آفة الواسطة
أحمد السويلم
1434/02/04 - 2012/12/17 08:39AM
الحمد لله ..
معاشر المسلمين .. حين يتكاسل المريض في علاج مرضه، ويتوانى العليل في مداواة علته، حتى يستشري في جسده، فإن ذلك مؤذن بهلاكه وتلفه، ولو طال به زمانه .. وهكذا المجتمعات تدب إليها الأمراض والعلل، وتسري إليها الأدواء الفتاكة، فيُترك إنكارُها حتى يتسع انتشارُها، لِتغدو مزمنة لا يكاد ينفع فيها علاج ولا دواء .
وإن من أكثر الأدواء انتشارًا في مجتمعاتنا المسلمة، داءَ الترف، وما أدراكم ما داء الترف، ذلكم الداءُ الذي يورث العجز والكسل، والقعود عن العمل، الداء الذي يذكي في أفراد المجتمع روح الأثرة والاتكالية وحب الذات، المفضية إلى البطالة وتضييع المسؤوليات، حتى يحجزه عن مسالك التشييد والبناء، ويقعده عن منازل الرقي والتقدم .
وقد ذم الله الترف في كتابه، وحذر منه، إذ جعله سببا من أسباب الغواية، فقال عن أهل النار { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين }، قال بعض المفسرين: "أي منعمين، لا يتعبون في طاعة الله"، وكثيرًا ما يقترن الترف بالكبر والظلم، قال جل وعلا { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى } .
ومن الظلم الذي أورثه الترف والعجز والكسل تلكم الآفة القبيحة التي خلخلت بنيان المجتمع، وأخلت بموازين العدل، وضيعت بها الأمانة، وأسند الأمر لغير أهله.. إنها آفة الواسطة والمحسوبية.. التي صَارَ لها في كثيرٍ مِنَ مجتمعاتنا انتشارٌ متزايدٌ وتأثيرٌ بالِغ في مناحِي الحياةِ العلمية والعمليّة، حتى لم تعد الكفاءة والأهلية محلا للاعتبار في ميادينها .
إنها آفة التبس على كثير من الناس مفهومُها، فعظم ضررها وخطرها؛ إذ إنها تؤدِّي إلى تفشِّي روح الانتهازية في المجتمع ليصبحَ التعامل مع الفردِ بمقدارِ ما يحمِله من معرفةٍ وصِلة ومصلحةٍ شخصيّة، لا بما يحمله من كفاءةٍ وقُدرة وأولوية.. بل وصلتِ الحال ببعض المجتمعاتِ إلى أن يشعرَ الفرد أنه لن يحيا حياةً متكامِلة دون الواسطة، فلن يستطيع العملَ إلاّ بها، ولا السفرَ إلا بها، ولا الدراسةَ إلا بها، ولاَ التجارةَ إلاّ بها، ولا العلاجَ إلا بها، ولا إنجاز الأعمالِ إلا بها .. حتى غدت هي الأصل، وغيرها حماقة أو غفلة، فمنعت الحقوق، وضيعت الأمانات، وسدت الطرق على كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ؟ أَوْ مَا إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا تَوَسَّدَ الْأَمْرَ غَيْرُ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» .
وإنَّ مما يزيد الأمرَ عِلّةً والطين بِلّة أن يراها بعض الناس بسَبب تفشِّيها مسوغًا للّجوء إليها وممارستها في كلِّ نواحي الحياة كيفَما اتَّفق، في حِينِ أنَّ حقيقتَها حالةٌ منَ الإفلاسِ تعترِي أصحابَها، كما أنَّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ ليست مسوغًا للّجوء إلى الواسطة التي تُؤدِّي بصاحبها إلى هضمِ حقوق الغير وحرمانهم ممّا هم أهلٌ له قبلَه.
عباد الله .. إن آفة الواسطة والمحسوبية لفساد إداري واجتماعي من الطراز الأول، وقد جاء الشرع بقطعها وحسم مادتها.
تأملوا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} .
أمر عباده المؤمنين بالعدل أبدًا، وإقامة الشهادة حقًا وصدقًا، ولو كانت على والد أو قريب أو حبيب، بل ولو كانت على النفس !
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، سَلِينِي بِمَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا» .
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء أهله وعشيرته، ولو كانت الواسطة مشروعة لكان أحق الناس بها قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله .. إن مما لا ريب فيه أن تفشيَ مثلِ تِلكم الآفة في مجتمعٍ مَا لن يدعَ له في نهوضِه حَلاًّ ولا عَقدًا ولا أثَرًا لكفَاءاته في منافعه العامّة، وإنما تكون خاضعةً للمصالح الشخصيّة والعلاقات المنفعيّة؛ ليجلبَ المجتمعُ على نفسه غائلةَ الفاقةِ والتخلّف، ويذكيَ في أوساطه شررَ الحسد والتباغض والتغابن، فتنقلب المعايير إلى مَبدأ المصالح الشخصيّة .
ومن الآثار الوخيمة لتلك الآفة ظهور الطبقية في المجتمعات، حتى ليبغي القوي على الضعيف، والغني على الفقير، وذووا الجاه والمناصب على من دونهم .. وهذا لعمر الله من أسباب الفتنة، وموارد الهلاك .
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " وفي رواية: فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟!"، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
وحين يتخلص المجتمع من هذه الآفة ويحقق العدل، يحصل التوازن والاستقرار فيه، ويسوده الاحترام والتقدير، فتقوم سوق المنافسة الشريفة، ويعم الخير، ويعظم الإنتاج، ويستوي الناس، فلا تفاضل بينهم في مصالح الدنيا إلا بالكفاءة والأهلية، كما أنه لا تفاضل بينهم في الآخرة إلا بالتقوى والعمل الصالح.
نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون ..
الحمد لله ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على أمره، و{توبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} .
عباد الله .. إننا حين نتحدث عن الواسطة وخطرها وأثرها، نتحدث عنها على الوجه الواقع المنتشر في المجتمعات، ولا نعني بذلكم الشفاعة المحمودة التي ندب الشرع إليها، وأثاب عليها .. ذلكم أن الشفاعة المحمودة لا بخس فيها لحقوق الناس، وليس فيها إحقاقٌ لباطل أو إبطالٌ لحق كما في الشفاعة المذمومة، بل هي شفاعة لوجه الله، لا معاوضة فيها، قائمة على الإرفاق والإصلاح والتعاون على البر والتقوى.. يعان بها الضعيف، وتدفع بها حاجة الملهوف، ويُعَرَّفُ بها الغريب، ويصلح بها بين المتخاصمين، وترد بها مظلمة العاجز .. من غير ضرر ولا ضرار، ولا تعدٍ ولا إجبار، يؤجر فيها الشافع وإن لم يتحقق ما شفع فيه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشفَعوا تؤجَروا، ويقضي الله على لسانِ رسولِه ما يشاء". رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث الآخر: "والله في عونِ العبد ما كان العبد في عون أخيه". رواه مسلم.
والله جل وعلا جعل الشفاعة شفاعتين، فمدح الشفاعة الحسنة، وهي الشفاعة بحق، فقال {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}، وذم الشفاعة السيئة التي تقتضي التعدي والظلم وحرمان الحقوق، فقال: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، والكفل هو النصيب من الإثم، وقد فسرت الآية بأنها فيمن سن سنة سيئة، فكل من شفع لغيره شفاعة بغير حق، يعلم أنه ليس بأهل، أو أن غيره أحق منه، فأبطل حقا من حقوق الناس بالواسطة، أو تعدى عليهم، فعليه إثمه وإثم ما يحصل بسبب تقصيره إلى يوم القيامة .
فاتقوا الله عباد الله .. واستقيموا على أمر الله، وأصلحوا ما ترونه أو تعلمونه من تلك الآفات ما استطعتم، ولا يحولن بينكم وبين الإصلاح والإنكار كثرة الفساد وانتشاره، فإن الله سائلكم، ومجازيكم بأعمالكم، و{الله أعلم بالظالمين} .
ألا وصلوا وسلموا ..
معاشر المسلمين .. حين يتكاسل المريض في علاج مرضه، ويتوانى العليل في مداواة علته، حتى يستشري في جسده، فإن ذلك مؤذن بهلاكه وتلفه، ولو طال به زمانه .. وهكذا المجتمعات تدب إليها الأمراض والعلل، وتسري إليها الأدواء الفتاكة، فيُترك إنكارُها حتى يتسع انتشارُها، لِتغدو مزمنة لا يكاد ينفع فيها علاج ولا دواء .
وإن من أكثر الأدواء انتشارًا في مجتمعاتنا المسلمة، داءَ الترف، وما أدراكم ما داء الترف، ذلكم الداءُ الذي يورث العجز والكسل، والقعود عن العمل، الداء الذي يذكي في أفراد المجتمع روح الأثرة والاتكالية وحب الذات، المفضية إلى البطالة وتضييع المسؤوليات، حتى يحجزه عن مسالك التشييد والبناء، ويقعده عن منازل الرقي والتقدم .
وقد ذم الله الترف في كتابه، وحذر منه، إذ جعله سببا من أسباب الغواية، فقال عن أهل النار { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين }، قال بعض المفسرين: "أي منعمين، لا يتعبون في طاعة الله"، وكثيرًا ما يقترن الترف بالكبر والظلم، قال جل وعلا { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى } .
ومن الظلم الذي أورثه الترف والعجز والكسل تلكم الآفة القبيحة التي خلخلت بنيان المجتمع، وأخلت بموازين العدل، وضيعت بها الأمانة، وأسند الأمر لغير أهله.. إنها آفة الواسطة والمحسوبية.. التي صَارَ لها في كثيرٍ مِنَ مجتمعاتنا انتشارٌ متزايدٌ وتأثيرٌ بالِغ في مناحِي الحياةِ العلمية والعمليّة، حتى لم تعد الكفاءة والأهلية محلا للاعتبار في ميادينها .
إنها آفة التبس على كثير من الناس مفهومُها، فعظم ضررها وخطرها؛ إذ إنها تؤدِّي إلى تفشِّي روح الانتهازية في المجتمع ليصبحَ التعامل مع الفردِ بمقدارِ ما يحمِله من معرفةٍ وصِلة ومصلحةٍ شخصيّة، لا بما يحمله من كفاءةٍ وقُدرة وأولوية.. بل وصلتِ الحال ببعض المجتمعاتِ إلى أن يشعرَ الفرد أنه لن يحيا حياةً متكامِلة دون الواسطة، فلن يستطيع العملَ إلاّ بها، ولا السفرَ إلا بها، ولا الدراسةَ إلا بها، ولاَ التجارةَ إلاّ بها، ولا العلاجَ إلا بها، ولا إنجاز الأعمالِ إلا بها .. حتى غدت هي الأصل، وغيرها حماقة أو غفلة، فمنعت الحقوق، وضيعت الأمانات، وسدت الطرق على كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ؟ أَوْ مَا إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا تَوَسَّدَ الْأَمْرَ غَيْرُ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» .
وإنَّ مما يزيد الأمرَ عِلّةً والطين بِلّة أن يراها بعض الناس بسَبب تفشِّيها مسوغًا للّجوء إليها وممارستها في كلِّ نواحي الحياة كيفَما اتَّفق، في حِينِ أنَّ حقيقتَها حالةٌ منَ الإفلاسِ تعترِي أصحابَها، كما أنَّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ ليست مسوغًا للّجوء إلى الواسطة التي تُؤدِّي بصاحبها إلى هضمِ حقوق الغير وحرمانهم ممّا هم أهلٌ له قبلَه.
عباد الله .. إن آفة الواسطة والمحسوبية لفساد إداري واجتماعي من الطراز الأول، وقد جاء الشرع بقطعها وحسم مادتها.
تأملوا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} .
أمر عباده المؤمنين بالعدل أبدًا، وإقامة الشهادة حقًا وصدقًا، ولو كانت على والد أو قريب أو حبيب، بل ولو كانت على النفس !
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، سَلِينِي بِمَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا» .
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء أهله وعشيرته، ولو كانت الواسطة مشروعة لكان أحق الناس بها قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله .. إن مما لا ريب فيه أن تفشيَ مثلِ تِلكم الآفة في مجتمعٍ مَا لن يدعَ له في نهوضِه حَلاًّ ولا عَقدًا ولا أثَرًا لكفَاءاته في منافعه العامّة، وإنما تكون خاضعةً للمصالح الشخصيّة والعلاقات المنفعيّة؛ ليجلبَ المجتمعُ على نفسه غائلةَ الفاقةِ والتخلّف، ويذكيَ في أوساطه شررَ الحسد والتباغض والتغابن، فتنقلب المعايير إلى مَبدأ المصالح الشخصيّة .
ومن الآثار الوخيمة لتلك الآفة ظهور الطبقية في المجتمعات، حتى ليبغي القوي على الضعيف، والغني على الفقير، وذووا الجاه والمناصب على من دونهم .. وهذا لعمر الله من أسباب الفتنة، وموارد الهلاك .
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " وفي رواية: فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟!"، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
وحين يتخلص المجتمع من هذه الآفة ويحقق العدل، يحصل التوازن والاستقرار فيه، ويسوده الاحترام والتقدير، فتقوم سوق المنافسة الشريفة، ويعم الخير، ويعظم الإنتاج، ويستوي الناس، فلا تفاضل بينهم في مصالح الدنيا إلا بالكفاءة والأهلية، كما أنه لا تفاضل بينهم في الآخرة إلا بالتقوى والعمل الصالح.
نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على أمره، و{توبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} .
عباد الله .. إننا حين نتحدث عن الواسطة وخطرها وأثرها، نتحدث عنها على الوجه الواقع المنتشر في المجتمعات، ولا نعني بذلكم الشفاعة المحمودة التي ندب الشرع إليها، وأثاب عليها .. ذلكم أن الشفاعة المحمودة لا بخس فيها لحقوق الناس، وليس فيها إحقاقٌ لباطل أو إبطالٌ لحق كما في الشفاعة المذمومة، بل هي شفاعة لوجه الله، لا معاوضة فيها، قائمة على الإرفاق والإصلاح والتعاون على البر والتقوى.. يعان بها الضعيف، وتدفع بها حاجة الملهوف، ويُعَرَّفُ بها الغريب، ويصلح بها بين المتخاصمين، وترد بها مظلمة العاجز .. من غير ضرر ولا ضرار، ولا تعدٍ ولا إجبار، يؤجر فيها الشافع وإن لم يتحقق ما شفع فيه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشفَعوا تؤجَروا، ويقضي الله على لسانِ رسولِه ما يشاء". رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث الآخر: "والله في عونِ العبد ما كان العبد في عون أخيه". رواه مسلم.
والله جل وعلا جعل الشفاعة شفاعتين، فمدح الشفاعة الحسنة، وهي الشفاعة بحق، فقال {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}، وذم الشفاعة السيئة التي تقتضي التعدي والظلم وحرمان الحقوق، فقال: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، والكفل هو النصيب من الإثم، وقد فسرت الآية بأنها فيمن سن سنة سيئة، فكل من شفع لغيره شفاعة بغير حق، يعلم أنه ليس بأهل، أو أن غيره أحق منه، فأبطل حقا من حقوق الناس بالواسطة، أو تعدى عليهم، فعليه إثمه وإثم ما يحصل بسبب تقصيره إلى يوم القيامة .
فاتقوا الله عباد الله .. واستقيموا على أمر الله، وأصلحوا ما ترونه أو تعلمونه من تلك الآفات ما استطعتم، ولا يحولن بينكم وبين الإصلاح والإنكار كثرة الفساد وانتشاره، فإن الله سائلكم، ومجازيكم بأعمالكم، و{الله أعلم بالظالمين} .
ألا وصلوا وسلموا ..
المرفقات
آفة الواسطة.doc
آفة الواسطة.doc