عناصر الخطبة
1/التوجيهات النبوية هدى ونور في حياة المسلم 2/على المسلم أن يعطي كل ذي حق حقه 3/الوصية بصلة الرحم 4/مضار ومساوئ العصبية القَبلية 5/دين الإسلام دين الطهارة والعفاف 6/المسلم يتورع عن انتهاك الحرمات ويجتنب الشبهات 7/شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته 8/الدال على الخير كفاعله 9/ضرورة الامتثال بخلق النبي صلى الله عليه وسلم 10/المعنى الصحيح للأخذ بالأسباب 11/على المسلم أن يثابر ويصابر لعبادة ربهاقتباس
يحرص المسلمُ على مجاهَدة نفسِه في استباق الخيرات، والمواظَبةِ على النوافل والطاعات، ولا يُبادِر إلى التماس الأعذار، في تَرْك المحاسن والفضائل وكَسْب الحسنات، بل يستعين بالله ويحاول التغلبَ على نفسه ما أمكَن ولا يتعلَّل بما ليس بحجة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلامَ دينًا، وأرسَل لنا خاتمَ أنبيائه ورسله شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنزَل عليه أفضلَ كتبه برهانًا مُبِينًا، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، دعا إلى سبيل ربه، وبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهَد في الله حقَّ جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا بأسباب الفوز في الدنيا والآخرة؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النُّورِ: 52].
عبادَ اللهِ: إنَّ توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم- الرصينة، تضمين لقواعد متينة، وقِيَم عظيمة، في جميع جوانب الحياة، يتبيَّن للمسلم من خلالها المنهجُ الصحيحُ؛ ليكون وفقَ ما أراد الله، ولا يحيد عن هداه، وبها تقوم التصورات، وتُصوَّب الاجتهاداتُ، وتُحلّ المشكلات، فتعالوا أرشدني الله وإياكم لنستعرض جملةً من التوجيهات النبوية السديدة، في قضايا مختلفة عديدة، يستضيء المرء بنورها، ويسترشد بهديها.
عبادَ اللهِ: إن الحقوق في الإسلام مصانة، والمؤمن الحق من يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ مِنْ أجلِ استقرارِ حياتِه، وتحقيقِ التوازنِ المطلوبِ، فلا يَطغى جانبٌ على جانب؛ فلمَّا زَارَ سَلْمَانُ الفارسيُّ أَبَا الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنهما- نصَح له وأرشَدَه بكلمات نافعة في مسيرة حياته فَقَالَ: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، وقد أكَّد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صحةَ ما وجَّه به سلمانُ فقَالَ: "صَدَقَ سَلْمَانُ"؛ فأقرَّه وصدَّقه في كلّ ذلكَ؛ إذ هو توجيهٌ سديدٌ، يدعو إلى التوفيق بين الحقوق والواجبات، وكم حصَل من التقصير والتفريط بسبب مخالَفةِ هذا المبدأِ المهمِّ العظيمِ، وعدمِ العملِ بهذا التوجيه النبوي الكريم.
إخوةَ الإسلامِ: لقد حثَّ الشارعُ على صلة الرحم، وبيَّن ما فيها مِن عظيمِ الأجرِ، ورغَّب في كل وسيلة مشروعة للإحسان إلى الأقربينَ، فلما أَعْتَقَتْ ميمونةُ زوجُ النبي ولِيدَةً لها، وأشْعَرَتِ النبيَّ بعد ذلك، نصَح لها ودلَّها على ما هو أفضل لها وأقرب نفعًا فقال صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إنَّكِ لو أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كانَ أَعْظَمَ لأجْرِكِ"؛ يعني: كان أكثرَ ثَوابًا لكِ مِن إعتاقِها؛ لحاجتِهم إلى من يخدمهم، وفي هذا توجيهٌ إلى مساعَدة ذوي القربى وبِرِّهِم وإيصال ما أمكَن إليهم من الخير، وأَنْ يحرصَ المسلمُ على ما يعود عليه من الأعمال بأكثرِ نفعٍ وأعظمِ أجرٍ.
عبادَ اللهِ: كما جاء الإسلامُ ليقضيَ على كل سُنَن الجاهلية، وكلّ دعوى باطلة لها، ومِن هذه الدعاوى: العَصبيةُ القَبَلِيَّةُ التي بيَّن الشرعُ تحريمَها وذمَّها أشدَّ الذم، قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الْفَتْحِ: 26]، وجعل التقوى هي ميزانُ التفاضل، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، ولَمَّا كان الصحابةُ -رضي الله عنهم- في غزاة كَسَعَ رجلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ، فَقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلْأَنْصَارِ، وقالَ المُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فعابه مستهجنًا له وقال: "مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟ ثُمَّ قَال: مَا شَأْنُهُمْ، فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ صلَّى الله عليه وسلَّم: دَعُوهَا، فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ"؛ إذ يَقبُح بالمرء أن يترفَّع بحَسَبِه ونَسَبِه على أخيه المسلم، وأن يحتقره ويزدريَه.
أيها المسلمون: الدين الإسلامي دعا إلى حماية أعراض الناس وصيانتها، وحرَّم الاعتداءَ عليها بما يتوافَق مع فطرة الغَيرة على العِرْض؛ ومن أجل ذلك أحاط الأسرةَ بسياجٍ حصينٍ، يمنع وقوعَ الرذائل، ويكون وقايةً من الافتتان، كما حذَّر من الوسائل المؤدِّية إلى ذلك، وأعظمُها الخلوةُ بالأجنبية، قال صلى الله عليه وسلم: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"، ومِنَ الناس مَنْ يتساهل في دخول بعض القرابة غير المحارم على النساء، مع تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك بقوله: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ"، فقال رجل من الأنصار: أفرأيتَ الحَمْوَ؟ قال "الحَمْوُ الموتُ"، والحموُ قرابةُ الزوجِ؛ كأخ الزوج وعمه وخاله وغيرهم، وخصَّ (الحمو)لتمكُّنِه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها، من غير أن يُنكَر عليه، بخلاف الأجنبي.
عبادَ اللهِ: الشُّبُهاتُ والتورَّعُ عن الحرام مطلبٌ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْ ما يَريبُكَ إِلَى مَا لَا يَريبُك"، فلما تَزَوَّجَ عقبةُ بنُ حارثةَ أتته امرأة فأخبرَتْه بأنها أرضعَتْه والفتاةَ التي تزوَّج بها، فأنكَر ذلك، ثم سأل أهلَ الفتاة عن صحة وقوع هذا الرضاع فنَفَوْا علمَهم بذلك، فلمَّا سأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يستفتيه في المسألة كان لا بدَّ من جوابٍ حازمٍ حاسمٍ، وعندَئذ قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيفَ وقدْ قيلَ؟!"، فَفَارق عقبةُ التي نكَحَها، ونَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. والشاهد في القصة قوله صلى الله عليه وسلَّم: "كَيْفَ وقَدْ قِيلَ؟!"؛ أي: كَيف تُبقِيها عندَكَ تُباشِرُها وتُعاشِرُها وقد قيل: إنكَ أَخوها مِنَ الرَّضَاعة؟! اتقاءً للشُّبُهات أو لفسادِ النكاحِ، وهذا توجيهٌ عظيمٌ لِمَا ينبغي أن يكون عليه المسلمُ، من الابتعاد عن مَواطِن التباسِ الحلالِ بالحرامِ، واجتنابِ ما لم يتيقَّن حِلَّه، وحَمْلِ نفسِه على الاحتياط في دِينِه، وهذا ما نتعلَّمُه من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في أقلِّ الأشياءِ؛ فعندَما رأى -عليه الصلاة والسلام- تمرةً ملقاةً على الأرض، ولكونه لا تَحِلُّ له الصدقةُ تنزَّه عن الشبهة قائلًا: "لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لَأَكَلْتُهَا".
عبادَ اللهِ: من المتقرِّر شرعًا أن كل إنسان يُجازى بعمله؛ (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)[الْأَنْعَامِ: 164]، فكلُّ نفسٍ مرهونةٌ بما جَنَتْ يداها، ولا يتحمَّل إنسانٌ عقابَ ذنبٍ فعَله غيرُه، ولا يُحاسَب على جُرم ارتكَبَه شخصٌ آخَرُ، وإن كان أقربَ الناسِ إليه، فعندما انطلق أبو رِمْثَةَ معَ أبيه نحوَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أباه: "ابنُكَ هذا؟ قالَ: إِي وربِّ الكعبةِ. قالَ: حقًّا؟ قالَ: أشهَدُ بِهِ، قالَ أبو رِمْثَة: فتبسَّمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ضاحِكًا مِنْ ثَبْتِ شبَهي في أبي، ومِنْ حَلِفِ أبي عليَّ"، فأراد -عليه الصلاة والسلام- أن يتوصَّل من وراء سؤاله إلى تقرير حقيقة ثابتة ومبدأ أصيل، وعندَئذ قال صلى الله عليه وسلم للأب: "أمَا إِنَّهُ لَا يَجني عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عليهِ، وقرأَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الْأَنْعَامِ: 164]"، فقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ"؛ أَيْ: لا تُؤخَذُ بجِنايتِه، ولا تُعاقَبُ بذنْبِه، "ولا تَجْني عليهِ"؛ أي: لا يُؤاخذ بجنايتكَ، ولا يُعاقَب بذنبكَ، وإنما الذي يستحقُّ العقوبةَ مَنْ فعَل الذنبَ واقترَف المعصيةَ.
أيها الإخوةُ في الله: من بواعث النصيحة الشفقة على المنصوح، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يألو جهدًا في نصح أصحابه وتوجيههم؛ فلما رأى صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في يدِ رجلٍ خاتمًا من ذَهَبٍ نزعَهُ وطرحَهُ، ولِكَيْلَا يقعَ أحدٌ في هذه المخالَفة التي يعود أثرُها بالضرر عليه؛ فقد استدعى التحذيرَ ممَّا تؤول إليه فقال صلى الله عليه وسلم: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِن نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ، فقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ به، قالَ: لا وَاللَّهِ، لا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي على المرء قَبولُ نصيحةِ الناصحِ، متى أرشَدَه إلى خطئه؛ ففي ذلك مصلحتُه ونجاتُه والحذرُ أن تأخُذَه العزةُ بالإثم فيردَّ الحقَّ، ويستنكفَ عن قَبولِه؛ كما ينبغي له أن يَفرَح بهذا الذي أَسدَى إليه النصيحةَ، ويُسَرَّ به، ويَشكُرَ له تذكيرَه، لا أن يُبغِضَه ويغضبَ عليه، ويرى أنه قد تدخَّل في شؤونه الشخصيَّة أو فيما لا يَعنِيهِ.
عبادَ اللهِ: كما أنَّ مِنْ حرصِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- على أُمِّتِه ومحبتِه لها، أن حذَّرَها ممَّا قد يُفضِي إلى ما لا يُحمَد عقباه، ومن ذلك تعجُّل المرء بالدعاء عند غضبه بما لا يصلح أن يدعو به؛ فيكونَ سببًا في ندامته وتأسُّفِه، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْعُوا على أنفسِكم، ولا تَدْعُوا على أولادِكم، ولا تَدْعُوا على خَدَمِكُمْ، ولا تَدْعُوا على أموالكم، لا تُوافقوا من اللهِ ساعةً، يُسألُ فيها عطاءً فيستجيبَ لكم"، إنه توجيهٌ كريمٌ، وملحظٌ دقيقٌ، قلَّ مَنْ يتفطَّن له ويراعيه، وما أكثرَ مَنْ يغفُل عن مغزاه ومراميه!
أيها الإخوةُ: إن أبواب الخير كثيرة، وقد لا يجد المرءُ ما يتصدَّق به ويُنفِق منه في وجوه الخير، لكنَّه يستطيع أن يَكسِب مِنَ الحسنات، ويُحَصِّلَ من الأجور بعمل لا يُكلِّفه ولا يَشُقّ عليه؛ فعندما جَاءَ رجلٌ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان قد ماتت دابتُه وانقطَع به السبيلُ، طَلَبَ من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أن يَحمِلَه فَقالَ: "ما عِندِي، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أَنَا أَدُلُّهُ علَى مَن يَحْمِلُهُ"، فكان عمله هذا ممَّا يُحمَد له ويُثنى به عليه، وعندئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ"، ففي هذا بيانُ فَضلِ مَنْ دلَّ على خَيرٍ، وفَضلِ مَنْ أعانَ على فِعْلِ الخيرِ، وفَضلِ تَعليمِ الخيرِ خاصَّةً لِمَنْ يَعملُ به.
أيها الإخوةُ: الحياء شُعبة من شُعَب الإيمان، وخُلُق محمود يتجمَّل به المرءُ؛ لأنه يمنعُه من الوقوع في الآثام، ويدعوه إلى معالي الأخلاق، فلمَّا مرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- علَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، وهو يَعِظُ أخَاهُ في الحَيَاءِ، وأنَّ حياءه أضرَّ به ما كان منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن قال: "دَعْهُ فإنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ".
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفِر اللهَ الجليلَ لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا إلى سبيل الحق واجتبانا، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ربُّنا ومولانا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرشَدَنا إلى طريق الحق والنصح أَوْلَانَا، دعا إلى ثواب ربه وبشَّر، وحذَّر من عقابه وأنذر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً وسلامًا إلى يوم البعث والمحشر.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: من الأمور التي ينبغي ألَّا تغيب عن الأذهان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان خُلُقه القرآن، فصار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا، سجيةً له وخلقًا، متأدبًا بآدابه، متخلقًا بأخلاقه، مهتديًا بهديه، متحليًا بكل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه، ومجتنِبًا كلَّ ما استهجنه ونهى عنه، فكان التأسي به -صلى الله عليه وسلم- والعمل بتوجيهاته كفيلًا بصبغ حياة المسلم بصبغة دِين الإسلام الذي شرَعَه اللهُ وارتضاه، وبما يحقِّق للمرءِ السعادةَ في دنياه وأُخراه.
معاشرَ المسلمينَ: الأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكلَ على الله؛ فمِنَ الجهلِ تركُ الأخذِ بالأسباب بدعوى التوكل على الله، ومِنَ الجهلِ أيضًا الاعتمادُ على الأسباب بالكلية، والغفلةُ عن التوكل على الله، وكِلَا الحالينِ مذمومٌ، والصحيحُ أن تجمعَ بينَ الأمرينِ، فلمَّا سألَ رجُلٌ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟"؛ بمعنى: أيُّ الفعلينِ يُوافِق التوكلَ، ربطُ الناقةِ، أو تركُها على حالها، ثم السعي لأحواله، وحتى يستبينَ له ماذا يعمل، كان لابدَّ من توجيهه التوجيهَ الأمثلَ، وعندئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اعقِلْها وتوكَّلْ".
أيها الناسُ: إن إحسان الظن بالله من صِفات المؤمن الحق؛ فهو يرجو الخير والفضل من الله -سبحانه- في كل أحواله، ويُسلِّمُ أمرَه لله، ولكِنْ عندما يقنَط المرءُ من رحمة الله تنطفئ جذوةُ الأمل لديه، ويبقى أسيرَ حال القلق والتشاؤم الذي سيطَر عليه؛ فلمَّا دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، قائلًا له: "لا بَأْسَ، طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ"؛ بمعنى أنَّ الحمى تُطهِّره وتُنقِّي ذنوبَه فَلْيَصْبِرْ، لكِنَّ الرجل كان فاقدَ الأملِ، غيرَ صابرٍ، فقال: "كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، علَى شيخٍ كَبِيرٍ، كَيْما تُزِيرَهُ القُبُورَ"، إنَّه لم يقبل توجيهَ الرسول صلى عليه وسلم، بل ردَّه بهذه القولة البائسة، التي تحكي حالتَه اليائسةَ، وعندئذ قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَنَعَمْ إِذَنْ"، وهذا إلزام بما تطيَّر به، وممَّا يُستفاد من الحديث الحذر مِنْ أن يُطلِق المرءُ لسانَه في الأمور التي يتشاءم منها.
احْذَرْ لِسَانَكَ أَنْ تَقُولَ فَتُبْتَلَى *** إِنَّ الْبَلَاءَ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ
أيها الإخوةُ: يحرص المسلمُ على مجاهَدة نفسِه في استباق الخيرات، والمواظَبةِ على النوافل والطاعات، ولا يُبادِر إلى التماس الأعذار، في تَرْك المحاسن والفضائل وكَسْب الحسنات، بل يستعين بالله ويحاول التغلبَ على نفسه ما أمكَن ولا يتعلَّل بما ليس بحجة؛ فلمَّا طرَق النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا وفَاطِمَةَ ابنْتَه ليلةً، وسألهما: "أَلَا تُصَلِّيَانِ؟"، قال علي -رضي الله عنه-: "يا رسولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا"، ولكنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يرتضِ إجابتَه، وانصرَف -صلى الله عليه وسلم- وهو يضرب فَخِذَهُ قائلًا: "وَكانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شيءٍ جَدَلًا"، هذا ولم يقف الأمرُ عندَ حثِّه -صلى الله عليه وسلم- على اغتنام الفضائل بالقول فحسبُ، بل ضرَب لنا أروعَ الأمثلة العملية في المسارَعة إلى فعل الخيرات؛ فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ولَمَّا سألَتْه عائشةُ -رضي الله عنها-: "لمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفَر اللهُ لكَ ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟!"، قال: "أفلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"، ولَمَّا سألَه أسامةُ بنُ زيدٍ -رضي الله عنه- فقال: "يا رسولَ اللَّهِ! لم أرك تَصومُ شَهْرًا منَ الشُّهورِ ما تصومُ من شعبانَ؟! قال: ذلِكَ شَهْرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجبٍ ورمضانَ، وَهوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عمَلي وأَنا صائمٌ".
عبادَ اللهِ: علينا أن نستشعر حقارةَ الدنيا وزوالَها؛ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185]؛ أي: هي متاعٌ فانٍ غارٌّ لِمَنْ ركَن إليه، فإنَّه يغترُّ بها وتُعجِبُه حتى يعتقدَ أنه لا دارَ سواها، ولا معادَ وراءها، ولَمَّا رأى عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه- أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، فَقالَ: "ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُمَا فيه، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ!"، فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلَّا أن ذكَّرَه بحقيقة متاع الدنيا القليل الفاني، الذي لا يُقارَن بنعيمِ الآخرةِ التامِّ الباقي، وعندَئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَة".
معاشرَ المسلمينَ: هذا غيضٌ من فيضٍ، من توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم-، يتجلَّى من خلالها حرصُه على نُصحِ أُمَّتِه ودلالتها إلى سبيل الرشاد، وبيان المسالِكِ المُوصِلَةِ إلى الله -جل في علاه-.
فاللهم صلِّ وسلِّم، وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، النبي المصطفى، الذي أتى بالهدى، وأرشد الورى، على آله وصحبه، ومن سار على نهجهم واقتفى.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدين، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وأذية الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعدو للإسلام والمسلمين.
اللهم واجعلها آمنةً مطمئنةً، رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نعوذ بك من نار الحروب، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والأدواء، والربا والزنا والزلازل، والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم كُنْ لإخواننا المستضعَفين والمجاهِدينَ في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كُنْ لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير مبدلين ولا مغيرين، وغير خزايا ولا مفتونين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم