عناصر الخطبة
1/ المواعظ نعمة من الله 2/ موعظة العرض على الله وأهوال يوم القيامة 3/ التحذير من الذنوب والتوبة منهااقتباس
ذلك اليوم الجليل خطبه، العظيم خطره، بل هو اليومُ الذي ليس قبلَه مثلَه ولا بعده مثله، فكلُّ ما فيه ظاهر ومنكشف. كلُّ الأمور تظهر على حقائقها، فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا محاباة ولا مصالح ولا وجاهة. إنه اليوم الذي تُرجع فيه النفوس إلى بارئها وخالقها، فيحاسب فيه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعِينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
معاشر المؤمنين والمؤمنات: يقول ربنا -جل وعلا-: (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فالمواعظ من العلي القدير نعمة ورحمة، يهدي بها -سبحانه- من الضلال، ويرحم بها من العذاب، فهو سبحانه وتعالى يعظ عباده، ويَقرع قلوبهم بالمواعظ، علها تعود وتُنيبُ إلى الله علامِ الغيوب.
ومن هذه المواعظِ التي جاء ذكرها في كتاب ربنا -تبارك وتعالى-، موعظة، آية، تذكرة، تذكرنا بيوم العرض على الله -سبحانه-، والوقوفِ بين يديه: يقول رب العزة -جل وعلا-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) [الحاقة: 18]، إنه يومُ العرض على الله -عز وجل-، ذلك اليوم الذي يُظهِر الله فيه كلَّ شيء فلا تخفى عليه خافية.
ذلك اليوم الجليل خطبه، العظيم خطره، بل هو اليومُ الذي ليس قبلَه مثلَه ولا بعده مثله، فكلُّ ما فيه ظاهر ومنكشف. كلُّ الأمور تظهر على حقائقها، فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا محاباة ولا مصالح ولا وجاهة.
إنه اليوم الذي تُرجع فيه النفوس إلى بارئها وخالقها، فيحاسب فيه كل نفس على أعمالها وأفعالها: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7 - 8].
إنه اليوم الذي كتب الله -عز وجل- على كل ضعيف وقوي، كلِّ فقير وغني أن يُقاد إليه عزيزا أو ذليلا، كريما أو مهانا، كتب الله -عز وجل- أن تصير الخلائق إليه في ذلك اليوم المشهود، واللقاء الموعود: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) [النمل: 87] أي: صاغرين مطيعين، لا يتخلف أحد عن أمره.
فيجمع الله الأوَّلين والآخرين: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة: 49 - 50].
وتُنْشَر الكتب: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) [الكهف: 49].
وتُنْصَب الموازين لمحكمة إله الأولين والآخرين: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
إنه اليوم الذي تُجمع فيه الخلائق من أولها إلى آخرها بين يدي رب العالمين في موقف واحد، فتتبدد الأوهام والأحلام، وتُنسى الشهوات والمغريات، وتزول المصالح والحسابات، ويتخلى فيه القريب عن قريبه، و (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 - 37].
ويعاين فيه العبد الحقائقَ أمام عينيه!
نعم سيعاين كل واحد منا ماذا جنت يداه!
سيعاين كل عبد وكل أمة!
سيعاين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل!
سيعاين الذين يعتدون ويخوضون في أعراض ومصالح المستضعفين وأموالهم بغير حق!
سيعاين كل من غره المال والأعوان والأولاد، وغرهم الجاه والمنصب والسلطان!
سيعاين الجميع الحقائقَ أمام أعينيهم يوم يخرجون من هذه الدنيا وقد سقطت الأقنعة المزيفة، وانفض الأهل والأعوان، وزال المال والجاه والسلطان، قال ربنا: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) [الأنعام: 94].
لقد جئت -أيها العبد- كما خلقك الله أول مرة حافيا عاريا، فأين الحرير واللباس؟ وأين الشدة والبأس؟ وأين المال والجاه؟
لقد انكسر العباد لرب العباد لكي يَفصل بينهم في يوم التناد، في يوم تتغيّر فيه ألوان الناس: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 106]، وينادي مناد الله: لكل عبد ما جنت يداه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران: 30].
إنه يوم يُدعى فيه عبد من العباد على رؤوس الأشهاد: فلان ابن فلان.
فتمثل نفسك -أيها العبد- في ذلك الموقف وأنت المنادى عليك، فتقف -أيها العبد- بين يدي الله، والشهود حاضرة، والأبصار شاخصة، تقف حسيرا كسيرا، أسيرا ذليلا، حافيا عاريا بين يدي جبار السموات والأرض، لكي يسألَك ويحاسبَك ويجازيك؛ ففي الحديث الصحيح: أن رجلا سأل ابنَ عمر: كيف سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: "يدنو أحدُكم من ربه حتى يضعَ كَنَفَه عليه، فيقولُ: عمِلت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عمِلتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقررُه ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم".
وفي الحديث الموقوف عن أبي هريرة: "يُدني الله -تعالى- العبد منه يوم القيامة، فيضع عليه كنفه ويسترُه من الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول له: اقرأ يا ابن آدم كتابك، فيقرأ، فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه، ويُسر بها قلبُه، فيقول الله -عز وجل-: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: إني تقبلتها منك، فيسجد ذلك العبد، فيقول الله: ارفع رأسك، وعد في قراءتك، فيمر بالسيئة فيَسوَد لها وجهه، ويَوْجَلُ منها قلبُه، وترتعد منها فرائصُه ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره، فيقول الله: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: إني أعْرَفُ بها منك، قد غفرتها لك، فيسجد ذلك العبد، فلا يزال حسنة تُقبل فيسجد، وسيئة تُغفر فيسجد، فلا يرى الخلائق منه إلا السجود، حتى ينادي الخلائق بعضُها بعضا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين الله".
فيقول أرحم الراحمين: خذوا عبدي إلى جنات النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم، فيُعطى كتابه بيمينه، فينطلق بين الصفوف ضاحكا مسرورا، ويصيح أمام العالمين: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 19 - 24].
فيقول الناس: فاز فلان وأفلح!
اللهم اجلنا من الفائزين برحمتك يا أرحم الرحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ثم ينادي المنادي: فلان ابن فلان أنْ قُمْ إلى العرض بين يدي الله!
فيقف بين يدي الله فلا يجد ما يعتذر به أمام ربه، ولا يجد حجة ولا وسيلة تنفعه وتنجيه.
ما عذرك -أيها العبد- بماذا تجيب ربك وهو يسألك ليس بينك وبينه ترجمان؟ ما حجتك في مبارزة الله بالمعاصي؟ ألك عذر تعتذر به؟
ما عذرك -أيها العبد- عن نهارٍ أضعته في طاعة الله، وعن ليلٍ طالما قضيته في معصية الله، فقد لقيت الله محاربا، وعلى المعاصي مصرا، فكم من نهار اقترفت فيه من السيئات؟ وكم من ليلة بتها على فواحش المنكرات والمحرمات؟ فأي منفعة قدمتها؟ وأي حسنة ترجوها؟ ما عذرك؟ ما حجتك؟
فلا يجد ما يعتذر به، ولا يجد حجة ولا وسيلة تنفعه وتنجيه.
فيشتد غضب الجبار -جل جلاله- عليه، يشتد غضب الله على من خَلَقَهُ فعبد غيره، وعلى من رزقه فشكر غيره، يشتد غضب الله على من أسبغ عليه النعم ثم عصاه.
ثم يخرج تقوده الزبانية مقيدا بالسلاسل والحديد، يسوقونه على وجهه وهو يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 25 - 29].
جزاؤه: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30 - 32].
ما جريمته؟ (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة: 33 - 34].
مصيره: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) [الحاقة: 35 - 37].
فهل ستحاسب نفسك -أيها العبد- قبل أن تحاسب؟ وهل ستزن أعمالك قبل أن توزن عليك؟
يا من تتباهى بذنوبك في الدنيا: اعلم أن الله يسجلها عليك حتى الكلمة التي تستهين بها قد توردك النار سبعين خريفا!
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم