آفات اللسان الغيبة

خطبة آفات اللسان "الغيبة"

 

إن من مسلمات الشريعة الإسلامية السمحة، دعوتها لإكرام المسلم ظاهراً وباطناً، فشرعت من الشرائعما يجلب للعبد سلامة القلب، ونقاء المشاعر، وعفة السر واللسان، فهو دين حق تتلاقى فيه أحكام الشرائعمع نزاهة المشاعر وتتوازن فيه الأوامر مع الزواجر، فينشأ كلُ مسلم محفوظ الحرمة، مصون الحضوروالغيبة، لا يؤخذ بالظِنّة ولا يتبع له عورة.

عباد الله:

وللحفاظ على حرمة المسلم فقد وقف ديننا موقفاً حازماً، حاسماً، لكبيرة من كبائر الذنوب وحالقة منحالقات الدين يشترك في ذلك فاعلها والراضي بسماعها فشوها في المجتمع مظهر من مظاهر الخلل،وقلة الورع، وضعف الديانة.

ألا وهي الغيبة وهي ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره. قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوااجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّأَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:12} .

عباد الله: أسماء ثلاثة كلها في كتاب الله عز وجل الغيبة والإفك والبهتان فإن كان في أخيك ما تقول فهيالغيبة، وإن قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وهنا تعرف خطأ ناقل الأخبار بلا تثبت، يذم المسلمين ويدخلفي نيتهم وكي يرضي نفسه وغرورها يقول كما وصلني، يا سبحان الله من ألزمك بهذا ألم تسمع بالحديثالذي رواه أبو هريرة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع". رواه أبو داود والحاكم وهو في السلسلة الصحيحة للألباني.

وإن لم يكن في أخيك ما تقول فقد بهته فهو يرميه بتهمة لم تثبت عنه، والله جل وعلا يقول: [وَمَنْ يَكْسِبْخَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {النساء:112} .

عباد الله :

الغيبة تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام، أو بغمز، أو إشارة أو كتابة، وإن القلم لأحداللسانين.

والغيبة تكون في انتقاص الرجل في دينه وخُلقه وخلقه وفي حسبه ونسبه ومن عاب صنعة فإنما عابصانعها.

عبد الله:

أرجو أن ترهف أذنك لسماع هذا الحديث فالمتكلم والمتوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطقعن الهوى.

عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر من آمن بلسانهولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتتبع عوراتهم يَتَّبِع الله عورته ومنيَتَّبِع الله عورته يفضحه في بيته". رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وصححه الألباني في المشكاة

يا أيها المسلم كلنا يعلم عظيم ستر الله علينا فكم ستر من قبيح وأظهر من جميل فهو الستير فلو تجرأتعلى مسلم بالغيبة تتبع الله عورتك وفضحك.

والله إنه لحديث تخلع منه القلوب ولو لم يرد في تحريم الغيبة غيره لكفى.

فقف مع نفسك وراقب لسانك فيقول ابن مسعود رضي الله عنه "ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلىطول سجن من لسان".

يا لها من صدمة كبيرة حين تبحث عن حسناتك يوم القيامة فتجدها في حساب من لا تحب".

لأن المغتاب في العادة يغتاب من لا يحب يقول ابن المبارك: "لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والديَّ لأنهما أحقبحسناتي".

وجاء حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا نبيالله قال: فأخذ بلسانه قال: "كف عليك هذا فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: ثكلتك أمكيا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".

عباد الله:

لقد عظم السلف الكرام الغيبة وأمرها فخافوا على أنفسهم منها فهذا ابن الجوزي يقول: "كم أفسدتالغيبة من أعمال الصالحين وكم أحبطت من أجور العاملين، وكم جلبت من سخط رب العالمين فالغيبةفاكهة الأرذلين وسلاح العاجزين".

وهذه عائشة تقول لرسوله صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصيرة فقال عليه السلام:"لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".

يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة ولكن فيالكف عن أعراض الناس.

وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله يقول: ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام.

وهذا ابن دقيق العبد رحمه الله يقول: لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي اللهتعالى".

وجاء رجل للحسن البصري فقال له: "بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أُحكمك فيحسناتي".

وقيل للحسن البصري فلان يغتابك فقال: مرحباً بحسنة لم أعملها، ولم أتعب فيها، ولم يدخلها رياء ولاسمعة".

فيا عجباً لمن ينتسب لأهل الحق والإيمان، كيف يركب مركب الغيبة، وقد علم تحريمها في الكتاب والسنةوإجماع الأمة، وشؤمها يوم الوقوف بين يدي الله، ولكن المبتلى بالغيبة، ذو قلب متقلب، وفؤاد مظلم، انطوىعلى بغض الخلق، وكراهية الخير لا يعنيه نفع نفسه بقدر ما يعنيه ضرر غيره، راحته وهناؤه أن يرىالنعمة عن غيره زائلة، والمحنة فيه واقعة، قلبه مؤتفك مريض، يحسد في السراء ويشمت في الضراء، علىالهم مقيم وللحقد ملازم، تسوءه الحسرة وتسره المساءة غل وحقد وضغينة، يا عجباً أهكذا ينطوي في قلبمسلم على أخيه، ورسولنا عليه السلام يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" .

ولذا تراه ذلق اللسان، صفيق الوجه، لا يحجزه عن الغيبة إيمان، ولا تحفظ المكارم له مروءة، كثير الكلامفي أعراض المسلمين والمسلمات، بل يدخل في نيات ومقاصد المسلمين وتفسير أقوالهم تعسفاً على مايريد يا سبحان الله لا يعلم مكنون النفوس إلا رب العالمين.

وأشأم الغيبة وأغلظها ما عظم فساده كغيبة ولاة أمر المسلمين وأهل العلم والفضل

ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته.

بهذا يجترأون على ولاة أمر المسلمين والعلماء والدعاة والصالحين فيحطون من أقدارهم، ويتجرأون علىمقامهم وصدق الله [حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ] {البقرة:109} ، قيل للشيخ ابن باز رحمه الله أيام عيشةفي المدينة الناس يكثرون في حلق غيرك قال طاهر القلب نقي السريرة فيما نحسب ولا نزكي على اللهأحداً يا ابني [ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] {الجمعة:4} .

يقعون في الصالحين، ويبعثون الفتن ويزرعون الإحن ويُلَبِسُونَ على العامة، فيقطعون الصلات ويفرقونالجماعات، فاللهم من أراد تفريق اجتماعنا فشتت شمله واجعل كيده في نحره، وفي أشكال بنالمهاجرين والأنصار تداعى المهاجرون يا للمهاجرين وتداعي الأنصار يا للأنصار فغضب رسول الله وقالأبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم

العلماء المصلحون والدعاة الصادقون يحملون هم الأمة واستمع للإمام النخعي الذي كان أعور العينوكان معه تلميذه سليمان بن مهران أعمش العين (ضعيف البصر) لما كانا يسيران في أحد طرقات الكوفةيريدان الجامع.

قال الإمام النخعي يا سليمان، هل لك أن تأخذ طريقاً وآخذ آخر فإني أخشى إن مررنا سوياً بسفهائنايقولون أعور ويقود أعمش فيغتابوننا فيأثمون، فقال الأعمش يا أبا عمران، وما عليك في أن نؤجر ويأثمونفقال الإمام إبراهيم النخعي: يا سبحان الله! بل نسلم ويسلمون خير من أن نؤجر ويأثمون، ما أعظمصفاء قلوبهم وهذه صفة أهل الإيمان سلك الله بي ولكن سبيلهم.

[وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْفِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}

الخطبة الثانية

 

 

 

.

المسلم الصادق الذي يحافظ على أعماله وحسناته أشد من محافظته على أمواله.

فأعظم الحسرات يوم القيامة أن ترى حسناتك في ميزان غيرك.

فإياكم والغيبة وسائر آفات اللسان وتذكر على الدوام حديث ثكلت أمك يا معاذ ويشتد الأمر إذا كانتالغيبة تشيع الفوضى بين المسلمين كالتزهيد في ولاة أمر المسلمين أو العلماء أو الدعاة الصادقين.

وإياك أن تتكلم في أعراض الناس أو تدخل في نياتهم واحرص دوماً على السلامة فليس بالضرورة أنيكون لك في كل مسألة رأياً ورضي الله عن الصحابة إذا جاء الإشكال اجتمع له أهل الحل والعقد وليعلمأن الغيبة تجوز إذا دعت الحاجة إلى ذلك كمن يستشيرك في زواج أو مشاركة أو التظلم، والاستعانة علىتغيير المنكر أو الفتوى أو تخدير المسلمين من شر كجرح الرواة والشهود المجروحين.

أو أن تكون مجاهراً بفسق أو بدعة، أو من باب التعريف به كأن يكون معروفاً بلقب كالأعمش أو غيره.

عباد الله:

عند قص القصص إن كان فيها ما يسيء لأحد بالقصةِ وأعرضْ عن صاحبِها تحصل الفائدة وتبتعد عنالحرام.

اللهم احفظ ألسنتنا

المشاهدات 545 | التعليقات 0