وصايا لمصاب

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-23 - 1432/03/20
عناصر الخطبة
1/ المصائب أمر لابد منه 2/ عطاء الصبر خير عطاء 3/ وصايا تعين في الصبر على المصائب

اقتباس

وهذه الدنيا مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم، فبينا الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينا الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال، أو وظيفة تذهب معه طموحاته، وتفسد مخططاته ورغباته ..

 

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: المصائب أمر لابد منه، من منا -أيها الأحبة- لم تنـزل به مصيبة أو يتعرض لمشكلة؟! من لم يفقد حبيبًا أو يخسر تجارة أو يتألم لمرض ونحوه؟! إن المصائب في هذه الدنيا سهام مشرعة، ورماح للبلاء معدة مرسلة، فهي دار ابتلاء وامتحان ونكد وأحزان (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4].

جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوًا من الأقذار والأكدار

لقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً معبرًا للمؤمن في هذه الحياة، فقال: "مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ: لا تهتز حتى تُستحصد"؛ رواه مسلم.

لقد اختلطت جذور الزرع في الأرض وتماسكت، فالريح وإنْ أمالته لا تطرحه ولا تكسره ولا تسقطه، وكذلك المؤمن، فإنّ المصائب -وإنْ آلمته وأحزنته- فإنها لا يمكن أنْ تهزمه أو تنال من إيمانه شيئًا، ذلك أنّ إيمانه بالله عاصمُه من ذلك.

وهذه الدنيا مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم، فبينا الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينا الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال، أو وظيفة تذهب معه طموحاته، وتفسد مخططاته ورغباته.

في هذه الدنيا منح ومحن، وأفراح وأتراح، وآمال وآلام، فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه الكدر، والفرح فيها مشوب بترح وحذر، وهيهات أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!

هكذا هي الدنيا، وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، فذلكم دواء أدوائها، قال الحسن -رحمه الله-: جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئًا أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره.

وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر، وكان أمر المؤمن من بين الناس أمرًا عجيبًا؛ لأنّه "إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له". كما صح ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

أيها المسلمون: أمرنا الله بالصبر، وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]، ثم أخبر مؤكِّدًا أنّ الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأرزاق والأموال والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم، فقال: (وَلَنَبْلوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-157]، فالصبر سبب بقاء العزيمة، ودوام البذل والعمل، وما فات لأحد كمال إلا لضعف في قدرته على الصبر والاحتمال، وبمفتاح عزيمة الصبر تُعالج مغاليق الأمور، وأفضل العُدَّة الصبر على الشدَّة.

أيها المسلمون: ونظرًا لحاجة الناس جميعًا إلى هذه الخصلة، وافتقارهم الشديد إليها، لعلنا نذكّر بعشر وصايا تعين المسلم في الصبر على المصائب:

أولاً: إعداد النفس: فعلى المسلم أن يهيِّئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأنْ يدرِّبها عليها قبل حدوثها، وأنْ يعمل على صلاح شؤونها؛ لأنّ الصبر عزيز ونفيس، وكل أمر عزيز يحتاج إلى دربة عليه، عليه أنْ يتذكّر دومًا وأبدًا زوال الدنيا وسرعة الفناء، وأنْ ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة، ومُددًا منقضية، وقد مثَّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حالَه في الدنيا "كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها".

فلا تغترّ -أيها المسلم- برخاء، ولا تؤمِّلْ أنْ تبقى الدنيا على حال، أو تخلوَ من تقلُّب وإصابة واستحالة، فإنّ من عرف الدنيا وخبر أحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها، وقد قال بعض الحكماء: من حاذر لم يهلع، ومن راقب لم يجزع، ومن كان متوقِّعًا لم يكن متوجِّعًا. ومن أحبَّ البقاء فليُعِدَّ للمصائب قلبًا صبورًا.

ثانيًا: مما يعين على الصبر على المصائب: الإيمان بالقضاء والقدر: فمن آمن بالقضاء والقدر، وعلم أنّ الدنيا دار ابتلاء وخطر، وأنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل، اطمأنت نفسه، وهان أمره، ومن المشاهَد المعلوم أنّ المؤمنين هم أقلّ الناس تأثُّرًا بمصائب الدنيا، وأقلُّهم جزعًا وارتباكًا، فالإيمان بالقضاء والقدر صار كصِمَام الأمان الواقي لهم بإذن الله من الصدمات والنكسات.

إنهم مؤمنون بما أخبرهم به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف". رواه الترمذي.

وبأنّ الآجال والأرزاق مقرَّرة مقدَّرة والمرء في بطن أمه، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وكَّل الله بالرَّحِم مَلَكًا، فيقول: أيْ ربِّ نُطفةٌ؟! أيْ ربِّ عَلقةٌ؟! أيْ ربِّ مُضغَةٌ؟! فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أيْ ربِّ أذَكَر أم أنثى؟! أشقيٌّ أم سعيد؟! فما الرزق؟! فما الأجل؟! فيُكتب كذلك في بطن أمه". رواه البخاري.

قالت أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجَّل شيئًا قبل حِلّه، أو يؤخر شيئًا عن حله، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذكِ من عذابٍ في النار، أو عذابٍ في القبر، كان خيرًا وأفضل". رواه مسلم.

وأتى ابنُ الديلميِّ أُبَيَّ بنَ كعب فقال له: وقع في نفسي شيء من القَدَر، فحدِّثْني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي. قال: "لو أنّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه عذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أُحُد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمنَ بالقدر، وتعلمَ أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار". رواه أبو داود.

ثالثًا: تذكر حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح: الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة لكل مسلم، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

وفي تأمُّل حاله -عليه الصلاة والسلام- عظة وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته كلها صبرًا وجهادًا، ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ومات ابنه إبراهيم، فلـم يزد على أنْ قال وقد دمعت عيناه: "إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربنا، وإنا بفراقك -يا إبراهيم- لمحزونون". رواه البخاري. ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.

ومن تأمَّل أحوال السلف الصالح وجدهم -رضي الله عنهم- قد حازوا الصبر على خير وجوهه، تأمَّلوا حال عروة بن الزبير -رحمه الله- وقد ابتلي في موضع واحد بقطع رجله مع موت ابنه، فلم يزد على أنْ قال: اللهمّ كان لي بنون سبعة فأخذتَ واحدًا، وأبقيتَ لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتلَيْتَ لقد عافيت، ولئن أخذتَ لقد أبقيت. ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فدفنه أبوه، ثم استوى على قبره قائمًا، فقال وقد أحاط به الناس: رحمك الله يا بُنيّ! قد كنت برًّا بأبيك، والله ما زلتُ مذ وهبكَ الله لي مسرورًا بك، ولا والله ما كنتُ قطّ أشدَّ بك سرورًا، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنْزل الذي صيَّرك الله إليه.

رابعًا: مما يعين على الصبر عند المصائب: استحضار سعة رحمة الله وواسع فضله: المؤمن الصادق في إيمانه، يُحْسِن ظنَّه بربه، وقد قال الله كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا عند ظن عبدي بي". فثقوا بسعة رحمة الله بكم، وأنّ أقداره خير في حقيقة أمرها، وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، وقد قال الله: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له". رواه الإمام أحمد، ثمَّ تأمَّلوا فيما حباكم به الله من النعم والمنن، لتعلموا أنّ ما أنتم فيه من البلاء كقطرة صغيرة في بحر النعماء! وتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم، والحادثة أجل وأفدح، واعلموا أنّ فيما وُقيتم من الرزايا وكُفيتم من الحوادث ما هو أعظم مما أُصبتم به.

خامسًا: التأسي بغيره من أهل المصائب: تأسَّوْا بغيركم، وتذكَّروا مصاباتهم، وانظروا إلى من هو أشدّ مصيبة منكم، فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلِّل الهلع والجزع، وتذكَّروا أنّ مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله، ليتذكَّرْ من أصيب بعاهة أو مرض مَنْ أصيب بما هو أشدّ، وليتذكَّرْ من فجع بحبيب مَن فُجع بأحباب، وليتذكَّرْ من فقد ابنه مَن فقد أبناءً، وليتذكَّرْ مَن فقد أبناءً مَن فقد عائلة كاملة.

ليتذكَّر الوالدان المفجوعان بابنٍ، آباءً لا يدرون شيئًا عن أبنائهم، فلا يعلمون أهم أحياء فيرجونهم، أم أموات فينسونهم، وقد فقد يعقوبُ يوسفَ -عليهما السلام- ومكث على ذلك عقودًا من السنين، وبعد أنْ كبر وضعف فقد ابنًا آخر، فلم يزد على أنْ قال في أول الأمر: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْـمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، ثمّ قال في الحال الثاني: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ) [يوسف: 83].

جاء رجل كفيف مشوَّه الوجه إلى الوليد بن عبد الملك، فرأى حاله، ولم ير عليه شيئًا من علامات الجزع، فسأله عن سبب مصابه، فقال: كنت كثير المال والعيال، فبتنا ليلة في واد، فدهمنا سيل جرّار، فأذهب كل مالي وولدي إلا صبيًّا وبعيرًا، فذهب بعيري والصبيُّ معي، فوضعته وتبعت البعير لأمسك به، فعدت إلى الصبي فإذا برأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته وتبعت البعير فرمحني رمحة حطَّم بها وجهي، وأذهب بصري، فأصبحت بلا مال ولا ولد ولا بصر ولا بعير، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاءً منه.

سادسًا: تذكّر أنّ المصائب من دلائل الفضل: المصائب -عباد الله- من دلائل الفضل، وشواهد النبل، وكيف لا يكون ذلك، وقد سأل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: أيُّ الناس أشد بلاءً؟! قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صُلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". رواه الترمذي. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه". رواه البخاري.

سابعًا: تذكر حُسن الجزاء: ليتذكر كل منا حُسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه، فإنّ الأجر على قدر المشقة، والنعيم لا يُدرك بالنعيم، والراحة لا تنال إلا على جسور من التعب، وما أقدم أحد على تحمُّل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجّلة، والصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل، وإنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء.

سَأل أبو بكر -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مستشكلاً وجلاً، فقال: يا رسول الله: كيف الصلاح بعد هذه الآية: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) [النساء: 123]، فكل سوء عملنا جُزينا به؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟! ألست تنصَب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟!"، قال: بلى! قال: "فهو ما تجزون به". رواه الإمام أحمد.

تذكَّروا ما أعدّه الله للمبتلَين الصابرين من الأجر والثواب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وحسن الخلف والعوض، فأمّا الأجر والثواب فلا أحسن ولا أعظم من الجنة جزاءً وثوابًا، وقد وعد بها كثير من الصابرين، فوُعِدت بها تلك المرأة التي كانت تُصرع إذا ما صبرت، كما حدَّث بذلك عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! قلت: بلى! قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشف، فادْعُ الله لي! قال: "إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر. وقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها". رواه البخاري.

ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنّ الله قال-: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة". رواه البخاري.

وكان لمن فقد ولدًا نصيب كبير من البشارة بالجنة، لعلم الله بعظم مصيبته، وكونه بعباده رحيمًا، فبشّر -عليه الصلاة والسلام- المرأة التي مات لها ثلاثة من أولادها بأنها احتمت بحمى منيع من النار، فقد أتته ومعها صبي لها مريض، وقالت: يا نبي الله: ادعُ الله له، فلقد دفنت ثلاثة. قال: "دفنتِ ثلاثة؟!"، قالت: نعم! قال: "لقد احتظرت بحظار شديد من النار". رواه مسلم.

وإليكما -أيُّها الوالدان المكلومان- حديثًا آخر وحسبكما به عزاءً وتفريجًا: "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟! فيقولون: نعم! فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟! فيقولون: نعم! فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَكَ واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسَمُّوه بيت الحمد". رواه الترمذي.

ثامنًا: كف النفس عن تذكر المصيبة: على من أصيب بمصيبة أنْ يكفَّ نفسه عن تذكُّرها، وتردادها في ذهنه، وأنْ ينفيَ الخواطر والمهيِّجات إذا مرَّتْ به، ولا ينمّيها ويعايشها، فإنها تصير أماني لا نفع منها ولا غنًى وراءها، وأمثال هـذه الأمانـي رؤوس أموال المفاليس؛ لأنّ من مات لا يعود، وما قُضي لا يردّ، وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله: "لا تستفزُّوا الدموع بالتذكُّر".

وممّا يقع فيه كثير ممّن أصيب بفقد حبيب أو قريب أنه يسعى إلى الاحتفاظ ببعض أشياء الميت التي تذكِّره به في كل حين، ما يحول دون برء جراحه، ويجدِّد همومه وأحزانه.

تاسعًا: مما يعين على الصبر عند المصائب: الابتعاد عن العزلة والانفراد: ابتعد أيُّها المصاب عن العزلة والانفراد، فإنّ الوسـاوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرِّغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره، وأشغل نفسك بما فيه نفعك، واحزم أمرك، واشتغل بالأوراد المتواصلة والقراءة والأذكار والصلوات واجعلها أنيسك ورفيقك، فإنّه بذكر الله تطمئنّ القلوب.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأستغفر الله إنه كان غفارًا...

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: مما يعين أيضًا على الصبر عند المصائب: عاشرًا: ترك الجزع والتشكي: إيّاكم والجزعَ وكثـرةَ الشكوى عند المصائب؛ فإنّ من غفل عن أسباب العزاء ودواعي السلوة تضاعفت عليه شدّة الأسى والحسرة، وهو بهذا كمن سعى في حتفه وأعان على تلفه، فلا يطيق على مصابه صبرًا، ولا يجد عنه سُلُوًّا، ولئن كان الصبر مستأصِلَ الحَدَثان فإنّ الجزع من أعوان الزمان، من علم أنّ المقدَّر كائن والمقضيَّ حاصل كان الجزع عناءً خالصًا، ومصابًا ثانيًا، وقد قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 22، 23].

حُكي أنّ أعرابية دخلت من البادية، فسمعت صُراخًا في دار، فقالت: ما هذا؟! فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرّمون، وعن ثوابه يرغبون!

أيها المسلمون: لقد أصاب الناس أمام المصائب الضعف والوهن والجزع والسخط من أقدار الله، فأضحى الصابرون الشاكرون المحتسبون الحامدون هم القلة القليلة، وسنن الله على الجميع ثابتة لم تتغير، وقضاؤه على عباده سائر لم يتبدل.

اعلم -يا عبد الله- أن الجزع يشمت بك الأعداء، ويسوء الأصدقاء، ويغضب الرحمن، ويسرّ الشيطان، ويحبط الأجور، ويضعف النفس، ويصدع الجنان، ومن صبر واحتسب أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه وعزّى إخوانه قبل أن يعزوه، هذا هو الثبات في الأمر.

قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوَ البهائم.

وأخيرًا: فإنّ الصبر على المصائب يُعقب الصابرَ الراحة منها، ويُكسبه المثوبة عنها، فإنْ صبر طائعًا وإلا احتمل همًّا لازمًا، وصبر كارهًا آثمًا؛ قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: إنّك إنْ صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنا وجدنا خير عيشنا الصبر. وروي عن علي -رضي الله عنه- قوله: اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له.

جعلنا الله جميعًا من الصابرين الشاكرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
 

 

  

 

المرفقات

لمصاب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات