آيات الرجوع إلى الله تعالى تدبّر وذكرى

الحمدُ لِلَّهِ رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وسلّم تسليما كثيرا، أَمَّا بَعْدُ: قال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، هذه آخر آية أُنزلت من القرآن الكريم ،فاعْلَمُوا عباد الله أَنَّكُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وعليه قادمون، وَعَلَى أَعْمَالِكُمْ مُحَاسَبُونَ “فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ“، (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)، فالأيام والليالي تسوقُنا للوقوف أمام الله تعالى، والموْت نهايةُ الدنيا وبداية الآخرة، ويومَ الرجوع إلى الله هو يومُ الفزع الأكبر، يوم الجمع، يوم التناد، يوم الوعيد، يوم الحسرة، يوم التلاق، ويوم المآب، يوم الفصل، يوم العرض على الله، فهو يوم عظيم، يوم عسير، يوم عبوس كما وصفه الله عز وجل (يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)، ومَنْ تدبّر الْقُرْآنَ هَالَهُ عظَمَةُ مَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ التذكير بآيَاتِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تعالى، هاله المواطن والأساليب المتنوعة التي ذَكر الله تعالى فيها الرجوع والعودة إليه سبحانه وتعالى، ومن ذلك:  ومن أعظمها ما أتت فِي سِيَاقِ تَقْرِيرِ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُلُوهِيَّتِهِ، وأن الله تعالى هو الربُّ الخالقُ الموجدُ، وَوُجُوبُ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وذلك أعظمُ ما يجب على الإنسان معرفتٌه والإيمانُ به، قال تعالى (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). وَتَأْتِي آيَاتُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لإثبات البعث والردّ عَلَى مُنْكِرِيه، فيندم الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْحَيَاةَ مُجَرَّدُ عَبَثٍ وَلَهْوٍ فلا بعْث ولا حساب، قال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، فقال تعالى * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، وسيُجازى كلُّ عاملٍ بما عمل، فالدنيا دارُ عمل، والْجَزَاءُ الأوفى يوم الرجوع إلى الله، قال تعالى(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)، وَيتوعّد اللَّهِ تَعَالَى الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَاصِينَ :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عباد الله : وقد أتت آيَاتُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ أن الله تعالى يفْصل بين الخلائق، وَيَقْضِي بَيْنَ الْعِبَادِ، فاحذروا الظلم عباد الله ، قال تعالى (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، وَتَأْتِي آيَاتُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ النَّهْيِ والتحذير من اتِّبَاعِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قريب، قال تعالى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ،وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وَمن أجملها ما تَأْتِي به آيَاتُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ تعالى لن يفْلِتُوا مِنَ الْعِقَابِ قال تعالى (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ)، قال تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا)      اللهم ارزقنا الاستقامة على أمرك، والموت على دينك، بحسن ختام ورضا منك يا رحمن. الخطبة الثانية:  الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.  أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) إخوة الإيمان: يَنْبَغِي أَنْ نتَذَكَّرَ وقوفنا أمام اللَّهِ تعالى يوم القيامة، فقد وُجِدَنا فِي هذه الدُّنْيَا لنرحل مِنْهَا لَا لِنبْقَى فِيهَا (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، فمن عَمِل لذلك، قَوِيَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ بالله، وَلَمْ يَأْسَ عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُ، وَلَمْ يَجْزَعْ مِمَّا أَصَابَهُ، وَعَاشَ فِي النَّاسِ عَزِيزًا، وَمَاتَ حَمِيدًا، وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ سَعِيدًا؛ ولم يتحسّر على دنيا فاتت، وَسَحَّتْ يَدُهُ بِالْإِنْفَاقِ، وَلَازَمَ الصَّلَاةَ وَالْقُرْآنَ، وَسَابَقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ والطاعات. يَبْنِي دَارَهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا، وَيَكْتَفِي مِنْ دُنْيَاهُ بِمَا يُبَلِّغُهُ آخِرَتَهُ؛ فَالْفُرْصَةُ وَاحِدَةٌ، وسلعة الله غالية -الجنّة-، وَالْخَسَارَةُ فِيهَا فَادِحَةٌ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، ورد في صحيح البخاري أنّ صَفوان بنُ مُحرِزٍ المازِنيُّ رحمه الله قال : بيْنَما أنَا أمْشِي مع ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما آخِذٌ بيَدِهِ، إذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقالَ: كيفَ سَمِعْتَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في النَّجْوَى؟ فَقالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُونَ، فيَقولُ الأشْهَادُ: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)..نعوذ بالله من حال أهل النار.....