عناصر الخطبة
1/انقضاء الأعوام آيةٌ من آيات الله 2/ انقضاء الأعوام علامة على انقضاء الآجال 3/ انقضاء الأعوام فرصةٌ لمحاسبة النفس 4/الاعتبار بالأموات 5/من بدع نهاية العاماقتباس
فالليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُهَا الناسُ مرحلةً مرحلةً حتَّى ينتهيَ سفرُهم، والعاقلُ من الناسِ من يُقدِّمُ في كلِّ مرحلةٍ زادًا ينفعُه في ثنيِّاتِ الطريقِ قبلَ انقطاعِ السفرِ ومباغتةِ الأجلِ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ المحمودِ بكلِّ لسانٍ، المعبودِ في كلِّ زمانٍ، اختصَّ وحده بالبقاءِ، وكَتَبَ على جميعِ الخلائقِ الفناءَ.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المؤمنونَ-، فالتقوى وصيةُ اللهِ للأوَّلينَ والأخرينَ، قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131].
عباد الله: ونحنُ في آخرِ جمعةٍ من هذا العام 1443هـ نُوشكُ أن نعبرَ مِن طَرَفِ جِسْرٍ إلى طَرَفِهِ الآخرِ، خُطوةً نودِّعُ، وخُطْوَةً نَسْتَقْبِلُ.
ودّعنا عامًا كاملاً، أودعنا فيه ما شاءَ اللهُ أن نودعَ من أعمالٍ، منها ما هو لنا، ومنها ما هو علينا؛ فلا إلهَ إلا اللهُ مقلِّبُ القلوبِ، ومصرِّفُ الأزمانِ، قال تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور:44]، وقال سبحانه: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً)[الأعراف:54].
أيُّها المؤمنونَ: انقضاءُ الأعوامِ آيةٌ من آياتِ اللهِ -عزّ وجلّ-، قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)[الكهف:45]، وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)[الفرقان:62].
نُوَدَّعُ بهذا اليوم المبارك عامًا هجريًا كاملاً، تَصرَّمتْ أيامُه، وقُوِّضَتْ خيامُه كلمحةِ برقٍ، أو غمضةِ عينٍ، عامٌ مضى، ولن يعودَ بأيَّةِ حالٍ إلى يومِ القيامةِ.
فالليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُهَا الناسُ مرحلةً مرحلةً حتَّى ينتهيَ سفرُهم، والعاقلُ من الناسِ من يُقدِّمُ في كلِّ مرحلةٍ زادًا ينفعُه في ثنيِّاتِ الطريقِ قبلَ انقطاعِ السفرِ ومباغتةِ الأجلِ.
أيُّها المؤمنونَ: انقضاءُ الأعوامِ علامة على انقضاءِ الآجالِ.
فَتنقضي آجالُنا يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، وإنَّ في انقضائِها عبرةً وعظةً لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ، حتى ينتهيَ الأجلُ بالخروجِ من هذه الدنيا، فتبدأ الحياةُ البرزخيةُ، وينتقلُ الإنسانُ إلى أوَّلِ منازِلِ الآخرةِ، ألَا وهُوَ القبرُ، فإمّا أن يكونَ روضةً من رياضِ الجنَّةِ، أو حُفْرَةً من حُفَرِ النَّارِ، ثُمَّ البعثُ يومَ يقومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالمينَ.
إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثوانٍ، تَمُرُّ سريعةً وقتَ الفرحِ، وبطيئةً وقْتَ الْحُزْنِ لكنَّهَا لا تقفُ، وَصَدَقَ الحسنُ البصريُّ: (يَا ابنَ آدمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمُكَ ذَهَبَ بَعْضُك).
وكانَ بعضُ السَّلفِ إَذَا غربتْ الشَّمْسُ وَقَفَ عند بابِ دارِهِ يبكي، فإذَا قيلَ لهُ في ذلكَ قالَ: "قَطَعْتُ يَوْماً مِنْ حَيَاتِي إِلَى الدَّارِ الآخِرَةِ، وَلَا أَدْرِي: أَهِيَ خُطواتٌ إِلَى الْجَنَّةِ، أَمْ أَنَّهَا خُطواتٌ إِلَى النَّارِ؟!".
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد:20].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ اللّياليَ والأيامَ مطايا للاتعاظِ والاعتبارِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وفّقَ عبادَه الصّالحينَ للصّالحاتِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه إمامُ المتّقين وسيّدُ المرسلينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاعلموا -عبادَ اللهِ- أنّ انقضاءَ الأعوامِ فرصةٌ لمحاسبةِ النّفسِ:
فكُلُّنَا نسيرُ إلى اللهِ، فمنَّا مَنْ حَفَظَ نَفْسَهُ وَصَدَقَ مَعَ رَبِّهِ، وَمِنَّا مَنْ فَرَّطَ وقَصَّرَ، وَكُلُّ ذلكَ مُدَوَّنٌ فِي كتابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا، قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].
قال عليٌّ -رضي اللهُ عنهُ-: "إنَّ الدُّنيا قد ولَّت مدبرةً والآخرةُ مقبلةٌ ولِكلِّ واحدةٍ منهما بنون،َ فَكونوا من أبناءِ الآخرةِ، ولا تَكونوا من أبناءِ الدُّنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حسابٌ، وغدًا حسابٌ ولا عملٌ"(أخرجه البخاري مختصراً معلقاً بصيغة الجزم، والبيهقي في شعب الإيمان واللفظ له.
فحريٌّ بكلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ يَقِفَ مَعَ نَفْسِهِ مُحَاسِبًا: ماذا أسلفتُ في عامِي الماضي؟ هل أسأتُ أم أحسنتُ؟ هل ظلمتُ، أم عدلتُ؟ هل وقعتُ فيما حرَّمَ اللهُ، أمْ حَرِصْتُ عَلى طاعةِ اللهِ؟ فإنْ كانَ خَيْرًا ازْدَادَ، وإنْ كانَ غيرَ ذلكَ أَقْلَعَ واسْتَغْفَرَ وَأَنَابَ، فَإِنَّمَا تُمحَى السيئةُ بالحسنةِ، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا"(أخرجه الترمذي وأحمد).
عبادَ اللهِ: اتّعِظُوا بِمَنْ كانُوا بينَنَا هذا العامَ، وهم الآنَ تَحْتَ الثَّرَى.
وتفَكَّرُوا في عامِكُم المنصرمِ، كمْ ودَّعْنَا فيهِ مِنْ حبيبٍ وغالٍ؟ كمْ دَفَنَّا فِيهِ مِنْ أبٍّ وأمٍّ وأخٍ وأختٍ وولدٍ وبنتٍ؟ أليسوا لهم آمالٌ وطموحاتٌ؟! ألم يبنوا فللاً وعماراتٍ؟! أليستْ لهمْ غاياتٌ وأمنياتٌ؟! ألم يأتِهِم الموتُ فجأةً، فعجزوا عن ردِّهِ؟ ألسنا مثلَهم ننتظرُ آجالَنا؟! أليست الليالي والأيامُ تنقلُنا إلى مصيرِنَا؟! بَلى، فالناسُ يسيرونَ، والأقدارُ جاريةٌ، وهم لا يعلمونَ.
عبادَ اللهِ: اعلموا أنَّهُ تَنْتَشِرُ في نهايةِ كلّ عامٍ عَبْرَ وسائلِ التواصلِ وغيرِها، ما يسمّى بِخَتْمِ العامِ، أو تخصيصِ آخرِ جمعةٍ فيهِ بدعاءٍ أو عبادةٍ أو غيرِ ذلكَ، وهذا لا أصلَ له، فليسَ لآخرِ العامِ مزيّةٌ في خَتْمِ أيامِه بصيامٍ أو صدقةٍ أو أيِّ عملٍ، بل آخرُ العامِ كسائرهِ، ينبغي أن يُشغلَ بالطاعةِ والعبادةِ؛ فاحرصوا باركَ اللهُ فيكمْ على السُّنَّةِ، واحذَرُوا من البِدْعَةِ.
أسألُ الله -جلّ وعَلَا- لي ولكُم التوفيقَ والصلاحَ في العاجلِ والآجلِ، وأن يوفِّقنَا لاستدراكِ الأعمارِ قبلَ انتهاءِ الآجالِ، وأنْ يوفّقنَا لعملٍ صالحٍ يقبضُنَا عليهِ، وأنْ يُجَنَّبنَا الغفلةَ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم