عناصر الخطبة
1/اهتمام القرآن بتربية الأسرة المسلمة 2/سورة التحريم من السور التي اهتمت بشؤون الأسرة 3/وقفات تربوية أسرية من سورة التحريم.اقتباس
وقد ذكر الله -تعالى- صفات المرأة الصالحة في هذه السورة، وهي المرأة المسلمة في الظاهر، المؤمنة في الباطن، القانتة الخاشعة المتذللة لله ولزوجها، المجددة التوبة، العابدة لله في كل أمرها، السائحة المكثرة من الصيام...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الْـحَمْد لِلَّـهِ نَحْمَدُه، وَنَسْتَعِينُه، وَنَسْتَغْفِرُه، ونعوذُ بِاَللَّـهِ مَن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنّ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِه اللَّـهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنّ يُضْلِل فَلا هَادِي لَه، وَأَشْهَدُ أن لا إلَه إلَّا اللَّـهُ وَحَدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأَشْهَدُ أن محمداً عبدُهُ ورسوُلُه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْـحَدِيثِ كِتَابُ اللـهِ، وَخَيْرَ الْـهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.
أما بعد: فإن مدرسة القرآن الكريم لا تنضب فوائدها، ولا تنقضي عجائبها، ولا تخلَق على كثرة التكرار، في جميع جوانب حياة المسلم العلمية والعملية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والنفسية، فهنيئًا لمن رزقه الله فهمًا في كتاب الله، قال -سبحانه-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
ومن أهم أركان المجتمع المسلم الأسرة المسلمة؛ إذ بالبيت الصالح ينشأ الجيل الصالح، وقد تناول القرآن الكريم الأسر المسلمة في سورٍ عدة، كسورة النساء وسورة الطلاق وسورة النور، ولكن هناك سورة من القرآن الكريم تناولت شؤون خير بيتٍ على الأرض، وهو بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي سورة التحريم، وجَّهت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يدير بيته، ووجَّهت المسلمين في كيفية التعامل مع أسرهم، فلنقف مع هذه السورة الكريمة بعض الوقفات:
الوقفة الأولى: أن هذه السورة سُمِّيت بسورة التحريم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرَّم على نفسه شيئًا لم يكن له أن يحرِّمه، ولم يأذن الله له في تحريمه، فعاتب الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- في بداية السورة، وقال له -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)[التحريم: 1، 2]، فتبيَّن أن سبب التحريم هو إرضاء أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا قد يقع المسلم في مخالفة أمر الله بسبب أزواجه وأولاده، فلنكن حذرين من أن نقع فيما حرَّم الله بسبب رغبات الأهل، فقد بيَّن لنا القرآن أن تلك عداوة لله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)[التغابن: 14]، فأمر الله مقدَّم رضي الأهل أم لم يرضوا.
وقد كان بعض الصحابة يتخلف عن الغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبب أهله، فنزلت الآية، وقال -سبحانه-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[التغابن: 15]، وحتى يكون المسلم في نجاةٍ من هذه الفتنة عليه أن يربي أهله وأبناءه وبناته على الخير والصلاح، فيكونون خير معينٍ له على الخير ومذكِّرٍ له إذا نسي، قال -سبحانه- في صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74].
الوقفة الثانية: أن سبب التحريم في السورة هو الغيرة بين نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والغيرة فطرة في النساء غالبًا، وقد تصل إلى المعصية والجريمة، وإذا كان خير نساء الدنيا أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقعت بينهنَّ الغيرة، فغيرهنَّ من النساء من باب أولى، وقد روى أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: "غارت أُمُّكم"، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت، وواجب الزوج هنا التعامل الذكي مع الغيرة، بحيث يخفِّفها ولا يسمح لها بالتجاوز الشرعي.
الوقفة الثالثة: يجب على الزوجين حفظ أسرار بعضهما، فإنها من الأمانة، وقد أمر الله -تعالى- بحفظ الأسرار، خصوصًا أسرار الزوجين أمرًا عامًّا وخاصًّا، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27]، وقال -عز وجل-: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هو مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)[التحريم: 3 - 4]، فأوجب الله -تعالى- على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة من إفشاء سر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأكَّد النبي ذلك بقوله: "إن من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة، والمرأة تفضي إلى الرجل، ثم ينشر سرَّها"(رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-).
فالله اللهَ في حفظ سر الزوجة أن يذاع بلا إذنها لأمك أو أختك أو قريبك، فإن ذلك قد يدمِّر بيوتًا، والأمر آكد بالنسبة للزوجة، فإن كثيرًا من الزوجات لا يملكنَ ألسنتهنَّ، فينقلنَ أسرار بيوتهن من غير قصد إلى الصديقة الأمينة وغيرها؛ لذا يجب على الرجل أن يكون حذرًا من إذاعة كل ما يدور في بيته.
الوقفة الرابعة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا متاع، وخيرُ متاعها المرأة الصالحة"(رواه مسلم)، وقد ذكر الله -تعالى- صفات المرأة الصالحة في هذه السورة، وهي المرأة المسلمة في الظاهر، المؤمنة في الباطن، القانتة الخاشعة المتذللة لله ولزوجها، المجددة التوبة، العابدة لله في كل أمرها، السائحة المكثرة من الصيام.
الوقفة الخامسة: يحرص المسلم على وقاية نفسه وأهله من النار والمعاصي، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
والوقاية تكون بإبعادهم عن وسائل الحرام، وسد ذرائع الفساد في البيت، فإن المسلم المتقي لله لا يترك الحبل على الغارب للأولاد والبنات يسرحون ويمرحون بلا رقيب ولا حسيب، يشاهدون الأفلام الهابطة، ويصاحبون رفقاء السوء، ويشترون ما هب ودبَّ، لا أحد يعرف شيئًا عن خصوصياتهم وربما عمومياتهم، يظن الأب أنه بذلك يُشعرهم بالمسؤولية، ويُورثهم الثقة، وذلك عين الإهمال والتخلي عن المسؤولية، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"(متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفِظ أم ضيَّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته"(رواه النسائي وابن حبان).
الخطبة الثانية:
الحمد لله؛ (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3]، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ"، وقال -صلى الله عليه وسلم--: "أولى الناسِ بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليّ صلاةً".
أما بعد: ففي آخر السورة ضرب الله -تعالى- لنا مثلين من خير النساء، وشر النساء، فخير النساء آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران -رضي الله عنهما-، وشر النساء امرأة نوح وامرأة لوط، فآسية تمسكت بدينها في بيئة مشركة تصد عن سبيل الله، فجاهدت في سبيل الله وصبَرت واحتسبت، ولم تغترَّ بزينة الدنيا وملك فرعون الكبير، فاختارت ما عند الله -سبحانه-، ومريم -عليها السلام- وما أدراك ما مريم؟ تشرَّفت باسمها في سورة كاملة من سور القرآن الكريم، عفَّت فقالت للرجل الغريب: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)[مريم: 18]، وصدَّقت بكلمات ربها وكُتبه، فلم تضعف أمام قومها الذين اتَّهموها بالفاحشة، بل أشارت إلى ابنها عيسى -عليه السلام-، فصدَّقته في قوله، وهكذا استحقَّتا مرتبة الكمال البشري، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كمَل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران"(متفق عليه).
يضرب الله -تعالى- لنا الأمثال في القرآن لنعتبر بها، ونحرصَ على أن يكون نساؤنا كخير النساء في جهادهنَّ وصبرهنَّ وإيمانهنَّ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم