عناصر الخطبة
1/ مفارقة الميت لكل الدنيا سوى عمله 2/ تعريف المحتضر بمصيره حسب عمله 3/ تجسّدُ عملِ الميتِ وملازمته إياه 4/ أمور أربعة جالبة لسعادة الآخرةاقتباس
فَمَا أعجبَ هذه الحياةَ الدنيا! وما أعْجَبَ حالَنا مَعها حَيْثُ يَتَوَلَّى دفْنَنا أحبُ الناسِ إلينا بِأيدِيهِم ويُبْعِدُوننا عنهم! ولو أنهم أُعْطُوا مالاً كَثيراً على أن تَبْقَى أجْسادُنا بينهم ما رَضُوا!.
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله -تعالى-, واستعِدُّوا قَبْلَ الموتِ لِما بَعْدَ المَوْت, واجْعَلُوا ذلِكَ هَمَّكُمُ الأكْبر, فَلا تَغْفلُوا عن ذلكَ, ولا تَجْعَلُوا شيئاً مِنْ أُمُورِ الدُّنيا لاهياً لكم عن ذلكَ حتى لَوْ كانَ أَقْرَبَ قَرِيب، حَتى لو كانَ زَوجَةً أو أهلاً أو مالاً؛ فإِنَّ آخِرَ عَهْدِ هؤُلاءِ مَعَك, عِنْدَما يُهالُ علَيكَ التراب, فَلا يَبْقَى مَعَكَ إلا ما عَمِلْتَ مِنْ خيرٍ وَشَر.
لقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ, فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ. يَتْبَعُهُ: أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ". أيْ: يَتْبَعُ المَيِّتَ إلى قَبْرِه هؤلاءِ الثلاثة, فَيَرْجِعُ اِثْنَانِ إِلَى مَكَانِهِمَا وَيَتْرُكَانِهِ وَحْدَهُ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، يرْجِعُ الأهلُ والأقربون، والأصحابُ والبنون والأحبابُ، وترجِعُ الأموالُ والمراكبُ والمناظرُ الجَميلَة، ويَبْقى العَمَل, سواءً كانَ صالِحاً أو سيِّئا, فَهُوَ الذي لا يَنْفَكُّ عنه, بل يُلازِمُه في قَبْرِه.
وَيَتَمَثُّلُ عمله الصالح له على هَيْئَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ، حَسَنِ الثِّيَابِ، طَيِّبِ الرِّيحِ، كما أخبَرَ بِذلِكَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-, "فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ؛ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَد، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ, فَيَقُول: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ".
وأمَّا الكافِر والمنافقُ والمْرْتابُ فَيأتيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ, هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَد، "فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فيقول: أَنَا عَمَلُكَ الخَبيث".
وهذا هُوَ الذي يَجْعَلُ المَيِّتَ يَتَكَلَم وهُوَ عَلى أَكْتافِ الرجالِ عَلَى النَّعْش, كَما أَخْبَرَ بِذلِكَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِه: "إذا وُضِعَت الجَنازَة فاحْتَمَلَها الرِّجالُ على أعْناقِهِم, فإنْ كانت صالحة, قالت: قَدِّمُوني قَدِّمُوني, وإِنْ كانت غَيْرَ صالِحة, قالت: يا وَيْلَها! أيْنَ يَذْهَبونَ بها؟ يَسْمَعُ صوتَها كُلُّ شيءِ إلا الإنسان, وَلَوْ سَمِعها الإْنسانُ لَصَعِق".
فَمَا أعجبَ هذه الحياةَ الدنيا! وما أعْجَبَ حالَنا مَعها حَيْثُ يَتَوَلَّى دفْنَنا أحبُ الناسِ إلينا بِأيدِيهِم ويُبْعِدُوننا عنهم! ولو أنهم أُعْطُوا مالاً كَثيراً على أن تَبْقَى أجْسادُنا بينهم ما رَضُوا!.
ولَيْتَ الأمرَ يَقْتَصِرُ على حالِهِم مَعَنا في الدنيا, بَلْ حتى يومَ القِيامَة, يَفِرُّ المَرءُ مِنْ أَحَبِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ إليه, (مِنْ أخيهِ * وأُمِّهِ وأَبيهِ * وصاحِبَتِهِ وبَنيه) [عبس:34-36]. كُلُّ يقولُ: نَفسي نفسي!.
يُرْوَى عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- أَنّهُ قال: "ألا أُحدثكم بيومينِ وليلتينِ لَمْ تَسْمَعِ الخلائقُ بمثلهما؟ أولُ يومٍ يجيئُكَ البشيرُ مِنَ اللهِ إما برضاه وإما بسخطِهِ، ويومٌ تُعرضُ فيه على ربِّكَ آخذاً كتابكَ إما بيمينكَ وإما بشمالكَ، وليلةٌ تستأنفُ فيها المبيتَ في القبرِ, لم تَبِتْ ليلةً قبلها مِثْلَها، وليلةٌ صبيحتُها يومُ القيامة ليس بعدها ليلة".
فيَتَبَيَّنُ مِنْ هذا كُلِّه, أنَّ الإنسانَ في هذه الدنيا, له ثلاثَةُ أصحاب, فالصاحبُ الأوَّلُ: أَهْلُه, وَلا بُدَّ أنْ يُفارِقَهُم, ولِكِنْ إذا كانَ مَعَهُم في الدنيا على الإيمان, جَمَعَهُم اللهُ بِهِ في الجنة. والصاحبُ الثاني: هو المال, ولَيْسَ لهُ مِنْهُ إلا ما أَكَلَ فأفْنَى أَوْ لَبِسَ فأَبْلَى, أو قَدَّمَ لِنْفْسِهِ مِنَ الإنفاقِ فيما يُحِبُّهُ الله. والصاحبُ الثالِثُ: هو العَمَل.
فاحْرصْ -أيها المؤمن- على أَنْ تَبيعَ دُنياكَ بآخرتِكَ، وأنْ تُقدِّمَ لنفسِكَ توبةً نَصُوحاً وعَمَلاً صالِحاً يَكُونُ سَبباً لِنَجاتِك قَبْلَ مَماتِك.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَأسْتَغْفرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً.
أَمّا بَعدُ: عباد الله، المؤمنُ الناصِحُ لِنَفسِه, إذا كانَ حَريصاً على نجاتِه وسعادَتِه بعدَ الموت, لا بد وأن يَسْتَعِدَّ لذلك بالنَّظَرِ إلى أربعةِ أمور:
أولها: أداءُ الفرائض وعَدَمُ التهاوُنِ فيها.
الثاني: تَرْكُ المُحرمات, فإن الجنةَ حُفَّت بالمَكارِه, والنارَ حُفَّت بالشهوات.
الثالث: حُقُوقُ العِباد, والمَظالِمُ, والدُّيُون, فإنَّ هذه الحُقُوق لا تُتْرَك.
الرابع: شْكُرُ النِعَم, والاستعانةُ بها على طاعةِ الله, فإنَّ اللهَ -تعالى- لا بد وأن يسألَ عِبادَه عَنِ النِّعَم التي مَنَّ اللهُ بها عليهم, وعَنْ شُكْرِها, كما قالَ -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعيم) [التكاثر:8].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم آتِ نفُوسنا تقواها، وزكّها أنت خير مَنْ زكَّاها, أنت وليّها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم ألّف بينَ قلوبِ المؤمنين، وأصلحِ ذاتَ بينِهم، واهدِهِم سُبلَ السلام ونجِّهم من الظلمات إلى النور، وانصرهم على عدوّك وعدوِّهم يا قوي يا عزيز.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، ووسع مدخلهم، وأكرم نزلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقّهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيِ بلدك الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد، والعباد وتعُمّ به الحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم