكونُ الجوارحِ .. وخشوعُ البَصرِ .. وذُهولُ السَّمعِ .. والجَرحُ يَثعبُ دماً .. في نزيفٍ مُستَمرٍ، يقولُ: فَجَعَلْنَا نُنَادِيهِ نُنَبِّهُهُ وَجَعَلَ لا يَنْتَبِهُ .. يُنبِهونَه باسمِه فلا ينتَبِه .. يُنادونَه بأميرِ المؤمنينَ فلا يُجيبُ، فعرفوا أنَّهم أمامَ رُوحٍ، يحتاجونَ أن يُخاطِبوها بما كانتْ تَعيشُ من أجلِه .. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنْ كَانَ لَيْسَ يَنْتَبِهُ، فَاذْكُرُوا لَهُ الصَّلاةَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الصَّلاةَ، الصَّلاةَ .. فرجعتْ روحُه إلى ذلك الجَسدِ، الَّذي كانتْ تَتلذَّذُ معَه في الصَّلاةِ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ، فَقَالَ: (نَعَمْ، لا حَظَّ فِي الإِسْلامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ) .. (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى).
هل سمِعتُم بِمنْ شَغَلتُه صلاتُه عن الموتِ؟ .. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ .. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا، نَزَلَ مَنْزِلًا، فَقَالَ: (مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ؟)، فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَكُونُوا بِفَمِ الشِّعْبِ)، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ قَال َالْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: أَيُّ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَكْفِيَكَهُ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ؟، قَالَ: اكْفِنِي أَوَّلَهُ، فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ، وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا، ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا، ثُمَّ عَادَ لَهُ بِثَالِثٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ أُوتِيتَ، فَوَثَبَ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ هَرَبَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنْ الدِّمَاءِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَلَا أَهْبَبْتَنِي، قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا ولَوْلَا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا.
هذا حالُهم مع الصَّلاةِ .. فما هو حالُنا؟ .. أستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رفعَ قَدرَ أُولي الأقدارِ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه على فَضلِه المِدرارِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحدُ القهَّارُ، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى المختارَ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الطيِّبينَ الأطهارِ من المهاجرينَ والأنصارِ، والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ .. أما بعد:
فبعدَ هذه المُغامرةِ العُظمى .. وبعدَ هذه التَّضحيةِ الكُبرى .. نجاحٌ لا نظيرَ له في العَجَبِ .. وانتصارٌ كُتبَ في التَّاريخِ بماءِ الذَّهبِ .. ثُمَّ عادَ فَرِحاً مَسروراً وهو يقولُ: قَدْ قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .. فماذا كانتْ الجائزةُ؟ .. يقولُ: ثُمَّ قَامَ بِي، فَأَدْخَلَنِي بَيْتَهُ .. فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: (أَمْسِكْ هَذِهِ الْعَصَا عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ) ..فلا نعلمُ ما الَّذي كانَ يدورُ في خَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ في ذلك الوقتِ؟ .. ولكن اسمعوا ماذا كانَ ردُّه على استفسارِ النَّاسِ .. قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟، قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا عِنْدِي .. فيكفي لهذه العصا لأن تكونَ أثمنَ شيءٍ في حياتِه .. أنها من رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما أكثرَ عليه النَّاسُ في السُّؤالِ عن العصا .. فقَالُوا: أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْأَلَهُ لِمَ ذَلِكَ؟، قَالَ: فَرَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ أَعْطَيْتنِي هَذِهِ الْعَصَا؟، قَالَ: (آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .. يا اللهُ .. يا اللهُ .. في ذلكَ اليومِ .. (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .. في ذلك اليومِ .. (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، فلا تستغربْ إذا رأيتَ رجلاً يحملُ عصاً، يدورُ بها في أرضِ المَحشرِ كأنَه يبحثُ عن أحدٍ .. فذلك عبدُ اللهِ بنُ أنيسٍ رضيَ اللهُ عنه .. يبحثُ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. ليأخذَه بيدِه .. ويذهبُ به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ .. شاهداً له على إيمانِه .. وبُطولتِه .. ونصرِه للدِّينِ .. وإعلاءِه لكلمةِ اللهِ تعالى .. عندَها سيكونُ الجزاءُ .. وتستبدلُ العَصا .. بما (لَا عَيْن رَأَتْ وَلَا أُذُن سَمِعْت وَلَا خَطَر عَلَى قَلْب بَشَر) .. حينئذٍ سيَعرفُ الخلقُ جميعاً .. ما هيَ قيمةُ قِطْعةِ خشبٍ أُعطيَتْ لمن استجابَ للهِ تعالى ولرسولِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ .. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَارْضَ عَنَّا، وَتَقَبَّلْ مِنَّا، وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَجِّنَا مِنْ النَّارِ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ .. اللَّهُمَّ إِنَّا نسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بِالجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِن النَّارِ .. اللَّهُمَّ كُنْ لِلْمُسْلِمينَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلَّ مَكَانٍ، فَرِّجْ هَمَّهُم، وَنَفِّسْ كَرْبَهُم، وَأَقِلْ عَثْرَتَهُم، وَتَوَلَّ بِنَفْسِكَ أَمْرَهُم .. اللهم آمِنَّا في أوطاننِا وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا واجعلْ ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاكَ واتبعَ رِضاكَ ياربَّ العالمينَ .. اللهم وفقْ وليَ أمرنِا لما تُحبُ وتَرضى وأعنُه على البِرِّ والتَقوى، اللهم وارزقْه البِطانةَ الصالحةَ النَّاصحةَ، اللهم وفقْ جميعَ ولاةِ أمرِ المسلمينَ لكلِ قولٍ سديدٍ وعملٍ رشيدٍ.
المرفقات

آية بيني وبينك يوم القيامة.docx

آية بيني وبينك يوم القيامة.docx

المشاهدات 3629 | التعليقات 3

جميلة جمل الله حالك ، ولعل من كمال جمالها تخريج أحاديثها ، وجزاك الله خيرا


جزاك الله كل خير وفتح الله لك أبواب الرحمة والمغفرة والرضوان ورزقك من حيث لا تحتسب


جزاك الله خيرا