عناصر الخطبة
1/أهمية قصص القرآن وبعض فوائدها 2/قصة أصحاب القرية 3/بعض الفوائد والعبر المستفادة من قصة أصحاب القريةاقتباس
أيها المسلمون: إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال، هي مهمة الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتِهم وغرورِهم وكبريائِهم، وهبوط السفلة منهم، ولا بد أن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها الناس: لقد قص الله -جل وتعالى- علينا في كتابه العديد من القصص لنتعظ ونعتبر، فكتاب الله هو المنبع للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، ومن أعرض عن هذا الصراط فما هو بحي، ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت؛ كما قال جل وعز: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 122].
ألا وإن المرء المؤمن حينما يغشى معالم كتاب ربه بقلب غير مقفول لهو كمتعبد يغشى في مصلاه، ينهل من تلك القصص: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].
إن في آيات القصص وإطالة النظر في عواقب المثلات التي قد عفت، لفوائد جمة، فيرى المسلم، وهو يتأمل في كتاب ربه لعن اليهود ومسخهم، ويقرأ غرق فرعون ذي الأوتاد، وخسف قارون.
ويتأمل عذاب إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، فيعيش المرء مع القرآن، حتى كأنه في الآخرة، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].
أيها المسلمون: في سورة الأعراف قص الله -تعالى- علينا خبر أهل القرية التي كانت حاضرة البحر، حيث قال جل وتعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأعراف: 163 - 167].
أيها المسلمون: إن حاصل معنى هذه الآيات في سورة الأعراف، هو: أن اليهود المعارضين لرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لمِاَ أمروا به، ولذا أمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية: "أيلة" على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله، حيث إنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله سبحانه قد ابتلاهم في أمر الحيتان بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كانوا يوم السبت جاءتهم في الماء شُرّعا مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت بجملتها، ففتنهم ذلك، وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت، وكانت في الحفرة ألقوا فيها الحجارة، فمنعوها من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها، حتى كثر صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى: لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) [الأعراف: 164].
فلما لم يستجب العاصون، أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين، وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس -رضي الله عنهما- والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس -جعلني الله فداءك-؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع قوله: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ)[الأعراف: 166]؟ قال: "فسرّي عنه، وكساني حلةً".
عباد الله: في هذه الآيات دلالات وإشارات، ونصح وتوجيه لمن ألقى السمع وهو شهيد.
من ذلك: تعريف هذه الأمة بطبائع اليهود، من خبث ومكر، وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحِرْباء مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ)[المائدة: 60].
لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[الدخان: 30 - 32].
لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يُعرف من شمائلهم أنهم يقودون إلى تقوى، أو يُعرفون بمهادنة.
ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة، وهي: أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل جيل ما أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غيّر وبدل.
إن التاريخ صفحات متتابعة، يُطوى منها اليوم ما يطوى، ويُنشر منها غداً ما ينشر، وإن الله -جل شأنه- يختبر بالرفعة والوضاعة، بالزلزلة والتمكين، بالخوف والأمن، بالضحك والبكاء: (وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى* وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا)[النجم: 42 - 44].
كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتُخرس الألسن التي مُرنت الجدل، فإن ناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)[الأنعام: 23 - 24].
ولأجل ذا -يا عباد الله- جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.
من أهم العبر في آيات سورة الأعراف: أنه ينبغي على أهل العلم، وذوي الإصلاح: أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، ولا يمنع من التمادي على الوعظ بالأمر والنهي، والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قُبل أو لم يُقبل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبذلك يدفع الله البلايا عن البشر: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117].
ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، ولأجل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث"[رواه البخاري ومسلم].
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)[القصص: 59].
أيها المسلمون: إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال، والوباء القتّال، الذي به خراب المجتمعات وهلاكها، وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب، ونزول العذاب، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب"[رواه أبو داود وغيره].
وكتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- إلى بعض عماله: أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده، أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قُمع أهل الباطل واستُخفِيَ فيهم المحارم".
أيها المسلمون: إن عدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78 - 79].
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطراً، ولتقصرنّه على الحق قصراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنه" [رواه أبو داود والترمذي].
لقد لعن الله اليهود في كتابه لعناً يتلى على مر الأيام والسنين، وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
فاحذروا -عباد الله- سبيلهم الوخيم، وفعلهم الذميم، فإنه لا صلة بين العباد ورب العباد إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان، ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران.
يا من رضيتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً: أصيخوا سمعكم، وأصغوا قلوبكم؛ لقول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[رواه مسلم].
وانظروا وتساءلوا: أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا؟ أين إيماننا الصادق وخضوعنا التام لما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟.
"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" السلطان في سلطانه، والأمير في إمارته، والقائد في جيشه، والرجل في أهل بيته، وكل مسؤول فيما تحت ولايته، يقول عثمان -رضي الله عنه-: "إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن".
ويقول بعض السلف: "ما قيمة حق لا نفاذ له".
أيها الآباء: طهروا بيوتكم من جميع المنكرات، وليكن بيت النبوة -على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام- لكم في ذلك قدوة وأسوة، تنتهجون نهجه وتحذون حذوه، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر، وقد سَترت سَهوة من جدران فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هتكه، وتلوّن وجهه، وقال: "يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله -تعالى-"[متفق عليه].
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين".
رحماك ثم رحماك يا رب.
عباد الله: من عجز منكم عن الإنكار باليد والسلطان، فلينكر باللسان والبيان؛ فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله -تعالى- فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"[متفق عليه].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته: "ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه"[رواه الترمذي وأحمد].
وزاد: "فإنه لا يُقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق، أو يذكّر بعظيم".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحقر أحدكم نفسه" قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمراً لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله -عز وجل- له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله -جل وعلا-: فإياي كنت أحق أن تخشى"[رواه ابن ماجة].
أيها المسلمون: إن الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب، ويزيل خطر المعاصي في النفوس، فيواقع الناس حدود الله، وينتهكون أوامر الله، ويصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه"[رواه مسلم].
أيها المسلمون: لم يفتأ أعداء الدين من اليهود والنصارى، ومن سار في ركابهم من فسّاق الملة المستغربين والعلمانيين، يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل، لا يخفى مستواها، ولا يُجهل فحواها ومحتواها، غرضها زعزعة عقيدة الأمة، وتدمير أخلاقها، وطمس هويتها، وتغييبها عن رسالتها، فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات؟ هل أوصدوا دونها الأبواب؟ هل جاهدوها حق الجهاد؟ هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد؟.
لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله، وقلة التحفظ والتيقظ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة، وأسلموا مجتمعاتَهم للأمة الكافرة المعاندة، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "فمن؟"[رواه البخاري].
عباد الله: إن مما يبعث على الحرقة والأسى: أن يرى المسلم في مجتمعه، وأمام عينيه، صوراً ممرضة من المنكرات والمحرمات، فلا يجد لذلك في نفسه توجعاً، فأي ركن قد وهى؟ وأي نور للأمة قد ذهب واختفى؟
نعوذ بالله من اندراس معالم هذه الشعيرة، واستيلاء المداهنة على القلوب، وذهاب الغيرة الدينية.
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، يا خير أمة أخرجت للناس: أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله؟ أين الغضب؟ أين تمّعر الوجوه في انتهاك حدود الله؟
أيها المسلمون: تعاقدوا وتعاهدوا أن تنصروا شريعة الرحمن، وقوموا قومةً تُعلي راية الإيمان، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل استفحال الداء وإعواز الدواء.
واعلموا أن التواكل والتلاوم والتحسر والتضجر، دون عمل وجد واجتهاد، وأمر ونهي، ودعوة وإرشاد، لا يغير من الواقع شيئاً، بل هو داعية غمّ وهمّ وفتور وإحباط.
إننا لا نريد غيرةً لا تعدوا أن تكون مجرد معان نتمناها بأذهاننا، أو نحسها مجردة في مشاعرنا، إننا نريدها باعثاً قوياً وواقعاً عملياً وعملاً إيجابياً لخدمة دين الله، والانتصار لشرع الله، وفق القيود الشرعية، والضوابط المرعية.
أيها المسلمون: إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال، هي مهمة الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتِهم وغرورِهم وكبريائِهم، وهبوط السفلة منهم، ولا بد أن ينال القائمين بها شيء من الاعتداء والأذى.
إن للحق والخير والمعروف رجالاً ودعاةً وأنصارا يدعون إليه، ويرغبون فيه، ويأمرون به، ويصبرون عليه، ويتحملون في سبيل ذلك كل ما ينالهم ويصيبهم.
كما أن لهم في المقابل أعداءً، يكرهون الحق الذي معهم، ويقاومونه، ويدعون إلى الباطل، ويحسنون الشر، ويفعلونه.
ولكن شتان بين هؤلاء وأولئك، فالمؤمنون الصالحون الآمرون بالمعروف، وليهم الله، ومن يعاديهم من المنافقين وأذنابهم وليهم الشيطان: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)[البقرة: 257].
والنهاية مهما طال الطريق، وادلهم الليل، وكثرت العقبات، سيكون -بإذن الله- لأصحاب الحق، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، قال الله -تعالى-: (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[المائدة: 56].
بارك الله لي ولكم في القرآن ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
ومن دروس قصة أهل القرية: أن الشارع الحكيم جاء بسد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله ورسوله، وأن شيئاً من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله لا يجوز ألبتة، وهي وإن كانت تخفى على جملة من البشر، إلا أنها لا تخفى على رب البشر، إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فصلت: 40].
وأياً كانت هذه الحيل، في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو نحوها، لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين، لا سيما في البنوك والمصارف، أو في الهيئات والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية، أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا، فيُخدع ببهرجتها السذج، ويُغرُّ بها الذين ينشدون الكسب الحلال، فيوقعونهم في شرّ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتمع، وجمع المتفرق.
ومن ذلك: الحيل في إباحة المطلقة طلاقاً لا رجوع فيه، نتيجة شقاق ورعونة عقل، أعقبها ندم، ولات ساعة مندم.
أيها المسلمون: إن هذه الأمثلة المطروحة ما هي إلا شعبة في واد، وقطرة من بحر، القصد من ورائها تنبيه الغافلين، وإنذار المتغافلين، والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كدر في الصفو، وعطب في النية والمقصد، وهي وإن تقالّها ثلة من الناس، فإن هذا لا يهوّن من شأنها، فإن القليل بالقليل يكثر، وإن الصفاء بالقذى ليكدر.
اللهم علمنا ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم