عناصر الخطبة
1/بعض صفات أهل الإيمان 2/النذير هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- 3/النذير القرآن المجيد 4/ النذير الأمراض 5/النذير الشيب 6النذير الموت 7/هل من توبة؟اقتباس
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) تلكَ الأمراضُ التي تُصيبُكَ حِيناً بعدَ حِينٍ، مواعظُ تذكِّيريَّةٌ، ورسائلُ تحذيريَّةٌ. فهذا فيروسٌ ضَئيلٌ، يقتَحمُ تلكَ الأجسامَ القويَّةَ، فيَثقلُ البَدنُ عن القِيامِ، واللِّسانُ عن الكلامِ، فلا تَقدِرُ اليّدُّ بَطْشاً، ولا تستطيعُ الرِّجلُ مَشياً، تَحسُ معه بالضَعفِ الواضِحِ، وتعلمُ أنكَ كُنتَ في غُرورٍ فاضِحٍ، وتتذَكَّرُ نعمةَ الصِّحَّةِ، وكيفَ أنك كُنتَ مَغبوناً خاسِراً فيها، كما قَالَ عليه الصلاة والسلام: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". وهذا عضوٌ بسيطٌ قد أدركَه الخَللُ، أو هرمونٌ قليلٌ قد أصابَه العَطلُ، وإذا الجسمُ يرتعِشُ والحرارةُ في طُلوعٍ، وإذا...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ فاطرِ الأرضِ والسمواتِ، عالمِ الأسرارِ والخَفيَّاتِ، الُمطَّلعِ على الضَمائرِ والنيَّاتِ، أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلماً، ووَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحِلماً، وقَهرَ كلَّ مخلوقٍ عزَّةً وحُكماً، يعلمُ ما بينَ أيديهم وما خلفَهم ولا يُحيطونَ به عِلماً، أتقَنَ ما خلقَه وأحكمَه، وخلقَ الإنسانَ وعلَّمَه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةَ من عَرفَ الحقَّ والتزمَه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أفضلَ من صَدعَ بالحقِّ وأسمعَه، اللهم صلِّ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه وسائرِ من نصرَه وكرَّمَه وسلمْ تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا)[فاطر: 36-37].
صِياحاً شَديداً مُستمرَّاً مع الألمِ الشَّديدِ الشَّاقِّ، واستغاثةً وعَوِيلاً تتقطَّعُ معه الأعناقُ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر: 37].
ندمٌ وحسرةٌ يُقطِّعانِ القلبَ الحَسيرَ، فيأتيهمُ الرَّدُّ من السَّميعِ البصيرِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ)[فاطر: 37].
أَيْ: أَوَ مَا عِشْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْمَارًا لَوْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِالْحَقِّ لَانْتَفَعْتُمْ بِهِ فِي مُدَّة عُمُرِكُمْ؟
(وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)[فاطر: 37].
كانَ أهلُ الإيمانِ إذا تُليَتْ عليهم مثلُ هذه الآياتِ، تَقْشَعِرُّ مِنْها جُلُودُهم، وتخشعُ منها قلوبُهم، وتدمعُ منها عيونُهم، وتشتغلُ بالطَّاعةِ جوارِحُهم، فَهُمْ وَجِلونَ خائفونَ؛ كأنَهم همُ المخاطَبونَ، كما وصفَهم اللهُ -تعالى- بقولِه: (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ)[المعارج: 27 - 28].
ولكن، ما هو ذلكَ النَّذيرُ الذي بعثَهُ اللهُ اللَّطيفُ الخبيرُ، فكانَ قائداً للخيرِ وهُدىً ونوراً للأبرارِ، وكانَ فِتنةً وعمىً وخسارةً للفجَّارِ؟.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) هو ذلك الرَّسولُ الكريمُ الذي بعثَه اللهُ الرَّحيمُ: (شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)[الأحزاب: 46-47].
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أيْ: شَديدٌ عليه ما يَشِقُّ عليكم.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) على هِدايَتِكم.
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].
كادَ أن يَقتلَ نفسَه من الحُزنِ والهَمِّ لعدمِ استجابتِهم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَالْحَدِيثِ أَسَفاً)[الكهف: 6].
أصدقَ النَّاسِ لساناً، وأعظمَهم أمانةً، وأكملَهم أخلاقاً، بشهادةِ الذي يعلمُ السِّرَ وأخفى، حيثُ قالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4].
جاءَه أعلمُ اليهودِ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ فماذا رأى؟ وماذا سَمِعَ؟
رآه، فقال: "فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ".
وسمعَه، فقالَ: فَكَانَ أَوَّلَ شَيءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ".
وكما قالَ ابنُ رَوَاحةَ -رضي الله عنه-:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ *** لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
مَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلَا شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَهَا مِنْهُ.
وكما قالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي الله عنه-: "تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا".
قرأنا سيرَتَه المُباركةَ، فصدَّقناه ولم نسمعْهُ، وأحببناهُ ولم نرَهُ، حتى أصبحَ أحبَّ إلينا من أرواحنِا التي بينَ جُنوبِنا، ونقولُ كما قالَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- عندما سألَهم في حَجَّةِ الوداعِ: "وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟" قَالُوا: "نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ".
فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) هذا القرآنُ المَجيدُ الذي بين أيْدِيكُم؛ كما قالَ تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان عَلَى عَبْده لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان: 1].
(يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)[الأحقاف: 30].
كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ.
هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ.
مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
هُو الكِتابُ الذِّي من قامَ يقرؤُهُ*** كأنَّما خَاطبَ الرَّحمنَ بالكَلِمِ
وقد قالَ عليه الصلاة والسلام: "فإنَّ هذا القرآنَ سببٌ، طرَفُهُ بيدِ اللَّهِ، وطرفُهُ بأيديكم فتمسَّكوا بهِ، فإنَّكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَهُ أبدًا".
(يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9] من أمورِ البِّرِ والخيرِ.
سهلٌ واضحٌ وبُرهانٌ منيرٌ.
فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) تلكَ الأمراضُ التي تُصيبُكَ حِيناً بعدَ حِينٍ، مواعظُ تذكِّيريَّةٌ، ورسائلُ تحذيريَّةٌ.
فهذا فيروسٌ ضَئيلٌ، يقتَحمُ تلكَ الأجسامَ القويَّةَ، فيَثقلُ البَدنُ عن القِيامِ، واللِّسانُ عن الكلامِ، فلا تَقدِرُ اليّدُّ بَطْشاً، ولا تستطيعُ الرِّجلُ مَشياً، تَحسُ معه بالضَعفِ الواضِحِ، وتعلمُ أنكَ كُنتَ في غُرورٍ فاضِحٍ، وتتذَكَّرُ نعمةَ الصِّحَّةِ، وكيفَ أنك كُنتَ مَغبوناً خاسِراً فيها، كما قَالَ عليه الصلاة والسلام: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ".
وهذا عضوٌ بسيطٌ قد أدركَه الخَللُ، أو هرمونٌ قليلٌ قد أصابَه العَطلُ، وإذا الجسمُ يرتعِشُ والحرارةُ في طُلوعٍ، وإذا الأطباءُ اجتمعوا يتهامسونَ في خُشوعٍ، لا دواءً أعطوكَ ينفعُ، ولا كلمةَ تفاؤلٍ تسمعُ؛ حينها دارَ في خيالِك شريطُ الحياةِ سريعاً، فعلمتَ أنكَ كنتَ في أملٍ خدَّاعٍ، وتذكَّرتَ قولَه تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْك اللَّه بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)[الأنعام: 17].
فرفعتَ بصرَك إلى السَّماءِ، وقلتَ: يا اللهُ! يا اللهُ! وإذا بالحرارةِ في نُزولٍ، وإذا الأطباءُ في ذُهولٍ.
لقد كانَ في الأمراضِ عِبرةٌ وذِكرى.
فنِعمَ النَّذيرُ.
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ذلكَ الشَّيبُ الذي اشتعلَ به الرأسُ، ووَهَنُ منه العَظمُ، وذهبَ معه النَّشاطُ، وتتابعتْ معه الأسقامُ، فأصبحَ ثقيلاً إذا قامَ، وخفيفاً إذا نامَ، ينادي فلا يُجيبُ الأصحابُ، ويلتفِتُ فلا يرى الأحبابَ، حبيسُ الذِّكرياتِ، ندمانٌ على ما فاتَ، رجاءُه رحمةَ من وَسِعتْ رحمتُه الأرضَ والسماواتِ.
عَنْ أَبِي طَوِيلٍ شَطَبٍ الْمَمْدُودِ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلا دَاجَةً إِلا أَتَاهَا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟" قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: "نَعَمْ تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍكُ لَّهُنَّ" قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ"، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.
وَلَّى اَلْشَبَابُ وَهَذَا اَلْشَّيْبُ يَطْرُدُهُ *** يَفْدِي اَلْطَّرِيدَة َ ذَاكَ اَلْطَّارِدُ العَجِلُ
مَا نَازِلُ اَلْشَّيْبِ فِي رَأْسِي بِمُرْتَحَلٍ *** عَنِّي، وَأعْلَمُ أَنِّي عَنْهُ مُرْتَحِلُ
مَنْ لمْ يَعِظهُ بَياضُ اَلْشَّعْرِ أدْرَكَهُ *** فِي غِرَّة ٍحَتْفُهُ المَقدُورُ وَالأجَلُ
مَنْ أَخْطَأَتْهُ سِهَامُ اَلْمَوتِ قَيَّدَهُ *** طُولُ اَلْسِنِينِ فَلَا لَهْوٌ وَلَا جَذَلُ
لقد وعظَنا الشَّيبُ وحذَّرنا، وبِدُنُوِّ الأجلِ ذكَّرنا، ومن معصيةِ اللهِ -تعالى- أنذَرَنا.
فنعمَ النَّذيرُ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، ونفعَنا بهديِ سيِّدِ المرسلينَ، وبقولِه القويمِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الوَليِّ الحميدِ الفعَّالِ لما يُريدُ، أحمدُه سبحانه، خضعتْ له الرِّقابُ، وذلَّتْ له العَبيدُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهَ وحدَه لا شريكَ له ولا نَديدَ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه صاحبَ القولَ السَّديدَ، اللهم صلِّ وسلمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الوَعيدِ.
أما بعد:
(جَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ذلك الزائرُ الغريبُ، يأتي دونَ استئذانٍ، لا يطرقُ باباً، ولا يتسلقُ الجِدرانَ، وإذا انتهى من مُهمَّتِه وغادرَ المكانَ، تركَ خلفَه الهمومَ والأحزانَ.
كمْ تركَ من أرملةٍ ويتيمٍ؟
وكمْ قطعَ من عَيشٍ كريمٍ؟
ليسَ له علاماتٌ، ولا يمنعُ منه قصورٌ ولا حِراساتٌ: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)[النساء: 78].
لقد كانَ نذيراً يوميَّاً، تنقِلُ وسائلُ الإعلامِ أخبارَ القتلى، وتأتي الرَّسائلُ بنعي المَوتى، يَخطفُ الصَّغيرَ والكبيرَ، والغنيَّ والفقيرَ.
كم على جَنازةٍ قد صلَّيتَ؟ وكم مِن ميِّتٍ قد واريتَ؟ وكم مِن مفقودٍ قد عزَّيتَ؟
لقد كانَ الموتَ نذيراً.
ونِعمَ النَّذيرُ.
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها *** وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها *** هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
أيها الأحبابُ: لقد تكاثرتْ علينا النُّذُرُ، فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟ وهل مِن مُعتَبِرٍ؟ هل من رُجوعٍ إلى اللهِ -تعالى- قبلَ القَبرِ؟
ونعوذُ باللهِ أن نكونَ مِمن يُقالُ لهم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)[الملك:8- 9].
اللهم أيقظْ قلوبَنا من الغَفَلاتِ، وطَهِّرْ جوارحَنا من المعاصيِ والسيَّئاتِ، ونقِّ سرائرَنا من الشُّرورِ والبَليَّاتِ.
اللهم باعدْ بيننا وبينَ ذُنوبِنا كما باعدتَ بين المشرقِ والمغربِ، ونقِّنا من خطايانا كما يُنقَّى الثَّوبُ الأبيضُ من الدَّنسِ، واغسلنا من خطايانا بالماءِ والثَّلجِ والبَردِ.
اللهم اختمْ بالصَّالحاتِ أعمالَنا وثبتْنا على الصراطِ المستقيمِ بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ.
اللهم اجعلْنا من المتقينَ الذَّاكرينَ الَّذينَ إذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا.
اللهم انصرْ إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِك في كلِّ مكانٍ، الذين يريدونَ أن تكونَ كلمتُك هي العليا.
اللهم ثبتْهم وسددْهم، وفرِّجْ همَّهم، ونفِّسْ كربَهم، وارفعْ درجاتِهم.
(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 193- 194].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم