عناصر الخطبة
1/ تدفق الأخبار وانهمارها 2/ أهداف نشر الأخبار 3/ بعض آثارها السيئة 4/ آفة تناقل الخبر دون تثبُّت وتأكد من صحته 5/ حرص الإسلام على طهارة اللسان 6/ وجوب الاعتناء باللسان والتثبت عند نقل الأخباراقتباس
إنَّ حفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان في قلب المسلم، يقول... والمصيبة أن الكثير منا يدرك خطورة اللسان وتحريف الكلام ونقله على غير حقيقته، ومع ذلك يخوض فيه، فلا هو تثبت مما سمع، ولا هو حفظ لسانه، واستشعر مسؤوليته، وأدرك واجبه، واستثمر...
الحمدُ لله العليّ الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهَدى، له ملكُ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الملكُ الحقُّ المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسعَ كلَّ شيءٍ رحمة وعلماً؛ أحمده سبحانه وبحمده يَلْهجُ أُولو الأحلام والنهى.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى أزواجه وآله وأصحابه أئمة العلم والهدى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعــد: عبــــــاد الله: تطالعنا الصحُف والإذاعات والمحطات الفضائية والقنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء كل يوم، بل كل ساعة، بآلاف الأخبار والمعلومات والأحداث والتصريحات التي تدور حولنا، سواء كانت من سياسيين أو رياضيين أو فنانين أو علماء أو أكاديميين وأصحاب فكر ورأي وغير ذلك من شرائح المجتمع.
وعند النظر فيها والتحقق منها نجد أن الكثير منها غير صحيح، أو مكذوب، وليس له واقع من الصحة، وبعضها هدفه تزوير الحقائق وطمس الوقائع؛ والبعض منها هدفه تأجيج الصراع، وإثارة النعرات، وشق الصف؛ والبعض منها قد يكون على سبيل الكسب والربح المادي، ولو كان على حساب القيم والأخلاق؛ ومنها ما يقصد به الانتقام والعداء وإلحاق الضرر بالغير، سواء كان فرداً أو شعباً أو أمة من الأمم.
وقد تجد منها أيضاً ما هو حقيقة وواقع، وقد يكون مفيدا ونافعاً. وأصبح اللسان معول هدم لا معول بناء في الكثير من الأحيان عندما لا يستخدم فيما ينفع.
وهنالك الأقاويل والشائعات والأكاذيب التي تنتشر بين معاشر السادة المستمعين من الناس، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، ويتناقلها الجميع في بيوتهم ومجالسهم وأسواقهم.
كم هتكت من عرض، وسفكت من دم، وأوغرت من صدور! وكم أججت من مشاكل، وقطعت من رحم، وفرقت من أسر، وأوجدت العداوة بين الإخوة والأصدقاء! وكم طمست من حقائق، ورفعت من باطل، وتسببت في ظلم! وكم جنى الإنسان على نفسه بسبب ذلك من الذنوب والمعاصي والآثام!.
والمصيبة أن الكثير منا يدرك خطورة اللسان وتحريف الكلام ونقله على غير حقيقته، ومع ذلك يخوض فيه، فلا هو تثبت مما سمع، ولا هو حفظ لسانه، واستشعر مسؤوليته، وأدرك واجبه، واستثمر كلامه ومنطقه فيما يعود عليه بالخير والنفع والصلاح في دينه ودنياه وآخرته.
فأين نحن من قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]؟ وأين نحن من قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر:17-18].
أيها المؤمنون عبــاد الله: لقد أراد الإسلام من أتباعه عند حديثهم وكلامهم أن يتخيروا من الألفاظ أصدقها وأجملها، ومن الكلمات أعذبها، ففي ذلك دلالة على قوة الإيمان، ومظهر من مظاهر عبودية الرحمن، والتزام بسنة المصطفى العدنان -صلى الله عليه وسلم-.
بل إن في ذلك صلاح الفرد والمجتمع، ذلك أن اللفظ الجميل والكلام الحسن إذا شاع وانتشر بين الناس كان سبباً لتآلف القلوب، وسلامة الصدور، ووحدة الصف المسلم وقوته، وبه تحفظ الدماء والحقوق والأعراض.
والله -عز وجل- قد أمر بذلك فقال: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء:53].
وبيّن -سبحانه وتعالى- أن أساس العلاقات والتعارف والتعايش بين الناس قائم على تخير الكلمة الطيبة والكلام الحسن، فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة:83].
لقــد حــذر -صلى الله عليه وسلم- من خطورة اللسان وسوء الكلام، فعن معاذ -رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول اللّه، أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: "لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسَّرَهُ اللّهُ عليه: تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت".
ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال: ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) [السجدة:16].
ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده، وذروة سنامه؟" قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد".
ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: فأخذ بلسانه، قال: "كُفَّ عليك هذا". فقلت: يا نبي اللّه، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟" أخرجه أحمد والترمذي.
إنها حقيقة قررها القرآن الكريم في العديد من المواضع والآيات كي يكون الإنسان حسيبا على نفسه مراقبا للسانه، يقول الله -عز وجل-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].
وأخـــــبر الله -عز وجل- أن الملائكة تحصي على الناس أقوالهم وتكتبها، فقال -تعالى-: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80].
إنّ حفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان في قلب المسلم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" صححه الألباني في صحيح الترغيب.
بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا" حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "معنى "تكفّر اللسان"، أي:" تذل له وتخضع" .
عبـاد الله: إنه لمن العجب أن ترى كثيرا من الناس قد يسهل على أحدهم البعد عن أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه حفظ لسانه، فتراه في غيبة ونميمة وقيل وقال في أعراض الأحياء والأموات، لا يبالي بما يقول، ولا يتثبت مما يسمع، ولا يدرك ما ينقل من أخبار.
يقول صاحب الظلال في قوله تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15]، قال: هي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)، لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبرٍ ولا تروّ ولا فحصٍ ولا إمعان نظر، حتى لكأنَّ القولَ لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سـمع" رواه مسلم.
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن رجل شيئا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6]، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك؟! فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا.
إنَّ عظمة الإسلام لَتَتَجَلَّى في هذه التوجيهاتِ السامية، والآدابِ الرفيعة، التي حرصت على أن يكون المؤمنُ طاهرَ اللسانِ، حلو المنطق، عذب الكلمات، كريم الخصال.
اللهم إنا نسألك خير القول، وخير العمل، وخير الذكر، وخير الدعاء، برحمتك يا أرحم الراحمين.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطــبة الثانية:
عبـاد الله: إن المسلم لا يكفيه القيام بالعبادات والطاعات ليكون مسلماً بحق، أو أن يكون مقبولاً عند الله مستحقاً لرحمته؛ فإلى جانب العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة لا بد للمسلم أن تكون أخلاقه حسنة لا ظلم فيها ولا بغي ولا تعديَ ولا إيذاء لأحد من الناس.
وإن من أكبر وسائل الإيذاء وطرقه وأساليبه والتي قد يقوم بها أي فرد تجاه إخوانه هو التعدي عليهم باللسان واليد، فالقاتل ليس هو وحده من يباشر القتل وسفك الدماء وإزهاق الأرواح؛ بل يشاركه بالجريمة من يتكلم ويأمر، ومَن يرضى ويوافق، ولو لم يكن في مسرح الجريمة.
والذي يأمر بالمنكر ويحث عليه فإنه يؤذي المسلمين بفعله وقوله، والذي ينشر الشائعات والأكاذيب ويحاول نشر القلاقل والفوضى وزعزعة السكينة والاستقرار والسلم الاجتماعي فإنه يكون ممن يؤذي المسلمين.
عن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تَدْرُونَ مَنْ الْمُسْلِمُ؟"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، قَالَ: "تَدْرُونَ مَنْ الْمُؤْمِنُ؟"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ" رواه أحمد، وهو حديث صحيح.
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: "مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده" رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: إن المسلم الواعي ليحمله عقله ويدفعه إيمانه إلى الاعتناء بحسن اللفظ، وجميل المنطق، حين يرى المقام يدعو إلى الكلام؛ وإلا آثر الصمت، ولزم الكف، طلبًا للسلامة من الإثم؛ عملا بتوجيه رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ" رواه البخاري ومسلم.
وعلينا التثبت مما نقول ونسمع، ولنحذر من التسرع في الكلام دون بصيرة، الأمر الذي قد يعود شرّه على المسلمين والبلاد والعباد، وليكن منطقنا وكلامنا يجمع ولا يفرق، ويقرب بين الناس ولا يباعد، ويبين الحق ولا يطمس الحقائق، ويحفظ الحقوق والدماء والأعراض.
اللهم إنا نسألك من القول أحسنه، ومن العمل أصوبه وأصدقه.
اللهم واغفر الزلات، وأقِل العثرات، وتجاوز عن الذنوب والمعاصي والسيئات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم