عناصر الخطبة
1/ الإسلام بين غربتين 2/ تسلط الأعداء على المسلمين 3/ وجوب تأثر المسلمين بما يصيب إخوانهم المستضعفين 4/ سبب حادثة بئر معونة وملخصها 5/ مقتل عدد من خيار الصحابة الأطهار 6/ حزن النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء بئر معونة 7/ أهمية الدعاء للمستضعفين بالفرج والنجاة.اقتباس
حينما يشاهد المؤمن ما يصيب إخوانه في الدين لا جرم يلحقه من الهم والحزن والغم والكرب ما الله به عليم، حينئذ يتصفح القرآن العظيم متأملاً ما جرى لأولياء الرحمن في سالف الزمان فتقوى عزيمته ويطمئن قلبه، ويحسن ظنه بربه، ويعظم ثباته ويقينه..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد.. معاشر المؤمنين: إن المتأمل في حال كثير من المسلمين اليوم يعلم يقينًا أنهم يعيشون تلك الحقبة، ويقاسون الحالة، ويعانون تلك الأزمة التي عاشها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- في صدر الإسلام الأول؛ حيث عاد الإسلام غريبًا في أنحاء كثيرة من المعمورة كما بدأ الإسلام غريبًا في أول أمره.
ففي الغربة الأولى توافد المشركون على من أسلم من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يعذبونهم ويؤذونهم ويصومنهم سوء العذاب تارة بالضرب وتارة بالجوع، وتارة بالعطش، وتارة بالحبس وتارة بالحصار كل ذلك ليصدوهم عن دينهم الحق (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8]، (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)؛ فكان أمية بن خلف يخرج ببلال -رضي الله عنه- إذا حميت الظهيرة فيضع على صدره صخرة عظيمة، وكان -رضي الله عنه- لا يزيد على أن يقول: "أَحَد أحد"، وألبسوا المستضعفين من المؤمنين دروع الحديد وصهروهم بالشمس والنبي -صلى الله عليه وسلم- يمر بهم وهم يعذبون ولا يملك إلا أن يصبرهم بقوله: "صبرًا فإن موعدكم الجنة".
وذات مرة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوسدًا بردة له في ظل الكعبة أتاه صحابته -رضي الله عنهم-، وقد لقوا من المشركين شدة، فقالوا يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وحينما يرى المؤمن في هذا الزمن تسلط الأعداء من الملاحدة والمجوس والباطنيين والهندوس على الصفوة من المسلمين والدعاة المصلحين؛ حيث يتم إعدامهم جهرة أمام العالمين حتى نصبت أعمدة المشانق في الميادين ليساق إليها الأبرياء من المتقين في غمرة الفرح من الكافرين وعنفوان البهجة لدى المجوس الحاقدين، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
فما الذي يجري لهؤلاء الأصفياء والثلة الحنفاء أمام هذا البلاء فزادهم إيمانًا (وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 146- 147]، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
حينما يشاهد المؤمن ما يصيب إخوانه في الدين لا جرم يلحقه من الهم والحزن والغم والكرب ما الله به عليم، حينئذ يتصفح القرآن العظيم متأملاً ما جرى لأولياء الرحمن في سالف الزمان فتقوى عزيمته ويطمئن قلبه، ويحسن ظنه بربه، ويعظم ثباته ويقينه (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَأ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
وفي السنة الرابعة من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وقعت مأساة فظيعة وملحمة بشعة شنيعة، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
خلاصتها وملخصها أن ثلة من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بلغ عددهم نحوًا من سبعين صحابيًّا عُرِفوا بالزهد والفضل وقراءة القرآن حتى كان الصحابة يسمونهم القُرّاء؛ لكثرة قيامهم بالقرآن آناء الليل وآناء النهار غَدَرَ بهم المشركون عن آخرهم.
وذلك أن رجلاً يقال له أبو براء عامر بن مالك قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فعرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام ودعاه إليه فلم يقبل ولم يبعد من الإسلام، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث معه رجالاً من أصحابه رجاءَ أن يسلم قومه، ويتبع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال للرسول -صلى الله عليه وسلم- أنا جارٌ لهم أن لا يتعرض لهم أحد.
فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه سبعين شابًّا من خيار الصحابة وسادتهم وقراءهم، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فصاروا -رضي الله عنهم- يحتطبون بالنهار يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل حتى نزلوا مكانا يُعرف ببئر معونة، فنزلوا هنالك فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان -رضي الله عنه- بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر عدو الله في الكتاب، وأمر رجلاً فطعن حرامًا بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال -رضي الله عنه-: "الله أكبر فزت ورب الكعبة".
ثم استنفر عدو الله لقومه بني عامر إلى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصي ورعل وركوان فجاءا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقاتلوا حتى قتلوهم عن آخرهم، إلا كعب بن زيد بن النجار، تركوه وبه رمق قد أصابته الجراح، فحمل جريحًا من المعركة، وعاش -رضي الله عنه- حتى قُتل يوم الخندق شهيدًا.
وفي صحيح البخاري أن عدو الله عامر بن الطفيل لما أسر عمرو بن أمية الضمري، أشار إلى أحد القتلى فقال: من هذا؟ فقال له عمرو هذا عامر بن فهيرة، فقال لقد رأيته بعدما قُتِلَ رُفِعَ إلى السماء حتى إني لأنظر السماء بينه وبين الأرض ثم وُضع.
وجاء في رواية أن قاتله أسلم، وقال: دعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فهيرة، هذا ولقد تأثر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- لمقتل هؤلاء الأخيار والثلة الأبرار من الصحابة الأطهار حتى قال أنس -رضي الله عنه-: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد على شيء ما وجد عليهم؛ وذلك أنهم قتلوا غيلة وغدرًا، وكانت عدتهم نحوًا من شهداء أحد سبعين -رضي الله عنهم-".
لذلك دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قاتليهم شهراً كاملاً كما في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه خبر مقتل أصحابه وغدر بني سليم بهم قنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وركوان وعصي وبني لحيان.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو عليهم ويؤمِّن من خلفه". (رواه الإمام أحمد).
قال أنس -رضي الله عنه- أنزل الله على نبيه قرآنًا قرأناه حتى نُسخ بعدُ أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، فترك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قنوته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169- 170].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن ديدن الكافرين وأعداء الدين في كل زمان وحين التربص بالمسلمين، هذا خطهم الأصيل الذي لا ينحرفون عنه كما قال رب العالمين (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [البقرة: 217].
وإن ما يتعرض له المسلمون المستضعفون لهو ابتلاء للأمة جمعاء، كلٌّ على حسب حاله، وأقل الواجب هو الشعور بما يقاسيه إخواننا في الدين في مشارق الأرض ومغاربها، وهو أمر مطلوب متعين وهو من أعمال القلوب ومن مقتضيات الأخوة الإسلامية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد اذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وتألم المسلم لآلام إخوانه عمل صالح يثاب عليه الثواب الجزيل كما قال نبينا الكريم: "ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه" (متفق عليه).
والدعاء للمستضعفين بالفرج والنجاة من أعظم وسائل نصرهم؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو للمستضعفين، ويقول: "اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين".
وعلى الأمة جمعاء لاسيما في ظل هذه الأزمات الخانقة التي تعصف بأمة الإسلام أن تعود إلى ربها وتحاسب نفسها وتصدق في سيرها إلى الله: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98]، (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ) [الأنعام:43]، (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].
هذا واعلموا -رحمكم الله- أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم