عناصر الخطبة
1/ أهمية التوكل على الله 2/ حكم التوكل على الله 3/ المقصود بالتوكل والمتوكل 4/ أقسام التوكل وحكم كل قسم 5/هل الأخذ بالأسباب ينافي التوكل؟ 6/ من قصص المتوكلين 7/ ثمرات التوكل ومنافعهاقتباس
التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإِنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة؛ والإِنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار، والفجار، والطير...
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورًا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عز وجل- فإن من اتقاه كفاه ووقاه، وقربه إليه وأدناه.
أيها المسلمون: أوجب الله -سبحانه- على جميع العباد الدخول في الإِسلام، والتمسك به، والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى ذلك، وأخبر -عز وجل- أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل وغوى.
واعلموا أن كل من سار في هذه الدنيا، ووطأت قدمه الثرى ضعيف يحتاج إلى من يعينه وينصره، ويحتاج إلى من يتوكل عليه، وينصرف بقلبه إليه.
ولهذا كان التوكل على الله، والاعتماد عليه في جلب المنافع، ودفع المضار، وحصول الأرزاق، والنصر على الأعداء، وشفاء المرضى، وغير ذلك، من أهم المهمات وأوجب الواجبات، وهو من صفات المؤمنين، ومن شروط الإِيمان، ومن أسباب قوة القلب ونشاطه وطمأنينة النفس وسكينتها وراحتها.
والآيات في الأمر بوجوب التوكل على الله، والحث عليه في كتاب الله
- عز وجل - كثيرة منها قوله تعالى: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]، وقوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) [آل عمران: 159].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا"[رواه الترمذي].
أيها المسلمون: التوكل: هو التفويض والاعتماد على الله -عز وجل- مع فعل الأسباب المشروعة أو المباحة وهو من عمل القلب، والتوكل فريضة، يجب إخلاصه لله، قال تعالى: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ) لا على غيره، فهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد، وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله، ولذلك أمر الله به في غير آية من كتابه بأن جعله شرطًا والإسلام كما أمر به في قوله تعالى: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ)، وقوله سبحانه: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) [يونس: 84].
فدل على انتفاء الإِيمان والإِسلام بانتفائه.
قال ابن رجب عن المتوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وكلة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإِيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.
إنّ أحداث التوكل في القلب يرجع إلى التأمل في آثار الربوبية.
فكلما كان العبد أكثر تأملاً في ملكوت السموات والأرض كان علمه بأن الله هو ذو الملكوت وأنه هو المتصرف؛ وأن نصره لعبده شيء يسير بالـنسبة إلى ما يجريه الله في ملكوته؛ فيُعظم المؤمن التوكل على الله وأن الله لا يعجزه شيء في السموات والأرض؛ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وينقسم التوكل إلى قسمين:
القسم الأول: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كمن يتوكل على الأموات، أو الغائبين في جلب المنافع ودفع المضار، كشفاء المريض وطلب النصر، فهذا شرك أكبر.
القسم الثاني: التوكل على المخلوق فيما أقدره الله عليه من رزق، أو دفع أذى ونحو ذلك من الاعتماد على الأسباب، فهذا شرك أصغر.
ومن أمثلة هذا النوع: الاعتماد على الطبيب الماهر في حصول الشفاء، والاعتماد على كثرة الجيش وقوته لحصول النصر، واعتماد الطالب على المذاكرة في النجاح، وغير ذلك من الأمثلة التي يكون فيها تعلق القلب على الأسباب تعلقًا تامًا؛ مع الغفلة عن المسُبب وهو الله - سبحانه وتعالى-.
عباد الله: إنَّ الأخذ بالأسباب مع اعتقاد أنَّ المسبِّب هو الله -تعالى- لا يُنافي التوكل، فإمام المتوكلين محمد ؛ كان يأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله -سبحانه-، فكان يأخذ الزاد في السفر، وفي غزوة أحد لبس درعين اثنين، ولما خرج مهاجرًا أخذ من يدُله الطريق ولم ينقص ذلك من توكله.
ويجوز أن يوكِّل شخص غيره بالنيابة عنه في التصرف في أمور دنياه من بيع أو شراء، لكن لا يقول: توكَّلت عليك، بل وكلتك؛ فإنه ولو وكلَّه في البيع والشراء؛ فلا بد أن يتوكلَّ في ذلك على الله وحده.
ويحرم قوله: توكلت على الله ثم عليك؛ لأن المخلوق ليس له نصيب من التوكل؛ فإن التوكل تفويض الأمر والالتجاء بالقلب؛ والمخلوق لا يستحق شيئًا من ذلك.
قال ابن رجب: واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله - سبحانه - المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله - تعالى - أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل - فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب إيمان به، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) [النساء: 71]، وقال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]، وقال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10].
والتوكل من أجمع أنواع العبادة، لذا أمر الله - سبحانه - عباده بالتوكل عليه وحده، وجعله شرطًا في صحة الإيمان، فقال: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
والتوكل على الله - أيها المسلمون - أعم من أن يكون في تحصيل المال، ومصالح الدنيا، بل هناك ما هو أعظم من ذلك وأنفع للعبد.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: إن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه ودينه، وحفظ لسانه وإرادته، وهذا أهم الأمور إليه، ولهذا يُناجي ربه في كل صلاة بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
أيها المسلمون: وصف الله المؤمنين حقًا في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
وصفهم بثلاث صفات تقتضي كمال الإيمان:
الأول: الخوف من الله عند ذكره؛ لما في القلوب من تعظيم الله وإجلاله، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
الثاني: زيادة إيمانهم عند سماع كلام الله، قال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وهذا دليل على أنَّ الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
الثالث: التوكل على الله وحده، وتفويض الأمور إليه مع فعل الأسباب، قال تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
وقد جعل الله -سبحانه- لكل عمل جزاء، وجعل جزاء عبده المتوكل عليه أن يكفيه أمر دينه ودنياه؛ فلا مطمع فيه لعدو، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64] يخبر -سبحانه وتعالى- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه كافيه، وكافٍ اتباعه من المؤمنين إلى يوم القيامة فليكن توكلهم ورغبتهم عليه وحده.
قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما، قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم -عليه السلام - حين القي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له: ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [رواه البخاري والنسائي].
كلمة: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ): هل كلمة التفويض والاعتماد على الله، وهي الكلمة التي تُقال عند الكروب والشدائد، وتدل على التوكل على الله في دفع الأعداء.
ومعنى (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي: كافينا ويتولى أمورنا، فلا نتوكل إلا عليه؛ وهو - سبحانه - نعم الوكيل، فعلى المسلم إذا وقع في كربة وشدة اللجوء إليه والتوكل عليه، وشرع له أن يقول هذه الكلمة العظيمة، والله - سبحانه - قدير، ومجيب، كافٍ من تَوُكل عليه.
هذه الكلمة العظيمة قالها الخليلان إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-.
فإبراهيم -عليه السلام- لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فأبوا، كسر أصنامهم، فجمعوا له حطبًا وأضرموا له نارًا عظيمة، والقوه فيها، فقال: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، فأنجاه الله -سبحانه- لما توكل عليه، وجعل النار بردًا وسلامًا عليه، قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69].
قال بعض السلف: "لو لم يقل: (وسلامًا) لآذاه بردها".
وقالها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما أخذ أبو سفيان يتوعد بالقضاء عليه وعلى أصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم وأصحابه: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فردَّ الله كيد أبي سفيان وألقى الرعب في قلبه، ورجع إلى مكة، وصرف الله - سبحانه - عن المؤمنين كيد عدوهم لما توكلوا عليه وحده.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173- 174].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله توكل عليه المتوكلون، وأناب إليه المنيبون، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو رب العرش الكريم، وأُصلي وأُسلم على المبعوث رحمة للعالمين.
عباد الله: جاء إبراهيم -عليه السلام - بزوجته هاجر وابنها إسماعيل وهو رضيع ووضعهما في مكة، وليس فيها أحد ولا ماء فيها؛ ثم قفى منطلقًا إلى فلسطين فتبعته أم إسماعيل فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيعنا، ثم رجعت فلم يضيعهما الله - تعالى-؛ فأجرى الله ماء زمزم يشرب منه الناس إلى يومنا هذا، ورزقها من الثمرات وأصبحت مكة عامرة بالناس، وبنى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - الكعبة فتأملوا - رحمكم الله - إلى ثمرة توكل أم إسماعيل على ربها، وتفتح الخيرات عليها وعلى من بعدها.
قال ابن القيم - رحمه الله-: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإِنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة؛ والإِنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار، والفجار، والطير، والوحش، والبهائم.
وللتوكل على الله - عز وجل - ثمرات جليلة، ومنافع عظيمة، منها:
نيل محبة الله ورضاه فإن الله -عز وجل- يُحب المتوكلين.
وكذلك نيل معونة الله ونصره وتأييده كما جرى لإِبراهيم -عليه السلام- حينما ألقي في النار.
ومن ثمرات التوكل على الله؛ النجاة من الشدائد والكروب، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36].
ومنها؛ راحة القلب، وانشراح الصدر، فإن من وكل أمره إلى الله - عز وجل - ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وتيسرت أموره.
فاحرصوا على طاعة ربكم، وفوضوا إليه الأمر، وأحسنوا عليه التوكل..
ثم صلوا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم